الرجل الأكثر حظاً في بابل جورج كلاسون الحلقة 9 على رأس قافلته، كان «شارونادا» شاهبندر التجار في بابل، ممتطياً فرسه باعتزاز، كان يحب الملابس الأنيقة ويرتدي الثياب الفخمة والجذابة، كما كان يحب الحيوانات الممتازة ويمتطي بسهولة حصانه العربي المفعم بالحيوية، وإذا نظرت إليه، فسيكون من الصعب عليك أن تخمن سنوات عمره المتقدمة، كما لن يخامرك بالتأكيد شعور بأنه كان منهكاً من التفكير في أمر يقلقه. ولكم كانت الرحلة من دمشق طويلة، ولكم كانت مشاق الصحراء كثيرة، ولكن لم يكن هنا ما يشغل فكره، ولكم كانت القبائل العربية جبارة وتواقة لسلب القوافل المحملة بالنفائس الوافرة، ولكن لم يكن هذا أىضاً ما يقلقه، وذلك لأنه كان يعلم أن حراسه الكثيرين يمثلون حماية أمنه. ولكن ما كان يقلقه هو ذلك الشاب بجانبه، والذي كان قد أحضره من دمشق، كان هذا الشاب هو «هدان جولا»، حفيد «آراد جولا»، شريكه منذ عهد بعيد، والذي كان يشعر بأنه مدين له بدين من العرفان بالجميل لا يمكن رده أبداً، كان يود أن يفعل شيئاً لهذا الشاب، ولكن كلما فكر أكثر في هذا الأمر، بدا له أكثر صعوبة بسبب الشاب نفسه كان كلما حدق في الخواتم والأقراط التي يرتديها الشاب، قال لنفسه: «إنه يتوهم أن الجواهر من أجل الرجال، مع أنه لازال يملك ملامح جده القوية، ولكن جده لم يكن يرتدي مثل هذه الثياب المبهرجة، ومع ذلك فلقد طلبت منه أن يأتي معي أملاً في مساعدته للحصول على انطلاقة لنفسه، وليفر من الخراب الذي صنعه والده بميراثهم. ثم قطع هادان جولا أفكاره قائلاً: لماذا تعمل بكل هذا الكد الشديد وتسافر دائماً مع قوافلك في رحلاتها الطويلة؟ ألا تأخذ أبداً وقتاً للاستمتاع بالحياة؟ فابتسم شارونادا مكرراً عبارته: الاستمتاع بالحياة؟ ماذا كنت ستفعل لتستمتع بالحياة لو كنت شارونادا؟ لو كنت أمتلك ثروة تناهز ثروتك، لعشت مثل الملوك، ولم أكن قط لأنطلق عبر الصحراء الحارة، ولكنت أنفقت أموالي بنفس السرعة التي أتت بها إلى كيس نقودي، ولأرتديت أفخر الثياب وأندر الجواهر، فهذه هي الحياة التي تستميل رغباتي، ويا لها من حياة تستحق العيش بحق. وضحك كلا الرجلين. قال له شارونادا بسرعة وبدون تفكير: ولكن جدك لم يكن يرتدي الجواهر، ثم أردف بطريقة مرحة، ألا تستقطع وقتاً للعمل؟ فرد هادان جولا قائلاً: ما خلق العمل إلا للعبيد فقط. فعض شارونادا على شفتيه غيظاً ولم ينبت ببنت شفة، وظل ماشياً في صمت حتى قادهم الممر الذي يمشون فيه نحو المنحدر، وهنا كبح جماح حصانه، مشيراً إلى الوادي الأخضر البعيد قائلاً: انظر، ها هو الوادي، انظر بعيداً هناك في الأسفل، وسيمكنك أن ترى بصعوبة أسوار بابل وأبراجها الشاهقة، وإن كانت عيناك ثاقبتين فقد ترى أيضاً ذلك الدخان المتصاعد من تلك النار السرمدية المشتعلة على قمة تلك الأسوار. فعلق هادان جولا قائلاً: إذاً فهذه هي بابل؟ لقد اشتقت كثيراً لرؤية المدينة الأكثر ثراءً بين مدن العالم أجمع، بابل، تلك المدينة التي بدأ فيها جدي بناء ثروته، آه لو كان لا يزال حياً، لما كنا على هذا النحو المؤلم. لم «تتمنى ذلك؟» بإمكانك أنت ووالدك أن تواصلا على نحو جيد مسيرة عمله العريضة. للأسف الشديد، فكلانا لا يمتلك موهبته، فوالدي وأنا لا نعرف طريقته السرية في جلب العملات الذهبية. وهنا لم يرد شارونادا، بل أطلق العنان لحصانه وانطلق هابطاً من الممر نحو الوادي، وعقله مستغرق في التفكير، مخلفاً وراءه القافلة التي تسير وسط سحابة من الغبار الضارب للحمرة، وبعد مرور بعض الوقت، وصلوا إلى الطريق العام المؤدي إلى قصر الملك، ومن ثم اتجهوا جنوباً عبر الحقول. ولفت انتباه شارونادا ثلاثة رجال متقدمين في السن كانوا يحرثون الأرض، ولكم بدوا له مألوفين على نحو غريب، ويا للمفارقة! هل من المعقول أن يمر المرء عبر حقل بعد أربعين عاماً ويجد نفس الرجال يحرثونه؟ غير أن هناك شيئاً ما بداخله يحدثه بأنهم نفس الرجال، فأحدهم كان يمسك بالمحراث بقبضة غير واثقة، بينما كان الآخرون يمشون بتثاقل مجهد بجوار الثيران، يضربونها بعصيهم على نحو متكرر بلا جدوى، لتستمر في شد المحراث. منذ أربعين عاماَ مضت، كان يحسد هؤلاء الرجال! فكم تمنى بسعادة وطيب نفس أن يتبادل معهم الأماكن! ولكن يا له من فارق الآن! لقد نظر خلفه بفخر نحو قافلته الممتدة، حيث خيرة الإبل والحمير المحملة بكميات كبيرة من البضائع النفيسة الآتية من دمشق، وكان كل هذا مجرد جزء من ممتلكاته. ثم أشار نحو الرجال الذين يحرثون الأرض قائلاً: لازالوا يحرثون نفس الحقل الذي كانوا يحرثونه منذ أربعين عاماً. نعم: إنهم يحرثون الحقل.. ولكن لماذا تظن أنهم نفس الرجال؟ فرد شارونادا قائلاً: لقد رأيتهم هناك منذ زمن بعيد. وهنا تداعت الذكريات بسرعة متلاحقة في ذهنه، لِمَ لم يستطع أن يتناسى ماضيه ويحيا في حاضره؟ ثم رأى، كما لو كان ينظر إلى صورة مرسومة، وجه آراد جولا المبتسم، وهنا تلاشى العائق الذي كان يفصل بينه وبين ذلك الشاب المتشائم الكائن إلى جانبه. ولكن كيف يقدم المساعدة لمثل هذا الشاب رفيع المنزلة والذي يحمل أفكاراً لتبذير المال ويدين مرصعتين بالجواهر؟ فبالنسبة للعمل، يمكنه أن يقدم فرصاً وافرة منه للعمال الراغبين فيه، ولكنه لا يملك شيئاً يقدمه لأولئك الذين يرون أنهم ذوو منزلة رفيعة ولم يخلقوا للعمل. وهاهو الآن مدين لآراء جولا بالقيام بشيء ما، وليس بمحاولة تعوزها الحماسة، فلم يكن هو وآراد جولا يعتمدان على هذا الأسلوب، فهما لم يكونا قط من ذلك النوع من الرجال الذين تنقصهم الحماسة. وفي لحظة واحدة واتته فكرة ما، كانت هناك عقبات في سبيل تحقيقها، فهو لابد أن يضع في اعتباره عائلته ومكانته الاجتماعية، وقد يكون الأمر قاسياً، وقد يؤذي الجميع، ولكن لأنه كان من طراز الرجال الذين يتخذون قراراتهم بسرعة، فقد نحى العقبات جانباً وعزم على البدء في العمل.وعليه فقد سأله قائلاً: هل يهمك أن تستمع إلى الكيفية التي تشاركنا بها أنا وجدك الفاضل، تلك الشراكة التي ثبت أنها كانت مربحة جداً؟ فرد عليه الشاب متجاهلاً سؤاله: لم لا تخبرني فقط بالطريقة التي جعلتكم تحصلون على العملات الذهبية؟ فهذا هو كل ما أحتاج إلى معرفته. فأكمل شارونادا حديثه متجاهلاً إجابة الشاب: لقد بدأنا مع هؤلاء الرجال الذين يحرثون الأرض، حينها لم أكن أكبر منك سناً، فبينما اقترب ذلك الصف الذي كنت أسير فيه من الحقل، إذ سخر ميجدر ذلك المزارع العجوز الطيب، من الطريقة المتسمة بالإهمال واللامبالاة التي يقوم بها هؤلاء الرجال في حرث الأرض، كان ميجدو مقيداً بجواري عندما قال: انظروا إلى هؤلاء الرفاق الكسالي، فالشخص الذي يمسك المحراث لا يبذل أي مجهود يذكر لكي يحرث بعمق، كما لا يقوم سائقو الثيران بجعلهم يحافظون على مسارهم داخل الأخدود، فكيف يأملون إذاً أن يحصدوا محصولاً جيداً بهذا الحرث الرديء؟ فسأله هادان جولا والدهشة تملؤه قائلاً: هل قلت إن مجيدو كان مقيداً معك؟ نعم، بأطواق برونزية حول رقابنا، وسلسلة ثقيلة طويلة بيننا، كان بجواره زابادو، لص الغنم، وكنت قد تعرفت عليه في حارون، وفي نهاية الصف، كان هناك رجل كنا ندعوه «القرصان»، وذلك لأنه لم يفض لنا عن اسمه، ولكننا كونا رأياً عنه بأنه بحار بسبب وشم الأفاعي المضفرة المرسوم على صدره على طريقة البحارة، كنا نسير في صفوف كل منها مكون من أربعة أفراد. فسأله هادان متشككا فيما يقول: هل كنت مقيداً مثل العبيد؟ ألم يخبرك جدك بأني كنت عبداً في يوم ما؟ لقد كان يتحدث عنك كثيراً ولكنه لم يلمح قط إلى مثل هذا الأمر. لقد كان رجلاً يستطيع المرء أن يأتمنه على أعمق وأدق أسراره، وأنت أيضاً رجل يمكنني الوثوق به، ألست مصيباً في ذلك؟ ثم نظر إلى عينيه مباشرة. يمكنك أن تثق في ذلك كل الثقة، ولكنني مندهش بالفعل، فأخبرني إذاً كيف آل بك الأمر إلى أن تكون عبداً؟ فهز شارونادا كتفيه استهجاناً قائلاً: قد يجد أي إنسان نفسه عبداً، لقد كنت ضحية لأعمال أخي الطائشة، إذ قتل صديقاً له في مشاجرة شبت بينهما، وعليه فقد قام والدي بعمل متسم بتهور ناشئ عن اليأس، إذ رهنني عند أرملة هذا الصديق ليقي أخي من الوقوع والمحاكمة تحت طائلة القانون، ولكن عندما لم يتمكن والدي من جمع العملات الفضية اللازمة لتحريري، قامت تلك المرأة من غيضها ببيعي لتاجر رقيق. فرد هادان جولا مستهجناً الأمر قائلاً: يا له من خزي وظلم! ولكن أخبرني كيف استعدت حريتك بعد ذلك؟ سنصل إلى هذا في وقته، ولكن ليس الآن، فدعنا نكمل حكايتي، فبينما كنا نمر بجانب هؤلاء الرجال الذين كانوا يحرثون الأرض سخروا منا، إذ قام أحدهم برفع قبعته الممزقة وانحنى لأسفل صائحاً: مرحباً بكم في بابل يا ضيوف الملك، إنه ينتظركم هناك عند أسوار المدينة حيث المأدبة معدة من أجلكم وقد ضحكوا على هذا بطريقة صاخبة. فملأ الغضب فجأة وجه زميلنا القرصان على إثر ذلك وسبهم مراراً فسألته: ماذا كان يقصد هؤلاء الرجال بأن الملك ينتظرنا عند الأسوار؟ يقصد أنك ستسير نحو أسوار المدينة لتحمل القرميد حتى ينكسر ظهرك، وربما يجلدونك حتى الموت قبل أن ينكسر ظهرك، أما أنا فلن يجلدوني لأني سأقتلهم. ثم أدلى ميجدو بدلوه في النقاش قائلاً: لا أرى أي معني في التحدث عن رغبة الأسياد في قهر العبيد بالجلد والعمل الشاق حتى الموت، فالأسياد يحبون العبيد المخلصين في العمل ويعاملونهم بطريقة طيبة. فعلق زابادو قائلاً: ومن يريد أن يعمل بكد؟ إن هؤلاء الرجال الذين يحرثون الأرض لرفاق حكماء، فهم لا يعملون بكد حتى تنكسر ظهورهم، ولكنهم يعملون على قدر استطاعتهم بدون أن يرهقوا أنفسهم. فاعترض ميجدو قائلاً: لايمكن أن تحرز تقدماً بالتقاعس عن العمل فإذا حرثت هيكتاراً، يعتبر هذا عمل يوم جيد، وأي سيد يعلم هذا، ولكن عندما تحرث نصفه فقط، يعتبر هذا تقاعساً عن العمل، وأنا لا أتقاعس، فأنا أحب أن أعمل وأحب أن أؤدي عملاً جيداً، فالعمل هو أفضل صديق عرفته طوال حياتي، فلقد جلب لي كل الخيرات التي كنت أتنعم بها من مزرعة وأبقار ومحاصيل، وكل شيء آخر! فسخر منه زابادو قائلاً: حسنا، وأين هذه الأشياء الآن؟ إنني أعتقد أن الأفضل هو أن يكون المرء ذكياً ويجعل أيامه تمر بلا عمل، سوف تراني إذا ما تم بيعنا للعمل عند الأسوار، وأنا أحمل قربة ماء أو أؤدي بعض الأعمال البسيطة في حين أنك يا من تحب العمل، سينكسر ظهرك من حمل القرميد، ثم ضحك ضحكته السخيفة. استحوذ الذعر عليّ على طوال تلك الليلة، فلم استطع النوم، فتقدمت مزاحماً للاقتراب من الحراس، وعندما نام الآخرون، قمت بلفت انتباه «جودوسو» والذي كان يقوم بنوبة الحراسة الأولى. كان واحداً من قطاع الطرق العرب، وكان من ذلك النوع الوغد من الرجال، والذي إذا سرق منك كيس نقودك، فستظن بأنه لابد أن يقطع رقبتك أىضاَ. فهمست إليه قائلاً: أخبرني يا جودوسو، هل سيتم بيعنا للعمل في أسوار بابل عندما نصل إليها؟ فسألني بحذر قائلاً: لم تود أن تعرف؟ فأجبته قائلاً: ألا تفهم؟ إنني لازلت شاباً، وأريد أن أعيش، لا أريد أن أعمل أو أجلد حتى الموت على الأسوار، فهل من فرصة متاحة ليشتريني سيد طيب؟ فهمس إلىّ قائلاً: سأخبرك بشيء، فأنت شخص طيب، ولم تسبب لي أي متاعب، إننا نذهب في أغلب الأوقات إلى سوق العبيد أولاً، فاستمع جيداً إلى ما سأقوله لك الآن، عندما يأتي المشترون، قل إنك عامل جيد تحب العمل بكد عند سيد فاضل، أجعلهم يرغبوا في شرائك لأنك إن لم تجعلهم يشترونك، فستضطر في اليوم التالي إلى حمل القرميد، ويا له من عمل شاق جداً. وبعد أن مشى بعيداً، رقدت على الرمال الدافئة، ناظراً لأعلى نحو النجوم ومفكراً في العمل، ما قاله ميجدو من أن العمل هو أفضل صديق له، جعلني أتساءل عن إمكانية أن يصبح الأمر كذلك بالنسبة لي، فمما لاشك فيه أنه سيكون كذلك بالفعل، إذا ما ساعدني في التخلص من هذا المأزق. وعندما استيقظ ميجدو، همست إليه بأخباري السعيدة، لقد كان هذا الأمر هو بصيص الأمل الوحيد أمامنا ونحن في طريقنا إلى بابل، وفي عصر ذلك اليوم، وصلنا إلى الأسوار، ورأينا صفوفاً من الرجال أشبه بالنمل الأسود، وهم يصعدون ويهبطون الممرات المائلة العالية، وعندما جررنا مقتربين منهم، اندهشنا كثيراً عندما رأينا آلاف الرجال الذين كانوا يعملون، كان بعضهم يحفر في الخنادق المائية المحيطة بالسور، وكان آخرون يخلطون الرمل بالطين اللازم لصنع القرميد، ولكن العدد الأكبر كان يحمل القرميد في سلال ضخمة ويصعدون به على تلك المرات نحو هذا الصرح.