قادم من سلطنة عمان.. تطور خطير وصيد نوعي في قبضة الشرعية وإعلان رسمي بشأنه    تغاريد حرة.. هذا ما احاول ان أكون عليه.. الشكر لكم    أول فيديو من موقع سقوط طائرة الرئيس الإيراني ووصول فريق الإنقاذ "شاهد"    هادي هيج: الرئاسة أبلغت المبعوث الأممي أن زيارة قحطان قبل أي تفاوض    عاجل: هجوم صاروخي للحوثيين في خليج عدن وإعلان أمريكي بشأنه    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    شيخ الأزهر يعلق على فقدان الرئيس الإيراني    بن دغر يدعو للتحرك بشأن السياسي محمد قحطان.. وبن عديو: استمرار اختطافه جريمة بحق الوطن    الليغا .. سقوط البطل المتوج ريال مدريد في فخ التعادل وفوز برشلونة بثلاثية    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    قبيل مواجهة البحرين.. المنتخب الوطني يقيم معسكر خارجي في الدمام السعودية    الوزير الزعوري يتفقد سير العمل بمشروع إعادة تأهيل شوارع ومداخل مستشفى المعاقين ومركز العلاج الطبيعي عدن    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    مصدر برلماني: تقرير المبيدات لم يرتق إلى مستوى النقاشات التي دارت في مجلس النواب    عاجل: نجاة أمين مجلس شبوة المحلي ومقتل نجله وشخصان آخران (صور)    إنتر ميامي يتغلب على دي سي يونايتد ويحتفظ بالصدارة    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    قيادات الدولة تُعزي رئيس برلمانية الإصلاح النائب عبدالرزاق الهجري في وفاة والده    وفاة وإصابة عشرة أشخاص من أسرة واحدة بحادث مروري بمأرب    عدن.. وزير الصحة يفتتح ورشة عمل تحديد احتياجات المرافق الصحية    إعلامية الإصلاح تدعو للتفاعل مع حملة للمطالبة بإطلاق المناضل قحطان وجعلها أولوية    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الهجري في وفاة والده    مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ريبون حريضة يوقع بالمتصدر ويحقق فوز معنوي في كاس حضرموت    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    وكيل قطاع الرياضة يشهد مهرجان عدن الأول للغوص الحر بعدن    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    مصرع عدد من الحوثيين بنيران مسلحي القبائل خلال حملة أمنية في الجوف    من هو اليمني؟    الكشف عن حجم المبالغ التي نهبها الحوثيين من ارصدة مسئولين وتجار مناهضين للانقلاب    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات مجهولة من سفر النضال الوطني أحزان السجن وتخاريف أجنحة الإمام الخفية
مذكرات أول رئيس تحرير ل «الجمهورية»
نشر في الجمهورية يوم 08 - 12 - 2007

سجون نافع وصنعاء امتلأت بالمشائخ وجنود القناصة رقصوا للهربالحلقة 5
في هذه الحلقة يواصل المؤلف مذكّراته بعد خروجه من «سجن السعادة» ليدخل مرة أخرى سجن نافع مدرّساً.
مسيرة نضال كتاب وثائقي سلط من خلاله الكاتب، والإعلامي محمد حمود الصرحي على صفحات مجهولة من سفر النضال الوطني في سبيل مقارعة البطش والجبروت ونيل الحرية وقيام الثورة والدفاع عن نظامها الجمهوري، لقد حرص المؤلف على تضمين الكتاب مشاهد واقعية للظلم والقهر والاضطهاد الذي عاشه شعبنا إبان الحكم الإمامي البائد وما تعرض له الأحرار قبل الثورة من المآسي والآلام وأبرز الكاتب دور الطلاب في مسيرة النضال الوطني من خلال الأحداث التي عاشها وسرد ذكرياته مع زملاء دربه السياسي.. إلى جانب رصد دقيق للحظات ما قبل انبلاج ثورة سبتمبر وما أعقبها من أحداث ودور الإعلام وإذاعة صنعاء وصحيفة الجمهورية على وجه الخصوص في حشد التأييد الشعبي لمناصرة الثورة وتشكيل لجان المقاومة للدفاع عنها حيث كلف الصرحي بعد الثورة يتحمل مسئولية الإعلام في تعز كما أصبح أول رئيس تحرير لصحيفة الجمهورية وفيما بعد تقلد الأستاذ محمد الصرحي العديد من المسئوليات في الحكومات المتعاقبة آخرها نائباً لوزير شئون الرئاسة ومجلس الشورى في حكومة المهندس عبدالله الكرشمي.
فكرة دخولي إلى المستشفى بعد الحيرة الشديدة
وخطرت لي خاطرة ولم أكن ذا أمل فيها كبير ولكن كما يقولون: إذا كثرة الأفكار فعليك بأردئها، ولا أدري كيف استطاب صاحب المثل هذا الرأي؟!
فكرت في الذهاب إلى المستشفى لأحاول فيه عرض نفسي على الطبيب وقد ربما أنجح في الرقود فيه وهنا قد يعلم الإمام بأني مريض وقد يتركني لحالي وهذه الفكرة واهية، ولكن الغريق يتمسك ولو «بقشفري» أو كما يقولون وفعلاً عرضت نفسي على الطبيب وكان إيطالياً، وأذكر أن إحدى أذنيه كانت مقطوعة ولاأظنه طبيباً كما يلزم وقد جاء كما أعتقد إلى اليمن ليتدرب على أجسام الناس ويمكن إنه كان في بلاده صحياً أو ممرضاً إذ أنه بعد أن عاينني وقد شكوت له وجع بطني قال لي: فيك الدودة الزائدة، وأنا والله صحيح ومعافى، وبالأخص بطني فلم أشك منها أي ألم، قال هذا الكلام ورقدني وأعطاني مسهلاً وفي اليوم التالي أجرى لي العملية وقطع لي الدودة الزائدة، مطبّ ماشفته في حياتي.
ليلة الشؤم الثانية
وياليت هذه الفكرة قد أنجتني من المصير المحتوم، إذ أنه لم يمض على هذه العملية يوم واحد حتى جاء إلى المستشفى علي عبدالقادر، وكان شخصية يركن عليها الإمام ودخل غرفتي وكنت واحداً من عدة مرضى «فهنجم» بصوته وقال: أين الصرحي..؟! وكان قد جرى بيني وبين أولئك المرضى وئام طيب لمدة يومين فقط حيث أحبوني وأحببتهم وعندما سمعوه يسأل عني أجابوا عليه بأنه في جراحة وإن العملية لم يمض عليها سوى يوم واحد، وأجاب عليهم بنبرة قاسية: «هذه أوامر إمام» «بزوه» ياعسكر وأخذوني بسريري إلى فوق السيارة ومنها إلى السجن «الشريف» كما كانوا يسمونه ولحسن حظي البسيط أنزلوني في غرفة المدير «الجبرني» وقد التقيت به بعد مدة طويلة في العهد الجديد عهد الثورة والجمهورية وكان رجلاً طيباً ودارت البرقيات بعثتُ برقية لنائب الإمام في الحديدة/ محمد بن أحمد الباشا، ذكرت له فيها أن الجراحة ستتقيح وإني أرجو أن أُعاد إلى المستشفى حتى أشفى فأجابني: أسكت فلا تزال برقيات الإمام تتوالى: هل ألقينا القبض عليك، برقية أخرى بعد ذلك أرسلتها إلى الإمام قلت له فيها:-
إذا كنت مأكولاً فكن خير آكل
وإلا فادركني ولما أمزق
العملية فيها الدود والقيح يتفجر منها إذا لم تعالجني فأقتلني حتى لا أموت الموت البطيء وأنا مظلوم كما يعلم الله.
أجاب عليَّ بوقته وكان الجواب إلى نائب الحديدة: «عالجوه في السجن» برقية أخرى أرسلتها إلى نائب الحديدة أشكوه تقيح العملية، أجاب عليَّ: إن الإمام قد أجاب على برقيتك إليه بأن نعالجك في السجن، وفعلاً كُلف الأخ الصحي محمد الحيوتي بزيارتي وتفقد الجراحة وقد ألتقيت به بعد سنين من عهد الثورة والجمهورية، وقد استمر في عمله لمدة شهرين.
بعد مقابلتي للقاضي عبدالرحمن بيومين تذكرت بأنه لم يسألني عن حالتي المادية، ولكنه رحمه الله تذكر ذلك ولو أنه بعد فوات الأوان حيث كلف القاضي/ محمد الخالدي رحمه الله وكان من الأحرار الكبار بأن يسأل عني ويعطيني بعض النقود، واستمر القاضي الخالدي يبحث عني وعلم في نفس الوقت بأني قد أُخذت من المستشفى حتى السجن فما كان منه إلا أن ذهب إلى الأخ/ محمد عبدالكريم الصباحي رحمه الله وأعطاه جنيهاً واحداً من الذهب وكلفه بزيارتي أو العمل على إيصاله إليَّ بأية طريقة، وكم تمنيت لو حصلت عليه قبل إلقاء القبض عليَّ لكنت جاوزت البلاد وفوت الفرصة على الإمام.
ليلة الشؤم الثالثة
جبر جرح العملية بعد انتهاء الشهرين كما ذكرت وفي ليلة من ليالي الشؤم والنحس فوجئت بعبدالملك العمري وكان سكرتير الإمام الخاص يصل إلى غرفة المدير التي أنا فيها ويكلفني وبجانبه المدير بأن أعد نفسي للخروج والذهاب معهم ولم يكن معي شيء أحزمه أو آخذه معي فخرجت معهم فإذا بي بسيارة «ويلس» عسكرية أمريكية وعليها أربعة من الجنوب والسائق فأخذت مقعدي في وسطها وهم حوالي بسلاحهم والليل في أشد ظلمته، وبدأ الرحيل، إلى أين؟ إلى حجة وفي مدينة «الضحي» وهي مدينة في طريقنا إلى حجة تناولنا العشاء ومن غريب الأمر وعجائب القدر أن تمر الأيام وتقوم الثورة وأُعين نائباً لوزير التربية والتعليم ويتعين هذا السائق الذي ساقني إلى حبس نافع سائقاً لي في الوزارة ولم أتذكره لأنه ساقني إلى نافع ليلاً ولم أتبين وجه أحد ممن حولي وقد - والله - أحسنت إليه وأنا في الوزارة وساعدته مالياً ودرجة من غير أن أعلم حقيقته لكن تعاطفاً مع حالته لأنه كان قد تقدم به السن وكان أباً لأولاد صغار، وفي يومٍ من الأيام جلس أمامي وسألني: هل تذكرني؟ هل رأىتني مرة أن أكون سائقاً لك في الوزارة؟
قلت له: ياعم حسن وكان اسمه «حسن زيد» لا أذكر أني رأيتك قبل توظيفك عندي، فقال لي: أنا الذي سقتك بالسيارة الويلس إلى نافع.
وأحد الجنود الذين اصطحبوني في رحلة السجن جمعتني به الظروف أيضاً في حبس القلعة في عهد الثورة وبالصدفة، وقف أمامي ورأيت الدمع في عينيه فسألته: مايبكيك يارجل؟! فقال: «ياأخي أنا متهم بأني بعت بندقيتين من بنادق الحكومة وربما يحاكموني ومرتبي موقوف وعيالي ضائعون ولا أدري كيف سيكون بي» قلت له: اصبر ياأخي فالله مع الصابرين، واستمر يمشي في ساحة المسجد ويلاحظني ويكرر النظر إليَّ ويدقق بتمعن وإذا به يبدأني الحديث ويقول: يا أخي هل تذكرني؟! أو تذكر أنك قد رأيت وجهي فقلت: لا أذكرك أو أذكر أني قد ألتقيت بك في غير هذا المكان؟! فقال أنا فلان الرماح أحد الجنود الذين أصطحبناك إلى سجن نافع.
وفي مناسبة أخرى وفي عرس أقيم لأحد الجيران إذا بي بالجندي الآخر واسمه قاسم الهندوانة يقدم نفسه إليَّ: ويذكرني أنه كان أحد الجنود الذين أصطحبوني إلى هناك، فالقدر يجمع ثم يفرق ثم يجمع وهكذا وسبحان الذي بيده ذلك.
وفي مدينة الضحي التي سبق وأن ذكرت بأننا تناولنا شيئاً من الأكل فيها كنت قد لينت الجو بيني وبين هؤلاء الجنود فسمح لي أحدهم وهو رئيسهم وخفيةً أن أطلع على أمر تصدوري وإذا به يقول: نائب حجة: «يودع هذا السجن وحيداً ولايتصل به أحد وسيصلكم الحكم بشأنه»، وصلنا مدينة حجة بعد منتصف الليل وفي باب سجن نافع وقفت السيارة وأسرع أحد الجنود بأمر الحبس إلى عبدالملك المتوكل نائب الإمام في حجة، والذي كان منزله برأس جبل صغير يدعى «نعمان» وعاد من لديه بخبرهم بأن يودعوني سجن نافع، فُتح الباب وجاء مأمور السجن ناصر علي جرامة - ويعرفه الكثير من السجناء - أخذني إلى فوق المفك(1)، وأحضر لي مردودين وقيدين، ودقهما بمطرقته الغليظة التي كان لصوتها صدى سمعه جميع السجناء الأمر الذي جعلهم يخرجون من غرفهم أو يبدون من نوافذهم لرؤية هذا الواصل في هذه الساعة المتأخرة من الليل وكان بين السجناء سجين يدعى صالح داؤود من أرحب وكان أحد «عُكفة» الإمام المقربين منه ولكنه جفاه في آخر الأمر لأشياء غير ذات شأن، هذا السجين نادى على ناصر جرامة: ياعم ناصر ياعم ناصر.. من يكون هذا السجين؟ وكنت أنا صغيراً في واقع عمري ونحيفاً من جراء العملية والجوع والتشرد، فنظر إليَّ ناصر علي جرامة وأجاب على السجين: بأن هذا شاب «عاده» صغير ولاندري ماعمل، ثم عاد يسألني: ماعملت ماعملت؟! ماسويت..؟! فسكت ولم أجب، وفتحوا لي باب درج السجن الأسفل ومشيت في الظلام الدامس بمساعدة بعض المساجين والحديد يكاد أن يقطع سيقاني أوصلوني إلى «حر» مظلم مملوء بالأوساخ والرطوبات والجراثيم الكثيرة، وتركني العساكر وعادوا إلى أماكنهم خارج السجن بعد أن أقفلوا الباب وراءهم.
عطف المساجين
وهب المساجين بخطى خافتة لزيارتي وللاستفسار عن حالي ولمواساتي بما يمكن أن يقدموه لي وفعلاً هذا يساعدني «بخرق» للقيود وهذا يربطها وذاك يكنس بقعتي ويزيل منها الأوساخ، وهب آخر بكيس أنام فيه من القُمَّل والواقع أن هذا التعاطف كان له الأثر الكبير في نفسي وأنساني الكثير من الأفكار السوداء التي كانت تحلق في فكري وتجثم على قلبي ولو أن هذه «الخرق» وهذا الكيس كانت تحوي بداخلها الكثير من القمل الأمر الذي تمنيت معه على أحدهم وبعد أن أمضيت وقتاً لابأس به أن يزيلها عني وفعلاً.. أزالها.
وكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، أزلت «الخرق» لأن فيها قُمل وإذا بالغرفة التي أنا فيها مملوءة بالقُمَّل أيضاً وبصورة لاتحتمل بقيت في هذه الغرفة خمس ليالٍ ذقت فيها المر وبما أنه لم يكن هناك غرفة خاصة وفارغة، وبما أن الأخ عبدالملك الطيب الحر الأبي والذي قد أُنزل هذا السجن منذ وقت طويل في غرفة خاصة به فقد رأوا بقائي بجانبه إلى أن يُدبر أمري، وهو نفسه كان قد أراد ذلك ورغب به وكنت أنا أيضاً أكثر رغبة.
هدوئي ومرور سنة على حبسي
هدأت في السجن هدوءاً غير عاد ولم أعد أخرج من الغرفة إلا لقضاء الحاجة وأردت من وراء ذلك ألا يذكرني أو يتكلم عني أحد وأن أنسى تماماً من الواجهة وأحني رأسي للعاصفة كي تمر بسلام ولاسيما وأنا دائماً أتذكر تصدور الإمام والذي قال فيه أنه سيصدر الحكم بشأني، فخفت أن يكون ذلك نذير شؤم ومضت الأيام تباعاً حتى انتهى العام الأول الذي أُصبت فيه بإحباطات كثيرة وأزمات نفسية مريرة وقد وصل فيه إلى حجة الأخ عبدالوهاب العرشي وكان من الشباب المتنور وعلمت وصوله فأضاءت الدنيا في عيني ونشطت مشاعري واشرأبت مداركي وأحسست بالأنس ورغم أنه كان قريباً مني إلا أنه بعيد وبعيد جداً ولكني هكذا استبشرت ونتيجة لذلك قلت هذه الأبيات:
يا أخي ياخير من أهديه
من قلبي السلاما
وصديقي ورفيقي
وسناني والحساما
كم إلى كم مدة السجن
فقد أمضيت عاما
والسجين الحر لايلقى
على السجن ملاما
كم من الأحرار من قد
شرب الموت الزؤاما
وسقاه السجن من مر
الضنى جاماً فجاما
فإلى أن نتلاقى
طبت عزاً وهماما
وقد أرسلتها إليه وانتظرت الجواب ولو بلفظة سلام أو رأي أو مشورة أو أي خبر من الدنيا ولكنه بخل عليَّ ولم يرد أصلاً مع أن طريقة الرد كانت مؤمنة.
السنة الثانية وسوء الحال
وبعد سنتين بدأت نفسي تضيق وبدأت أشعر بسوء المصير وكان الحديد وثقله في رجلي يزيد حالتي من سيء إلى أسوأ والحالة المعيشية كانت محدودة وغير ذات جدوى، وانقطعت عن العالم من حولي وكأني قد فارقت الدنيا، أدى هذا إلى الضيق الشديد في نفسي وإلى الشعور بالتعاسة المُرة الأمر الذي جعلني أفكر في أن أبعث ببرقية مراجعة إلى الإمام وفعلاً حررتها وكانت هكذا:
«مولانا أمير المؤمنين/ أيدكم الله، سنتان بنافع على أكاذيب أين العدل؟ وكانت خالية من بهرج الرجاء والاسترحام.. وقد بعثتها بعد أن عُرضت على المدير وأنا يائس تماماً من أنه سيجيب عليها ولكني روحت بذلك عن نفسي، وأجاب الإمام بسرعة: وكان هذا جوابه «من الإمام إلى الصرحي.. ماهي الأكاذيب؟ وهل للاتحاد» وأستُدعيت من المدير وتسلمت منه هذا الجواب وبدأ يمطرني بأسئلة كثيرة.. مايعني جواب الإمام؟ وماذا يريد بالاتحاد فسر لي معنى جواب الإمام، وتعاميت عن تفسير أي شيء من ذلك وقلت له: البرقية أمامك وأنت عربي وأنا عربي ومافهمته أنت فهمته أنا فلم أفهم شيئاً أكثر مما فهمته أنت، وكان الإمام يعني بهذا أني عضو في الاتحاد اليمني بعدن أو أني عضو في الاتحاد القحطاني كما ذكر الوشاة وكان هذا المدير غليظ الطباع قاسي القلب ويدعى النقيب علي الحاشدي وقد أُعدم بعد قيام الثورة، وقد هددني بعد ذلك بأنني إذا لم أفصح عما يريد الإمام فلا بد وأن يزيدني قيوداً، وانصرفت من أمامه وأنا في حيرة إذ بينما كنت أريد الجواب النافع إذا بالحقيقة تعتكس بالجواب الضار، وتوقعت الشر لمدة أيام ولكنه لم يحدث بعد ذلك أي شيء من هذا المدير وحمدت الله.
بداية التفكير بالتدريس
كانت الحياة في السجن صعبة، كلها هموم وتوقعات وأحزان لم يُسمح لنا بأي كتاب أو قلم أو بياضة أو أي شيء من هذا القبيل، حتى يمكن أن نتسلى أو نتناسى بعض مانحن فيه واستمر ذلك لمدة أربع سنوات وبدأت بعد هذه المدة أعمل على الاتصال بالرهائن الموجودين في السجن فأعطيهم درساً في القرآن والتجويد وكان من بين هؤلاء الرهائن الشيخ/ حسين بن أحمد بن ناصر القردعي وأخيه الشيخ/ جار الله من رهائن قبيلة مراد ومن آل الشليف وآل أبو لحوم من قبيلة نهم ومنهم الشيخ عبدالرب بن سنان أبو لحوم ومن آل الشايف ومنهم النقيب محمد ناصر الشائف من برط وكثير غيرهم وكانت الرهائن تأخذ من أولاد مشائخ الضمان ذوي المراكز المهمة بين قبائلهم.
وشاهد الرّسم والمدير نفسه استفادة هؤلاء الرهائن بدراسة القرآن عندي فأرسلوا أولادهم للدراسة وسارت الدراسة سيراً جيداً وسُمع بها خارج السجن فحاول بعضهم أن يضم أولاده إلينا فُسمح للبعض ومُنع البعض وهنا وُجد البياض ووجدت الأقلام فبدأت أراسل من كنت أظن أن فيه بقية من صدق الزمالة خارج السجن في صنعاء وفي تعز وفي مدن أخرى كان يوجد لنا فيها بعض الإخوة.. ونظمت الأمر مع ابن هذا المدير حيث كنت قد ربيته تربية طيبة واستملته إليَّ حتى كان يسمعني في كل ما أوحي إليه وينفذ كل ماأطلبه منه من السجن إلى خارجه والعكس.
وكنت قد أشرت عليه بأن يُفصل له سروالاً فيه جيوب داخلية وفي يوم البريد يلبسه من تحت "الزنة" ويحمل الرسائل في هذه الجيوب إلى الرجل الوطني العظيم الذي كان دائماً محط أنظار الأحرار في رسائلهم وفي برقياتهم، الرجل الخدوم الطيب/ هادي قاطن وقد مات رحمه الله وكان موظفاً في بيت السلك كما كان يُدعى حين ذاك وأشرت أيضاً للإخوة الذين بدأت أراسلهم بأن تكون رسائلهم في ظرف داخل ظرف يعنونون الظرف الخارجي إلى الأخ العزيز عبدالرحمن حُميد وهذا الرجل كان أحد أعواننا في مدينة حجة ولن ننسى له فضل ذلك كمل كان يساعدنا أيضاً الأخ ناجي ماتع ويعنون الداخلي إليَّ، وفي يوم البريد الذي انتظر فيه عودة الرسائل يذهب هذا التلميذ من تلقاء نفسه كما علمته إلى الأخ عبدالرحمن حُميد كما لو كان قد دُرب على ذلك مدة طويلة.
وسارت الأمور هكذا وأصبحت أحسن حالاً من ذي قبل أخبار البلد تصلني تباعاً وأخبار القضية الوطنية تباعاً أيضاً وأسجل هنا أن أحسن صديق وأعظم رفيق وقف معي في هذه المحنة كما وقف مع غيري من الأحرار هو الأخ العزيز/ عبدالله مقبول الصيقل والأخ العزيز علي محسن الشرفي رحمه الله، فقد والله ساعداني بكل غالٍ ونفيس طيلة مدة الحبس وبكل أسى وأسف لم أستطع وإلى حال كتابة هذا أن أرد لهما ولو بعض الجميل.
العمل على شراء راديو وإدخالها
وأذكر فيما أذكر أني فكرت في يوم من الأيام في تدبير وإدخال راديو صغير ولم تكن الراديو قد تطورت بصغرها إلى ماوصلت إليه أخيراً، وإنما كانت أحسن منها قبل ذلك، وفعلاً طرحت الموضوع في رسالة إلى الأخ علي محسن الشرفي ولم يقصر ولم يتباطى أو يأخذه الوهن وإنما قام بشرائها وإرسالها في أسرع وقت وأخذتنا الرهبة من مسألة إدخالها لأن كل شيء ممنوع في الحبس وجاءتني فكرة أن ندخلها تحت آنية الأكل التي كان يصل بها ابن العطاب الأسرة التي تولت أمر إعداد أكلنا وتأخذ مقابل ذلك ماقرر لنا من نصف ريال في اليوم وضربة حب في الأسبوع وتحت هذه الآنية وُضعت الراديو وفوق الآنية أضيف قليل من العنب.
وحُظيت في السجن بسمعة جيدة وبدأت هذه السمعة من السنة الرابعة عندما كثر التلاميذ وعمت الفائدة أولاد الرّسم إضافة إلى ذلك أنني ماكنت أظهر أو أخرج إلى فوق المفك لذلك فقد أحترمت كثيراً من كل الرّسم، وكان للحبس باب داخلي وفيه نافذة يتناجي منها السجين مع زائره وعندما يكون عندي أية مهمة كنت أطل من هذه النافذة وأنادي على من ألحظه من الرسم فيجيبني بسرعة بل ويجيبني عمي ناصر علي مأمور الباب بنفسه ويفتح لي بيده وأخرج إلى فوق المفك وهناك يشير إليَّ بأن أجلس على دكته ويقول كما كنت أسمعه لبعض الرسم من حوله: هذا أشرف سجين وأهدأ سجين، عنده كرامة ولايسمح لنفسه بالإهانة.
يأخذنا الحديث معه قليلاً ويحدثني أن الإمام يطير بأجنحة خفية إلى حيث يريد وأن الدول كلها تحت إمارته وأنه يسمعنا وهو غائب وأشياء كثيرة كان يقولها تعطينا صورة لما كان الناس عليه من الغباوة والجهل والجمود الفكري المنقطع النظير وياويحك ماإذا حاولت أن تعاكسه في الحديث أو تناقشه في صحة مايقول سينقلب ضدك كالثعبان في الحال ولكني جاريته وسرت معه وكنت أصوب مايقوله حتى حظيت بثقته وجاء ابن العطاب بالغداء وقمت بسرعة وأخذت الزنبيل من يده وفتحته أمامه وأعطيته قبضة من العنب تفضل ياعم ناصر فأخذ العنب وانصرفت أنا بالزنبيل، وطبعاً هذا العمل كان يُتخذ عند إدخال كل مهمة حتى نتجنب التفتيش، لأن كل شيء كان يفتش وانتظرت الليل بشوق كبير لأفتح الراديو واستمع ليس أخبار البلد فقط إنما أخبار العالم وفتحتها على حد معلوم وأقفلت بابي وخرجت إلى الممر الذي يمر فيه السجناء وباب غرفتي مفتوح إليه أصغيت بسمعي فلم أسمع أي أثر للصوت وأبقيت الصوت عند ذلك الحد دائماً، وفي ليلة من الليالي سمعت من أخبار صنعاء أن الإمام في حمام "السخنة" فحررت برقية إلى القاضي عبدالرحمن الإرياني، وفي الصباح أرسلتها إلى هذا المدير ليوقعها، كان الوقت مبكراً فاستغرب المدير وتكلم مع نفسه أمام ابنه وقال: كيف عرف بوجود القاضي عبدالرحمن بالسخنة؟ من الذي أخبره؟! أظن أن عنده راديو، كان الولد ذكياً عاد إليَّ وأخبرني بما سمع وأضاف:إذا تريد يا أستاذ أن أخرجها فسأخرجها وفعلاً أخرجناها.
ومضت أيام ولم يحدث أي شيء فعملت على إرجاعها مرة أخرى بنفس الطريقة وكانت الغرفة التي أسكنها صغيرة، وأنا وحدي فيها بعد أن أطلق الأخ عبدالملك الطيب إلى حجة وفيها دكتان دكة للدافور وأواني الأكل و"تنكة الماء" ودكة أنام عليها وقطعة صغيرة يتناوب عليها التلاميذ وحظرت لي فكرة بأن أنخر في عقب دكة الأواني "والبرموس" بيتاً صغيراً يسع هذا الراديو وكنت أخبئها فيه بعد سماعي للأخبار وأرجع على بابها الحصيرة التي كانت تغطي قاعة الغرفة.
تفتيش السجن
وقام بعض السجناء بشراء صندوق من العنب أو صندوقين لا أتذكر وحاولوا أن يصنعوا خمراً في بعض غرف السجن المظلمة، ودل عليهم بعض منهم وماكان من مدير السجن إلا أن دخل إلى السجن للتفتيش عما نقل إليه، وبما أنه كان قد سبق له الشك في وجود راديو لدي فقد أوحى إلى بعض الرسم على أن يفتشني تفتيشاً دقيقاً وأخبره بما يريد، لاحظت هذا حقيقة وقرأته ظاهراً في وجهه عندما وصل إلى باب غرفتي وحوله الجنود وقال: الأستاذ/ الصرحي «مشّوه» في هذا الوادي ولكن سيقولون إننا لم نفتشه فتشه يافلان ولحظته وهو يشير له بعينه كمن يؤكد له ماقد ألزمه به وفعلاً دخل هذا الجندي وفتش غرفتي تفتيشاً دقيقاً حتى ملابسي فتشها حتى فراشي، حتى المصاحف التي كنت أدرس بها التلاميذ وكان الخوف يعتلج قلبي من أن يجد الراديو ولشدة فزعي حدثت الجندي بصوت فيه شيء من الغضب: سأترك لك هذه الغرفة فتشها كما تريد وجلست في دكة "الدافور" وفوق الراديو تماماً الأمر الذي لايمكنه أن يشك في أنني أخفي شيئاً، وبعد التفتيش الدقيق خرج وأخذ المدير بيده وانصرفا، وتنفست الصعداء.
القناصة وفكرة الهروب
ومن الحوادث التي وقعت وأنا في نافع أن الجنود القناصة الذين كان لهم ضلع في حوادث تعز وقتل القاضي/ أحمد بن محسن الجبري وأخيه/ القاضي علي بن محسن الجبري عندما كان الإمام غائباً في إيطاليا، هؤلاء الجنود ومعهم آخرون من السجناء فكروا في مسألة الهروب من الحبس فأتى بعضهم إليَّ لأراجع لهم المدير عن طريق ابنه الذي يدرس لديَّ بأن يسمح لهم في "الدق على التنك" والرقص حتى ينسوا بذلك بعض أحزانهم وآلامهم التي تهجم عليهم في الليل أكثر منها في النهار وحدثت هذا الولد وراجع أباه وسمح لهم بذلك وكان قصدهم أن يغطوا بهذا الصوت صوت عملهم في الحفر وإزالة بعض "الأحجار الصغار" "السلف" والتراب من حوالي الحجار الكبار وكانوا يفعلون ذلك ويضعون مايخرج من تراب تحت الحصيرة ويشتتونه، وبعد أيام من عملهم هذا أتى إليَّ في غرفتي رجلان منهم وأراداً أن يحدثاني حديثاً خاصاً لايسمع به أحد ولايعلم به أحد واستمعت لهما وإذا بهما يعرضان عليَّ مسألة الهرب معهم وأنهم في طريقهم إلى ذلك وكل شيء قد تم ولم يبق إلا تحديد الساعة، وأطلعوني على ماقد حصلوا عليه من استعداد لذلك وأنني بالنسبة لهم أخ عزيز ولن يريحهم أن يتركوني في السجن فطلبت منهم أن يعطوني فرصة للتفكير في الموضوع وبعد يومين اجتمعت بهم وعرضت عليهم فكرة أن يكون معنا الشيخ علي بن ناجي الشايف حيث كان مسجوناً مع الشوخي أحد مشائخ حاشد بسبب مشاركتهم والكثير من المشايخ بما فيهم حسين بن نصار الأحمر وابنه حميد في الحركة التي كانت والتي صار ضحيتها هو وأبوه حيث أعدم الولد في قاهرة حجة وأخرج نعشه ونحن نلاحظ ذلك من حبس نافع وقُتل أبوه بعده بأيام قليلة وذلك بتاريخ 10 ربيع الثاني 1380 هجرية الموافق 110/1960م وقد قام بقتلهما أحد المسجونين لدينا بنافع بتهمة القتل واسمه إبراهيم العاهمي وعاد هذا القاتل إلى السجن ولحافه مملوء بالدم، وبالرغم من أنه قد غسله إلا أنه لم يزل وكأن الله أراد أن يبُقي لوعة الندم في قلبه مصورة في لحافه، وقد حدثنا أنه لم يستطع أن يقضي على الشيخ حسين بسيفه الأمر الذي جعل الحاشدي مدير حبس نافع ويحيى العجَّا مركون الإمام الخاص بحجة يتممان عليه "بجنابيهما"، ذكرت للإخوة مسألة هروب هذا الرجل معنا لما فيه من شجاعة وإقدام والذي سينفعنا ما إذا حدث لنا حادث في الطريق فقالوا لي يا أستاذ محمد: هذا الرجل ممحون بولده المجنون عنده والذي هو مربوط في الغرفة التي يقيم فيها وكيف يمكن أن يفارقه؟! فقلت لهم: دعوني أحدثه وسنرى ماسيقول:
حدثت النقيب علي عن الهروب ووافق كل الموافقة ولكنه سألني كيف ستكون صفة الهروب؟! فقلت له: نخرج من ثقب الجدار الذي قد جُهز والذي لم يبق منه إلا إزالة الحجر الخارجي ويكون ذلك عند غفلة الحراس فقال لي: هذا هروب غير مشرف فقلت له: كيف تريدنا أن نهرب؟ فأجاب «منمباب» فقلت له: هذا لايُعقل إذ أن الجنود يتواجدون أكثر في الباب فقال: أتركوا لي مسألة امباب.. أنا الذي سأنتزع السلاح من أحد الجنود أو من التي تعلق على الجدران فوق المفك وأحميكم إلى آخر واحد، هذا هو الهروب المشرف، أما «منم خزق» «سعمبس» أي مثل القط فلا يمكن ولست معكم، وقد أرتبك هذا الرجل بالنسبة لاتجاهه الوطني فبينما كان هنا وبإيجابية ولاسيما في معركة حجة كان هناك وبإيجابية أيضاً ولاسيما في معركة الجبل الأسود.
وكنت أنا بالنسبة للإخوان قد وعدتهم بأن أكون معهم ولكن الفكرة فيما بعد فشلت لوجود الحاج محمد المحفدي والنصيري من جنود المدفعية الذين كانا محبوسين مع هؤلاء الجنود في غرفتهم ومتهمين ببيع أسلحة وحاولنا تغطيتها بكل جهد وقللنا من الأثر العكسي الذي كان سينال الجميع وفيه الضرب بالعصى وتحددت العقوبة بعد ذلك بقيد كل واحد قيد آخر فوق القيد الذي فوقه.
نأتي إلى حادث آخر كان قد وصل إلى حبس نافع عدد من مشائخ نهم من آل الشليف ومنهم الشيخ عبدالعزيز الشليف وآل مريط وآل الأعوج وبني معصار والجرادي وأبو حاتم والسدح وأذكر أن هؤلاء وصلوا مربوطين كل خمسة في سرة وعلى كل سرة قفل في عنق كل واحد وما أصعبه منظراً وما أشده وما أقساه فقد أوقفوهم بحوش السجن بين الشمس المحرقة طيلة يوم كامل وإذا أراد أحدهم أن يذهب إلى المرحاض فلابد أن يذهبوا جميعهم معه وأذكر أنني كنت قد حاولت أن أخرجهم من الأمية لأنهم كانوا غارقين فيها أكثرهم واستجابوا وتعلموا وخرج بعضهم منها وبعضهم تجاوزها إلى الإطلاع على أشياء أخرى وقد كانوا والهم يعتركهم ولاسيما في الليل يدعوني إلى مجالسهم لأستمع «لمهايدهم» ورزفاتهم التي كانوا يعرضون عليَّ أن أقترح مافيه قافية السطر أو الحرف الذي يكون آخر السطر وبالتالي سيكون آخر العجز ويبدأون الهيدة والرزف والعجيب أنهم قادرون على أن يستمروا في ذلك ولو إلى الصباح ويمكن أن تتكون بذلك قصيدة بأي حرف تريده موحدة الحرف في آخر السطر وآخر العجز وكنت قد عملت مع ابن المدير على أن يستأذن لهم من أبيه في فعل ذلك فوافق.
كما وصل إلى حبس نافع في تلك الفترة جماعة أخرى من المشائخ بينهم من آل الجرادي وبني معصار وآل الشليف من نهم وأحمد ثابت حرمل من حاشد والنقيب علي بن أحمد أبو غانم من أرحب والذي كان يتوقد نشاطاً ويتدفق حيوية وحماسة ويتفاعل بجد بالنسبة للعمل الوطني كما كان يتمتع بوعي وتفتح واطلاع وهو والد الدكتور النبيه فضل علي أحمد أبو غانم والشيخ علي بن علي الغادر من خولان والأخ علي بن اسماعيل الكستبان والأخ عبدالملك السمة من صنعاء والنقيب علي أحمد الشعبي من برط، وقد كرر المراجعة على هؤلاء الكثير من المشايخ وغيرهم وألحوا على الإمام في ذلك وعقروا العقائر فأطلقهم البدر إلى صنعاء وقبل خروجهم من الحبس عرضوا عليَّ بيتين من الشعر قالها: البداع الشيخ عبدالعزيز الشليف كما أخبرني:
ياحيود القاهرة فوق سعدان«2»
إسمعي ماقال هذا البكيلي
صار لي في الحبس عامان مهتان
لارجعت الحبس مانا قبيلي
وقالوا بأنهم «سيشلون» بها الزامل بمجرد خروجهم من باب حبس نافع ولكني نصحتهم بألا يفعلوا لأن ذلك ربما يكون سبباً في عودتهم إليه ومن الأحسن الترك وفعلاً تركوا، وغادروا حجة إلى صنعاء.
ولكن المغرضين شبوا النار عليهم من جديد عند الإمام فأمر بحبسهم في القلعة "صنعاء" وكان من جملة الدروس التي كنت قد أعطيتهم إياها عندما كانوا في الحبس درس الجغرافيا وقد كنت وصلت معهم في دراسة قارة أوروبا الطبيعية إلى مضيق "أترنتو" وصادف أن كتبت لهم رسالة إلى حبسهم في صنعاء أسألهم عن حالهم فأرسلها الرسول إليهم إلى الحبس بطريقته الخاصة وأجابوني عليها بنفس الطريقة وكان جوابهم هكذا: يا أستاذ محمد لانزال في مضيق "أترنتو" وهذا المضيق في بحر الأدرياتيكي شرق إيطاليا وأعجبني الرد المعرفي الذكي.
كما جاء إلى حبس نافع في هذه الفترة الشيخ/ عبدالله بن محمد القوسي والشيخ/ علي بن ناجي بن علي القوسي بتهمة التآمر على الإمام كما أخبراني بذلك فيما بعد، كما وصل أيضاً من صنعاء الضباط الذين كانوا يشتغلون في فوج البدر وحُبسوا بأمره في أبريل 1958م وهم عبدالكريم السكري، وعبدالله محمد اللقية، محمد عبدالله العلفي، يحيى النهمي، حميد سوار، عبدالرحمن الترزي، حسين الغفاري، عبدالله كباس وذلك بسبب تظاهرة داخل الفوج وقد أخذوا عني معلومات في العربية والبلاغة والتاريخ وكذا ملخص في الدين والجغرافيا وقد سبق أن كان الأخ عبدالله اللقية يدرس عندي إبان الزخم العلمي في المدرسة العلمية وقد أكمل لدي البلاغة الواضحة والنحو الواضح الثانوي وكافل بن لقمان في أصول الفقه والجوهر المكنون في علم البلاغة والواقع أني كنت أخصه بملاحظتي له.
كما وصل الأخ والزميل الأستاذ المناضل محمد عبدالله الفسيل للمرة الثالثة قبض عليه في وأرسل إلى نافع ولولا أنه فر منه لكان مصيره الموت.
هوامش
(1) هي حجرة يقيد الناس فوقها ويفك عليها أيضاً
(2) قصر الإمام في حجة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.