عيدروس الزبيدي يصدر قرارا عسكريا جديدا    الحوثيون يرتمون في محرقة طور الباحة ويخسرون رهانهم الميداني    خوسيلو يقلب الطاولة على ميونيخ ويقود الريال للقاء دورتموند    جريمة مروعة تهز مركز امتحاني في تعز: طالبتان تصابا برصاص مسلحين!    بعد وصوله اليوم بتأشيرة زيارة ... وافد يقتل والده داخل سكنه في مكة    العرادة يعرب عن أمله في أن تسفر الجهود الدولية بوقف الحرب الظالمة على غزة    فلكي يمني يحدد أول أيام شهر ذي القعدة 1445    "القضاء في لحج يُثبت صرامته: إعدام قاتلين عمداً"    سقوط نجم الجريمة في قبضة العدالة بمحافظة تعز!    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    الضالع تحت نيران الحوثيين: صرخة مدوية تطالب بوضع حدّ للعدوان الحوثي    قناتي العربية والحدث تعلق أعمالها في مأرب بعد تهديد رئيس إصلاح مأرب بقتل مراسلها    "علي عبدالله صالح والزوكا شهيدان ماتا بشرف": دبلوماسي يمني يوجه رسالة ليحيى الراعي    أحذروهم في عدن!.. المعركة الخطيرة يقودها أيتام عفاش وطلائع الإخوان    اختيار المحامية اليمنية معين العبيدي ضمن موسوعة الشخصيات النسائية العربية الرائدة مميز    مطالبات بمحاكمة قتلة مواطن في نقطة أمنية شمالي لحج    انفجار مخزن أسلحة في #مأرب يودي بحياة رجل وفتاة..    دورتموند الألماني يتأهل لنهائي أبطال أوروبا على حساب باريس سان جرمان الفرنسي    اكتشاف مقبرة جماعية ثالثة في مستشفى الشفاء بغزة وانتشال جثامين 49 شهيدا    حقيقة ما يجري في المنطقة الحرة عدن اليوم    تراجع احتياطيات النقد الأجنبي بالصين في أبريل الماضي    فريق شبام (أ) يتوج ببطولة الفقيد أحمد السقاف 3×3 لكرة السلة لأندية وادي حضرموت    الولايات المتحدة تخصص 220 مليون دولار للتمويل الإنساني في اليمن مميز    الوزير البكري: قرار مجلس الوزراء بشأن المدينة الرياضية تأكيد على الاهتمام الحكومي بالرياضة    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    الاتحاد الدولي للصحفيين يدين محاولة اغتيال نقيب الصحفيين اليمنيين مميز    تستوردها المليشيات.. مبيدات إسرائيلية تفتك بأرواح اليمنيين    الاشتراكي اليمني يدين محاولة اغتيال أمين عام نقابة الصحفيين اليمنيين ويدعو لإجراء تحقيق شفاف مميز    قمة حاسمة بين ريال مدريد وبايرن ميونخ فى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    مورينيو: لقد أخطات برفض البرتغال مقابل البقاء في روما    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    عصابة معين لجان قهر الموظفين    الحكومة الشرعية توجه ضربة موجعة لقطاع الاتصالات الخاضع للحوثيين.. وأنباء عن انقطاع كابل الإنترنت في البحر الأحمر    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    تحديث جديد لأسعار صرف العملات الأجنبية في اليمن    رغم إصابته بالزهايمر.. الزعيم ''عادل إمام'' يعود إلى الواجهة بقوة ويظهر في السعودية    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    نيمار يساهم في اغاثة المتضررين من الفيضانات في البرازيل    قصة غريبة وعجيبة...باع محله الذي يساوي الملايين ب15 الف ريال لشراء سيارة للقيام بهذا الامر بقلب صنعاء    وداعاً صديقي المناضل محسن بن فريد    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    فرقاطة إيطالية تصد هجوماً للحوثيين وتسقط طائرة مسيرة في خليج عدن مميز    هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات مجهولة من سفر النضال الوطني
مذكرات أول رئيس تحرير ل «الجمهورية»
نشر في الجمهورية يوم 09 - 12 - 2007

سنوات حجة العجاف وانبلاج فجر الثورة من المدرسة الحربية
الحلقة 6
مسيرة نضال كتاب وثائقي سلط من خلاله الكاتب، والإعلامي محمد حمود الصرحي على صفحات مجهولة من سفر النضال الوطني في سبيل مقارعة البطش والجبروت ونيل الحرية وقيام الثورة والدفاع عن نظامها الجمهوري، لقد حرص المؤلف على تضمين الكتاب مشاهد واقعية للظلم والقهر والاضطهاد الذي عاشه شعبنا إبان الحكم الإمامي البائد وما تعرض له الأحرار قبل الثورة من المآسي والآلام وأبرز الكاتب دور الطلاب في مسيرة النضال الوطني من خلال الأحداث التي عاشها وسرد ذكرياته مع زملاء دربه السياسي.. إلى جانب رصد دقيق للحظات ما قبل انبلاج ثورة سبتمبر وما أعقبها من أحداث ودور الإعلام وإذاعة صنعاء وصحيفة الجمهورية على وجه الخصوص في حشد التأييد الشعبي لمناصرة الثورة وتشكيل لجان المقاومة للدفاع عنها حيث كلف الصرحي بعد الثورة يتحمل مسئولية الإعلام في تعز كما أصبح أول رئيس تحرير لصحيفة الجمهورية وفيما بعد تقلد الأستاذ محمد الصرحي العديد من المسئوليات في الحكومات المتعاقبة آخرها نائباً لوزير شئون الرئاسة ومجلس الشورى في حكومة المهندس عبدالله الكرشمي.
في الحلقة الماضية عشنا مع الكاتب في مذكراته أحزان السجن وما عاناه المشائخ من ظلم وقهر في سجون نافع وصنعاء ..
ميدان التحرير كان مسرحاً للثورة وكتبت عن ساعاتها الأولى
رحلتي إلى عدن
وللإحاطة ولو أنه رجوع إلى الوراء فقبل أن أسجن وقبل أن أسلك درب السياسة وعندما كنت طالباً في المدرسة كان قد مضى علي فيها خمس سنوات وكان كلما يأتي وقت الامتحان وهو في شهر شعبان نكمل الاختبار ويتأهب الكثير والكثير من الطلاب للسفر إلى أهلهم، وكانوا يكتبون في الجدران وفي جدار الجامع بالذات وفي الطواريد وفي الأبواب هذه العبارة بالفحم الأسود: "بلادك يالغريب بلادك"، وكان لهذه العبارة وقع النبل في قلبي لأنه لم يكن لي أهل في البلاد حيث كانت والدتي وأخي وأختي قد تركوا القرية ورحلوا إلى عدن طلباً للرزق والعيش الهادئ وهروباً من الظلم الذي لاقوه ممن حولهم من الأعداء الأقرباء، ولذلك قصة كبيرة سأحكيها في مقام آخر.
وتكررت هذه النغمة المكتوبة في كل سنة وبعد كل اختبار حتى إذا ما كانت السنة الخامسة إزداد همي وازداد هيجان أشواقي وفوران أحاسيسي، في هذه السنة لم أعد أقدر على مسك أعصابي وشدة افتقادي لأهلي في الغربة لذا فقد عزمت على الرحيل حتى عدن ولم يكن عندي من النقود سوى الثمانية ريالات "ماريا تريزا" التي كانوا يعطونا إياها في آخر كل سنة باسم "حق كسوة" أخذتها في جيبي وأخذت معي خمسة "أشفات" كدم في لحافي على ظهري وتوكلت على الله مشياً على الأقدام من صنعاء إلى قعطبة ومنها إلى الضالع ومن هناك حصلت على سيارة وركبتها بأجر زهيد إلى لحج ومن لحج نفس الشيء حتى عدن وفي عدن عاد إليَّ صوابي وبدأت أسائل نفسي: كيف ولماذا رميت بنفسي هكذا إلى بحر لا ساحل له وإلى مدينة لاصديق فيها ولامعروف؟! وأجهل كل شيء عمن جئت من أجلهم أين أبحث عنهم؟ ومن أسأل..؟! وهذه المدينة ذات الحركة التي لاتكل والنشاط التجاري الذي لايتوقف والناس الكثير الذين لايحصى عددهم، من أكلم منهم؟! أي باب أقرع؟ وأي شارع أسلك..؟! يا إلهي.. لقد كنت غبياً غاية الغباوة وكنت في تفكيري هذا شقياً نهاية الشقاوة لم يعد في جيبي سوى خمسة ريالات والمصير مجهول.. كيف.. وماذا أعمل..؟!
ولكن الله سبحانه وتعالى دائماً لايتخلى عن عباده وقد دعوته ب "يامن يجيب المضطر إذا دعاه أغثني وشق لي طريقاً في هذا البحر يبساً".
ومشيت أمامي وقطعت السوق الطويل إلى نهايته وفي اللحظة الحرجة جاء الفرج فقد وجدت أمامي الأخ محسن حلبوب وكان زميلاً لي في المدرسة لافي الشعبة وهنا انفرجت أساريري وتبدد حزني وأحتضنني واحتضنته وتبادلنا القبلات الحارة وجلسنا في مقهى صغير وبدأ الحديث يسألني وأسأله وبعد معرفته بحالي وسبب وصولي أنكر عليَّ ماسبق وأن أنكرته على نفسي قبيل ذلك ولكنه طمأنني واطمأنيت بوجوده وبعد الفراغ من تناول الشاي بدأنا السير إذا به يخبرني أن بعض اليمنيين من الشمال كما كان يسمى حينذاك بنوا لهم بيوتاً صغيرة في جبل العيدروس ولو ذهبنا إليه فلربما نجدهم.
وفعلاً ذهبنا حتى جبل العيدروس وكانت الشوارع فيه قليلة وضيقة والبيوت متزاحمة وبجانب بيتين أو ثلاثة وقفنا وسألنا بعض المارة وكان من عجيب الصدف ومن غرائب تدبير القدر أن بيت والدتي هو البيت الذي نقف بجانبه وأن أخي وهو في حوش هذا البيت قد سمعنا نسأل عنهم فهب خارجاً وإذا به يراني وأراه وتسمرت في مكاني من هول المفاجأة وأبتدرني بين أحضانه وأمطرني بالقبل وكذلك فعلت أنا.. واستمريت في البقاء هناك مع أمي وأخي وأختي مدة ثلاثة أسابيع وبما أن حالتهم كانت قاصرة وحياتهم المعيشية كانت غير ذات جدوى لذا فقد فكرت في العودة إلى صنعاء إلى المدرسة العلمية، وفعلاً ودعتهم وارتحلت عنهم ووصلت صنعاء واستمريت في المدرسة سنتين بعد ذلك لاقيت فيها الهول الذي سبق شرحه عندما مشيت في درب النضال الوطني، حتى انتهى بي المطاف إلى سجن نافع.
والدتي ومراجعة الإمام
وفي هذه المدة اشتاقت إليَّ والدتي كما هو شأن الأم ولاسيما وكانت أخباري قد انقطعت عنها وإن كانت في الأخير قد علمت من بعض الإخوة بأني أقاسي المر في سجن نافع وأنه قد مضى عليَّ فيه وقت طويل لذا فقد تجشمت مشاق السفر ووصلت إلى الحديدة، وعند الأخ الكبير القدر عبدالله مقبول الصيقل سكنت وحاولت عن طريقه وعن طريق بعض الإخوة مراجعة الإمام ولم يحظوا بفائدة.. وغادر الإمام الحديدة إلى السخنة وكان معه هناك في السخنة القاضي عبدالرحمن الإرياني وقد كتبت له رسالة ذكرته فيها حبسي وطول مدته ورجوته أن يعاون الوالدة.
لم يستقر الإمام في السخنة إنما ارتحل إلى تعز وارتحلت والدتي إلى تعز ونزلت في بيت القاضي عبدالرحمن رحمه الله وأهتم بأمرها وبدأ في المراجعة وإذا بالإمام ينتقل مرة أخرى إلى السخنة وقد بعثت ببرقية إلى الإمام جاء فيها: أسألك بالله إلا أطلقت ولدي فقد كان ولايزال صغيراً ولايعرف شيئاً وقد كذب عليه المغرضون والواشون ووقعتها بلفظة والدة الصرحي.
وقد أجاب عليها الإمام وقال في جوابه "من الإمام إلى والدة الصرحي هل قد عاد ولدك إلى حظيرة إخوانه المسلمين أم لايزال على غيه وبغيه وسنأمر بمحاكمته ولكنها ستكون شديدة عليه".
أرسلت إليَّ البرقية بنفس الطريقة التي كانت تصلني بها الرسائل ولكن بعد وقت متأخر وكانت والدتي قد حاولت أن تصرخ بأعلى صوتها حال خروج الإمام وصرخت فعلاً ولحظها كلف أحمد بن عباس بن علي إسحاق بأن يأخذ مراجعتها وفعلاً أخذها وفي اليوم التالي وعند خروج هذا الأخير وجد والدتي خارج باب القصر فقال لها: أنت أم الصرحي الذي قال إن "السادة مش هم من اليمن" ومزق المراجعة ورماها في وجهها.. وهنا انفجرت أمي باكية بكاءً مراً ودعت عليه دعوة مظلوم ودعوة المظلوم لاترد ولذا فقد شرده الله بعد الثورة ومات مغضوباً عليه من الشعب، ويعلم الله أني لم أقل هذه الكلمة ومن غير الطبيعي أن أقولها إنما هم الذين قالوها واختلقوها كما سبق وإن قالوا مثلها على أحرار ثورة 48 بأنهم زنادقة وفيهم من فيهم من العلماء مثل الشهيد السياسي العالم حسين الكبسي ومثل الثائر الجسور أحمد المطاع ومثل المناضل الصادق زيد الموشكي والمناضل الحكيم القاضي عبدالرحمن الإرياني وأمثال الشهداء الأبطال أحمد الحورش ومحي الدين العنسي وغيرهم كثير نقشت أسماؤهم في سجل التاريخ.
وأعدت نظري في البرقية التي وصلت إليَّ والتي كانت جواباً من الإمام على والدتي وخفت خوفاً شديداً وأخذني الذعر وذلك من جراء ماقد ينزل بوالدتي من أذى ما إذا وقع بي شيء ولكني فوضت أمري إلى الله وقلت في نفسي: كيف يريد أن يحاكمني بعد أن أمضيت في السجن خمس سنوات معنى هذا إنه لايزال غاضباً عليَّ وأن المغرضين لايزالون يؤججون النار في قلبه ضدي وأحسن ماوصلت إليه في تفكيري ألا أفعل أي شيء يُذكر الإمام بي أصلاً وأن أعود إلى الهدوء الذي لازمته فيما مضى من حبسي.
وحررت برقية إلى القاضي عبدالرحمن الإرياني ولم أعرضها على المدير لأني لا أريد أن يعلم أن القاضي عبدالرحمن يتعاطف معي أو يعمل من أجلي.. لذا فقد أخرجتها بالطريقة السرية المعروفة، ورجوته فيها رجاء حاراً أن يقنع والدتي بالرحيل والعودة من حيث أتت حتى لاتسبب لي مشاكل جديدة وتوقظ لي غفلة اللؤماء والجبناء والأنذال والنتيجة ستكون عليها شديدة وسينعكس ذلك عليَّ أنا أيضاً.
وعادت والدتي إلى عدن كأثر لنصيحة القاضي عبدالرحمن وأثر لبرقيتي واشتغلت بالتدريس وما التدريس وجعلته ديدني الوحيد وأقنعت نفسي بأنه لا أمل في إطلاقي ولاسيما وقد كان بعض الناس يراجعون المدير الحاشدي بفك بعض القيود عني وكان يجيبهم دائماً: هذا السجين لا تراجعوني فيه فالإمام غاضب عليه غضباً شديداً.
وازدادت ثقة السجناء بي حتى أن بعضهم كان يخرج «للشقاء» أي العمل في المدينة مع من يخرج من السجناء ومعهم العساكر يصاحبونهم في خروجهم وعودتهم بمقابل أجر يومي قدره "أربع بقش" وهي عشر صرف الريال "ماريا تريزا" عملة ذلك الوقت كانوا يجمعون هذا النزر اليسير والقدر البسيط عندي ويأمنون عليَّ في حفظه وكان بعضهم يأتي إليَّ ويطرح عليَّ بعض مشاكله مع نفسه ومع أهله راجياً أن أساعده في بعض الحلول والكثير من نزلاء السجن بدأوا يأتون إليَّ لأساعدهم على الخروج من الأمية والعجيب أن بعضهم وكان أمياً ولايعرف حرفاً واحداً من الحروف استطاع أن يخرج من أميته وجهله وأن يقرأ ويكتب.
العثماني ونقض الحكم
وعرفت في محيطي بأن لدي من المعلومات ماينفع ويفيد وكان أحد السجناء ويدعى محمد العثماني من بني مروان قد أتهم بالقتل فهب إلي ذات يوم وطرح عليٌ قضيته وأراد مني أن أفكر معه في المخرج وبينما أنا أتطلب الوقت الكافي لمساعدته إذا بالحكم عليه بالإعدام قد وصل من تعز موقعاً عليه من أعضاء الهيئة الشرعية «وللمحكوم عليه المراجعة» وإذا بالحبس يصيح ويعج ويئن ويحن إشفاقاً على هذا الرجل من النتيجة وتوجه بعض السجناء إلىَّ يرجون بإلحاح أن أعمل على نقض الحكم وتوجه البعض الآخر إلى مأمور الحبس/ ناصر علي جرامه يرجونه الحديث معي في الموضوع وبما أني قد ابتعدت كثيراً عن علم الفروع وبما أنه لم يسبق لي أن اشتغلت في القضاء والأحكام أو مارست العمل فيهما فقد تهيبت الأمر وحاولت أن أقنع الجميع بأن هذه القضية قضية قتل وأنه يحسن أن يعرضوها على طلاب العلم في مدرسة «حورة» في حجة والتي كان منهجها يشابه كثيراً منهج المدرسة العلمية بصنعاء فعندهم الكتب وهم قريبو عهد بما قرأوه ورجوتهم كثيراً أن يتقبلوا عذري ولكنهم لغزير الثقة بي أصروا عليًّ إصراراً شديداً ومعهم مأمور السجن وتحت هذا الإلحاح وعدتهم بأن أطلع على الحكم وأنظر فيما إذا كان بوسعي نقضه ولكن بشرط أن لايجعلوا ماأكتبه هو المعتمد وإنما يعرضونه على مشائخ العلم وطلابه في مدرسة «حورة» فإن رأوا فيه الصحة فبها ونعمت وإن مالم فلا لزوم للعمل به.
وطالعت الحكم عدة مرات واهتديت إلى نقطة ضعف فيه ومدخل لابأس به أطمأننت إليه ودعيت واحداً من الرهائن وأغلقت عليَّ باب غرفتي وهو معي واستمريت ألقي عليه ماقد حددته في فكري إلى أن أكملت.
وتسلم مني ناصر علي جرامه المكتوب وأرسل رأساً إلى تعز من دون أن يعملوا بما أشرت عليهم قبل ذلك. ولكن كان الله في العون فقد عاد الحكم منقوضاً وعلى الغريم أن يراجع وكان لهذا العمل صدى كبيراً وشهرة فائقة حتى لقد قال لي بعد ذلك أحد المقربين عند نائب حجة بأنه قال «هذا قد معانا عكارس ثاني في نافع..!!» ومحمد عكارس «1» كان رجلاً مشهوراً في مثل هذا النوع من الممارسات.
كيف أطلقت
جاءت السنة السابعة وبدأت فيها الأمراض تنتابني وتتوالى عليّ وكان أخطرها وأشدها ضيق النفس الذي عانيت منه الكثير وأشهد لقد كنت من شدة ضيق حالي أتمنى أن يزورني الموت وذكرني القاضي عبدالرحمن الإرياني فيمن ذكر. وفي لحظة لقاء مع الإمام قال: «يامولانا هذا الصرحي طال حبسه وقد شغلتنا والدته ولقد مضى عليه في السجن سبع سنوات وعفوكم فوق أي ذنب»
فقال له الإمام:(هذا كافر).
أجابه القاضي عبدالرحمن: «إذا كان قد كفر فعلاً فحكمه أن يستتاب».
وهنا حرر الإمام أمر الإطلاق إلى نائب حجة حدثني بهذا القاضي عبدالرحمن الإرياني رحمه الله بعد وصولي إليه لزيارته وشكره وكان النائب حينها حمود بن عبدالملك المتوكل النائب الأول الذي كان قائماً بأعمال أبيه ودعيت من غرفتي وفكت عني القيود وأخذت إلى هذا النائب.
وبعد اللقاء قال لي: إن الإمام أمر بإطلاقك بشرط أن تجدد إسلامك، وقلت له: كيف يكون ذلك؟! قال: بأن تشهد بأن لاإله إلا الله فأجبته: بأني أشهد أن لاإله إلا الله يومياً وأقول هذه الكلمة في كل صلاة وفي كل أذان وقد حضر هذا الموقف الأخ الشاب المناضل ناجي ماتع ولايزال حياً يرزق.
وأخلي سبيلي بعد ذلك ومشيت مع الأخ ناجي ماتع يصحبنا بعض الإخوة من الشباب المثقفين والواعين ومنهم يحيى حسن نصار وحسن علي حميد ومحمد قاسم المتوكل والأخ ناصر حفاشي ومنصور المقحفي وآخرون كانوا من غير الركب في هواه وفي حال تذكري وكتابة هذا اتصلت هاتفياً بالأخ ناجي ماتع وسألته عن ذكرياته في ذلك اليوم ولاسيما وقد مرت عليه ثمانية وثلاثون عاماً فأجابني أنني وأنا معهم في غمرة الفرح والحديث يجري ذو شجون من هناوهناك تكلمت فيما تكلمت وقلت: نحن بحاجة إلى ثورة تجتاح الأخضر واليابس وقال لي: أنه لحظني بعينيه وقال(ماكفاكش) السبع سنوات في حبس نافع؟!
وهمس بيدي يقصد بذلك أن في الحضور من يمكنه أن ينقل.. وأني عقبت على حديثي وقلت: إنه هدار في هدار...
الهروب من حجة بعد الإطلاق
واصلنا مشينا حتى منزل الأخ عبدالرحمن حميد، ودار الحديث بيننا في نواح شتى ورجوتهم ما إذا أمكن أن يطوفوا بي على حجة لأتعرف عليها فقد أمضيت فيها سبع سنوات ولا أعرف حتى شارعاً واحداً من شوارعها فرد عليّ
الأخ عبدالرحمن! أنه يحسن أن تسافر من حجة سريعاً لأن الإمام يرجع عن أمره في بعض الأوقات ماإذا وجد من يحرضه على الرجوع.. وخفت وفعلاً خرحت من البيت وودعتهم وودعوني ومشوا معي إلى رأس الطريق وتوجهت مسرعاً في طريقي إلى أن وصلت مدينة (الأمان) وهناك وجدت الشيخ يحيى بن حسن عواض وكان قد سبق له أن دخل سجن نافع لوقت قصير في مشاكل عادية وأنضم في تلك الفترة القصيرة إلى من كنت أدرسهم ليسمع وينتفع وها أنا الآن عنده وقد أضافني وأكرمني ورجاني أن أبقى لديه ولكني حدثته بما يخالجني من خوف وأنه يحسن ان أواصل السفر فأصر عليّ بالمبيت فبت عنده وعند الصباح ودعني إلى خارج المدينة وساعدني بمركوب وسرت تواً إلى أن وصلت مدينة «القناوص» وبت فيها وعاد المركوب وصاحبه أدراجه.
الوصول إلى الحديدة ويحيى عبدالقادر
واستمريت في السير حتى الحديدة وهناك قابلت الزعيم حين ذاك عبدالله السلال والأخ هاشم طالب رحمهما الله وكان البدر هناك في الحديدة وأنزلت «دار الضيافة» حتى يبت في شأني.
استمريت ثلاثة أيام في دار الضيافة وخير من قابلت وخير من لقيت وخير من شاهدت الأخ الطيب والمناضل المخلص عبدالله مقبول الصيقل وفي اليوم الرابع جاء إليّ الأخ عبدالله واخذني في نزهة إلى الميناء لا أعرفه فقد أنجز وأنا في السجن وبينما نحن نتجول فيه إذا بي أسمع أحد المارة يقول: النائب سيصل... سيزور الميناء.. فألتفت إلى الأخ عبدالله وقلت له: يحسن بنا أن نخرج من الميناء حتى لايرانا هذا النائب.. فرد الأخ عبدالله: لاتخف فأنه لايعرفك فقلت له: إنه يعرفني وإن لم يرني لقد سمع بي وسمع بي أمثاله ولاتظن بأنني مجهول عنده، فقال لي: أترك الوساس، فأجبته: على الأقل يجب أن نختفي وراء هذه المنجارة وإذا بالنائب يصل وإذا به يصل إلى وراء المنجارة بالذات وحيث نكون يعني ذلك أن هناك مخبراً نقل إليه أمرنا منذ خروجنا من بيت الأخ عبدالله إلى الميناء إلى وراء المنجارة، ابتدرنا هذا النائب وكان نائب الإمام في الحديدة حين ذاك يحيى عبدالقادر ابتدرنا بالحديث وقال:(مابتفعل هانا ياصرحي أنت والصيقل) فأجبته: بأننا لانفعل أي شيء وإنما نتفرج على الميناء.
أجاب وبلهجة قاسية: يجب أن ترحل من الحديدة... اطلع صنعاء، فقلت له: لماذا؟ ماعملت؟!
أجاب: لازم تطلع صنعاء، أو تشتي ترجع الحبس ثانية؟!
قلت له: لكن لماذا؟ وماذا عملت..؟! لقد وصلت الحديدة منذ خمسة أيام وماعساني أن أعمل في مثل هذه المدة القصيرة؟ وبالتالي من قال بأني سأفعل أي شيء.
رد عليّ بنزق: قلت لك اطلع صنعاء.. هذا أمر إلى مأمور دار الضيافة بخروجه من دار الضيافة ومنعه من البقاء فيها(شله) ياعسكري وهذا أمر إلى شركة الباصات وكانت حديثة عهد بتسهيل ركوبه إلى صنعاء.
حاولت أن أقاوم ولكن كان في الحضرة الأخ حمود الجائفي المناضل العظيم فتدخل في تهدئة الموقف وتلطيفه وقال: سيسافر يامولاي.. سيسافر الآن.. سيسافر ونظر إليّ كمن يريدني أن أسكت وقد كان مسئولاً عن الميناء.
وفعلاً أخرجت من دار الضيافة وبما أن البدر لم يكن موجوداً في الحديدة وهو الذي أمر ببقائي في دار الضيافة فقد صعب عليّ أن أحاول البقاء فيها مرة أخرى ولاسيما والزعيم السلال والأخ هاشم طالب كانا في صنعاء.
ومابقي إلا أن أسافر.. فسافرت فعلاً.. وصلت صنعاء واتصلت بالأخ السلال وأنزلوني دار الضيافة مرة أخرى (المتحف الحربي الآن) ومر عليّ يوم واحد وأفاجأ في اليوم الثاني وأنا خارج من باب الدار بيحيى عبدالقادر نفسه نتقابل وجهاً لوجه ونظرني بعين حمراء فيها شيء من الخبث الذي في نفسه، ووقف واستمر في وقفته بالباب واستمريت أنا وكانت لحظة حرجة بعدها تحرك داخلاً وتحركت خارجاً وأسندت رأسي إلى أحد اعمدة الدار لأفكر فيما عسى أن يكون قد جاء به؟! وفيما إذا كان يريد أن يعمل على عودتي إلى السجن مرة أخرى؟! وبدأت أفكر في الهروب إلى عدن مرة أخرى.
الفزع من لا شيء
وفي اليوم الثالث وبينما أنا أفكر بيحيى عبدالقادر وما يمكن أن يخلق لي من مشاكل.. إذا بي بالأخ عبدالله الصيقل يأتي إلي كالملدوغ من حنش وينبئني على عجل بأن هناك بعض حرس البدر يبحثون عنا أنا وهو..
واختفى من أمامي بسرعة الريح ولم استطع أن أتبين منه شيئاً لسرعة اختفائه فأخذت نفسي على عجل وجاوزت الدار وبينما أنا في بابه إذا بي أواجه الزعيم السلال بنفس الصورة التي واجهت بها يحيى عبدالقادر وجهاً لوجه ولكن في الشكل لا في المضمون مد يده يصافحني فأبعدت يدي وحاولت أن أفر.. فأمسك بي بشدة قائلاً: مالك.. مالك.. ماجرى عليك؟! اتكلم.. حاولت أن اجذب يدي من يده ولكنه مسكني مسكة قوية واستمر يناجيني وقلت له: اتركني.. اتركني لقد شبعت سجناً لقد دمر السجن شبابي وضيع أفكاري ومعلوماتي كما دمر صحتي وأنهك قواي ولم أعد قادراً على احتماله مرة أخرى.. اتركني.. اتركني..
فمسكني وازداد تمسكاً بي وقال لي بالحرف الواحد: ياأخي لماذا لا تخبرني بما حدث لك؟! إن نفعتك وإلا ماضريتك..
كانت لهجتي قد بردت قليلاً وقلت له: هناك من حرس البدر من يبحث عني أنا والأخ عبدالله الصيقل وكأنهم يريدون سجننا وأنا لا أطيق ذلك بعد الآن.
فرد بنبرة صادقة وأقسم بالله أن هذا الأمر غير صحيح لأنه رئيس الحرس والأوامر تأتي إليه وأنه سيأخذني إلى البدر ويتحقق من هذا الكلام وإذا وجد الأمر صحة فلابد وأن يخرجني بسيارته إلى خارج المدينة بمسافة ولو أدى ذلك ما أدى، لمست الصدق في حديثه.
فهدأت وصعدت إلى السيارة وفي المنعرج إلى دار البشائر حيث البدر وعند كشك التحرير القائم الآن خطرت لي فكرة: كيف أرضى بأن أساق إلى البدر، أفرض أن أمر الحبس صحيح فكيف أسوق نفسي إليه وهنا مسكت عجلة القيادة من السواق وصرخت فيه توقف وإلا فلابد وأن أرمي بنفسي إلى الشارع، كيف تسوقني إليه؟!
فعاد الزعيم السلال يكرر الحلف باليمين والطلاق أيضاً ويهدئني وأفلت عجلة القيادة.. وسارت السيارة ودخلنا بيت البدر وهناك أمسك سماعة الهاتف وكانت خطوط الهاتف محدودة وتكلم وإذا بالجانب الآخر: «الحرسي» وهذا ضابط جاء مع من فروا من لحج وتقرب من البدر والتصق به كثيراً إذا به يرد على الزعيم السلال قائلاً: الزعيم عبدالله أجابه: نعم قال: ماذا تريدون..؟! قال: مولانا.. قال: هو في الحمام.. انتظروا قليلاً..
وتكلم البدر بعد ذلك مع السلال فأطلعه على الموضوع وقال له: وجدت الأخ محمد الصرحي وعبدالله الصيقل وهم في ذعر شديد لا أدري من أخبرهم بأنه قد صدر أمر منكم بإلقاء القبض عليهم وأن الجنود تبحث عنهم؟!
وأنا بصفتي رئيس الحرس طمأنتهم وقلت لهم: أن الأوامر تصدر إليّ وأن ليس هذا بصحيح فأجابه البدر: هذا غير صحيح وطمأنهم ولم يصدر منا أي شيء حول هذا.. وكان الزعيم السلال يقرب السماعة مني لأسمع مايقوله البدر بنفسي ثم أنهى المكالمة وعدت أنا وهو إلى السيارة وتذكرنا أمر الأخ عبدالله الصيقل وأين يمكن ان يكون قد راح فتكلفت بأن أبحث عنه لأن الأخ الزعيم كان رحمه الله قد دعانا لتناول الغداء في بيته ولكني لم أجد الأخ عبدالله وعدت لدار الضيافة. وكان سبب الحادثة كلها الأخ محمد عبدالواسع نعمان حيث كان في ذلك الوقت مدير أمن صنعاء ولاحظ فيما لاحظ أن يكون وجودي في صنعاء إلى جانب الأخ عبدالله الصيقل مبعث مشاكل وقلاقل فدبر هذا المخرج له وقد حدثني بهذا الأخ عبدالله الصيقل بعد أن التقينا.
الابتعاد عن دار الضيافة
وبما انه لم يعد بقدرتي الحصول من البدر على عمل أظهر بواسطته كواحد من الدولة التي تركن إليهم وتغضي طرفها عنهم باعتبار أنهم قد صاروا ممن يحتاجون إليها ويخافون أيضاً على مصيرهم فيها وبما أن الكوارث لا تزال تلاحقني من هنا وهناك حيث كنت في الحديدة وحيث صرت في صنعاء.. وحالتي صارت غير مستقرة والأمن في نفسي غير موجود والقلق يسيطر على كل تفكيري فقد قررت أن أخرج من نطاق «دار الضيافة» وأن أختفي عن الأنظار في مسكن بعيد بحيث لا ألتقي بأحد يعرفني إلا نادراً ومشيت في أكثر من شارع ولست محدداً الجهة التي أقصدها ولا أعرف المستقر ولا أمل عندي في أن أوفق لذلك ولكني مشيت واستمريت أمشي إلى أن وصلت حتى سوق الملح وهناك صادفت الأخ العزيز علي قايد الحجاجي .. وبعد تبادل التحية دعاني إلى غرفة يسكن فيها وهي صغيرة لا تتسع لأكثر من ثلاثة وجرى الحديث بيننا في مواضيع شتى وفي جوانب متعددة حتى وصلت معه إلى آخر أحوالي إلى اللحظة التي جمعتني به فرحب بي وأبدى استعداده لأن أعيش معه في هذه الغرفة الضيقة وارتحت لهذه الفكرة كثيراً وتنفست بها الصعداء ولو كانت غير ذات جدوى بالنسبة للحل النهائي ولكنها فكة .. من مكة أو كما يقولون.
واستقر بي المقام عنده لمدة سبعة أو ثمانية أيام بحثت فيها كثيراً عما يمكن أن أعمله حتى أحصل على قليل من النقود أتزود بها في طريقي إلى عدن وهي الفكرة التي كانت قد اختمرت في رأسي .. وبالصدفة أيضاً كما كانت مع الأخ علي الحجاجي وجدت أخاً كريماً ولمست فيه صدق مشاعره نحوي وقد اعترفت به للتو من دون ما سابق لقاء في الماضي ولذا فلم أتذكر اسمه أصلاً كشفت له حالي وطلبت منه اقراضي مبلغاً من المال ووعدني بذلك إلا أنه أنكر عليّ أمر السفر وقال : يجب أن نبقى في صنعاء وأن نواصل معاً مشوار العمل الوطني وأن الأمل كبير في قيام ثورة ووعد خيراً بالنسبة لما احتاجه من النقود.
لكني لم اره بعد ذلك وألفيته من حسابي إلا أنه كان صادقاً بالنسبة لما قاله عن قيام الثورة وللأسف لم ألتق به بعد ذلك.
انبلاج فجر الثورة:
ففي ليلة من الليالي وكان الليل في ثلثه الأخير والفجر يزحف بنوره على ظلامه سمعت طلقات نارية لعلها مدافع أو رشاشات فأطليت من النافذة بعد أن أيقظت الأخ علي الحجاجي وسمعت امرأة تمر من الشارع وبعد أن سألها أحد أهل البيوت من نافذته : ما هو هذا ..؟!
فأجابته: «هؤلاء البواقين» .. المدرسة الحربية .. «ذي بيأكلهم» الإمام وعلمهم وربّاهم انقلبوا عليه لكن لابد ما يلقوا جزاهم.
شعرت من وقته أن هناك ثورة وأنها قد قامت وأنه لابد لي أن أشارك فيها عملياً وانتظرنا حتى شعشع الصباح فخرجت وتوجهت نحو قصر السلاح فوجدت هناك مصفحة وفوقها مدفع رشاش ثم واصلت المشي نجو باب اليمن فوجدت باب رئيس الاستئناف يحيى بن محمد عباس وكان من أساطين العهد البائد مصفحة أيضاً ، وصلت إلى باب اليمن ووجدت الباب مفتوحاً وفي الجهة الغربية من نفس مصراع الباب فتحة واسعة كأنها نتيجة لقذيفة ولا تزال آثارها واضحة إلى اليوم.
أشرفت على نوافذ الكلية الحربية وكانت في شرق العرضي الموجود الآن واستمريت أشاهد بعض العربات وهي تحمل الجنود خارجه من نفس الكلية متوجهة إلى ميدان التحرير وبعض المصفحات تدخل إلى الكلية وبعضها تخرج من نفس الكلية وكلها تتوجه نجو «ميدان التحرير» وتوجهت بنفسي في هذا الطريق إلى أن وصلت «ميدان شرارة» ميدان الحرير الآن وفيه شاهدت ثلاث دبابات ، دبابة تحت الاستئناف الذي كان موجوداً وأزيل مقره بعد الثورة وقد أصبح الآن متنزهاً للناس وعمارة للبنك ومقراً للدبابة التي أطلقت القذيفة الأولى إلى قصر البشائر وصارت تسمى الآن بمارد الثورة.
والدبابة الثانية كانت رابضة في وسط الميدان والثالثة وأخرى معها كانتا بالقرب من باب قصر البشائر تتبادلان إطلاق النار مع من هم داخل القصر وقد أحرقت إحداهما وبداخلها الضابط العظيم محمد الشراعي والضابط العظيم عبدالرحمن المحبشي وقام بهذا العمل المدعو طميم أحد خدم البدر، وفي أثناء تجوال عيني في هذه الأحداث شاهدت ضربة الرصاص من داخل قصر دار الشكر وقد صار الآن جزءاً من المتحف الوطني على الدبابة الأولى وكان الضباط قد لاحظوا ذلك وبسرعة اختفوا داخل الدبابة وأداروا ماسورتها وضربوا القصر وأطاحوا بالركن الجنوبي الغربي من منظرته ولم يعد هناك شيء بعد ذلك وقد ذكرت هذه التفاصيل عن أحداث الثورة في أول مقال لي في العدد واحد لصحيفة «الجمهورية» التي كنت رئيس تحريرها والذي كان عنوانه «عشت ساعات الثورة الأولى ».
هامش
1 حيث كان يزاول المحاماة ويتمتع بقدرة في ذلك جعلته ذائع الصيت ومشهوراً على مدى واسع في حينه، ويدل ذلك على أن عنده خلفية فقهية واستيعاب فروعي، وهو من الأحرار الذين كوتهم السجون في حجة رحمه الله.
والدتي راجعت الإمام لإطلاق سراحي فرد عليها هل عاد ولدك إلى حظيرة المسلمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.