من بين بضع وعشرين حرفة تقليدية يمنية مازالت تقاوم الاندثار وتحافظ على ألقها مازال العقيق اليماني يتسيد الحرف من خلال اجتذابه لعشاق هذا الفن الذي يحول الأحجار الصماء إلى فصوص براقة تخطف الأبصار. إنها حرفة الحرف التقليدية اليمنية وربما أقدمها، حيث يذكر كتاب "التيجان في ملوك حمير" أن شداد بن عاد من قوم عاد قد "بنى قصره من حجارة الجزع"، ويذكر كذلك أن العقيق اليماني قد جاب الآفاق ووصل إلى أوروبا في وقت مبكر، حيث ذكر أرسطو في العديد من آثاره بأن أجود أنواع العقيق والجزع كانت تجلب من اليمن. وقد بلغ العقيق مكانة بارزة جعله من أهم مقتنيات ملوك اليمن، حيث يذكر أن الملك المظفر الصليحى عندما أصبح حاكماً لليمن أرسل إلى حلفائه الفاطميين هدايا كان من بينها سبعون سيفاً مقابضها من العقيق، واثنا عشر سكيناً نصبها عقيق، وخمسة أثواب وَشْيٍ وجام عقيق وفصوص عقيق. ويذكر الهمداني أن فن تشكيل واستخدام الجزع المُوشى والمُسيّر قد وصل ذروته فَعُملت منه القوارير والقحف ومقابض السيوف والصفائح وغيرها. من الجبل إلى الحانوت ينقسم العقيق اليمانى إلى خمسة أصناف بحسب اللون وهي الأحمر، والرُطَبِي، والأحمر للصفرة، والأزرق، والأبيض، والأسود.. وتتم عملية تصنيعه بعدة مراحل تبدأ من مرحلة البحث عن عروقه في الجبال، وتعد منطقة آنس القريبة من صنعاء أبرز أماكن استخراج خام العقيق، حيث تتوارث الكثير من الأسر في هذه المنطقة حرفة البحث عن عروق العقيق من خلال رحلة تبدأ كل صباح سعياً وراء العثور على مناجم جديدة لهذا الذهب الأحمر الذين يسعون إليه بدأب وهمة وبدون ملل أو انقطاع. ينتشرون على قمم الجبال بأزاميلهم وعدتهم البسيطة لينحتوا في الصخور التي يميزونها من ألوانها مدركين لمكامن العقيق والأماكن المحتملة لوجوده، وغالباً ما يتم الاستعانة بشكل كامل بخبرات الأجداد في هذه الحرفة، حيث يتم البحث عن الصخور المائلة إلى الاخضرار مع التنبه لوجود بعض الإشارات التي تؤكد وجود العقيق مثل الصدف واللمعات الصغيرة التي تصدر من العقيق وكل تلك الإشارات في حال تواجدها تعني أنه ينبغي أن يبدأ الحفر في الصخر وصولاً للطبقة الصخرية التي يختبئ فيه العقيق بشكل مستقيم قد يمتد طوله إلى حوالى 15 متراً بشكل أفقي يتجه غالباً جهة «القبلة»، وهو أحد أسرار العقيق التي لا يعرف لها سبب. المنقبون عن أحجار العقيق غالباً ما تنتهي مهمتهم بالحصول على أحجار العقيق الخام التي ينحتونها من بطون الجبال ليتم بعد ذلك بيعها للحرفيين الذين يقومون بعد ذلك بصقلها وتلميعها وتحويلها إلى فصوص للخواتم والقلائد.. ويعد سوق الملح بصنعاء القديمة من أكبر التجمعات الخاصة بالحرفيين في هذا المجال، حيث توارث الحرفيون هم أيضاً فن صياغة العقيق ومن ثم عرضه وبيعه بأشكال مختلفة. ويتم صياغة وشغل العقيق من خلال عدة مراحل تبدأ من خلال شراء خام العقيق الذي قال عنه البيروني أنه يظهر بأحجام كبيرة وأنه رأى عند أحد الكبار في اليمن قطعة واحدة يزيد وزنها عن عشرين رطلاً.. وتبدأ عملية صقل العقيق من خلال تجهيز خام العقيق لعملية الصقل وهي عملية تمر بعدة مراحل حيث تصفى المجموعة التى تم شراؤها من الشوائب ثم تُوضع في وعاء فخاري تغلق فوهته جيداً باستخدام عجينة من الطين لمنع دخول الهواء تماماً ويوضع الوعاء الفخاري داخل تنور حرارته خفيفة. وتكرر هذه العملية يومياً لمدة محددة يقدرها صاحب العمل بناء على خبرته في مقدار ما تحتاجه الصخور من حرارة وتتراوح المدة ما بين 815 يوماً، وكلما كانت الصخور أكبر احتاجت للبقاء داخل التنور لمدة أطول.. وبعد الانتهاء من هذه المرحلة التي تسمى "التقسية" يتم البدء بالمرحلة التالية التي يتم فيها وضع أحجار العقيق التي تم تقسيتها بشكل مرصوف ومتساوٍ فى إناء نحاسي أو خزفي "طِيْنِي" وتغطى بقدر معين من الرماد وتوضع فوق الرماد النار بحسب حجم الحجارة. ويتم بعد ذلك تشذيب أحجار العقيق باستخدام مطرقة صغيرة خاصة بالعقيق، حيث يتم تشكيل أحجار خام العقيق واستبعاد الأجزاء غير المرغوب فيها حسب الرؤية الفنية للحرفي نفسه الذي يقوم بعد ذلك بتركيب الأحجار التي تم تشكيلها في رأس خشبي مأخوذ من أحد أغصان شجر الأثل ويتم تثبيت الحجر المراد صقله لتبدأ بعد ذلك أهم مراحل شغل العقيق وهي عملية الصقل التي تستغرق جميع مراحلها حوالى ساعتين للفص الكبير وساعة للفص الصغير، وتبدأ عملية الصقل بما يسمى "التَّشْوِيْبُ" وهو تحديد الشكل المبدئي للفص أو الحجر بواسطة حكِه في حجرة خاصة تسمى "بالمُشَّوِبَة". بعد ذلك يتم إزالة الخدوش التي تحدث في الفص نتيجة عملية "التشويب" السابقة بواسطة حجر تسمى "المُقرِّبة" وهي تشبه "المشوبه" لكنها أكثر صلابة وتلي تلك العملية عملية "تَطْسِيَةْ" الفص وبداية تلميعه بواسطة حجر خاص يتم إحضاره من بعض مناطق اليمن كما هو الحال في كافة الأحجار التي تستخدم في العمليات السابقة. أما آخر عمليات التعامل مع أحجار العقيق فهي مرحلة حك فص العقيق في حجر طباشيرية أولاً من الخلف ثم من الأمام، وفي كل مرة يتم فك الفص عن العود باستخدام النار ونعيد تركيبه في الفص باستخدام الصمغ المذاب.. وقد طرأت العديد من التغييرات في الطريقة التقليدية السابقة لاستخراج وصياغة العقيق اليماني من خلال الاستعانة بالآلات الحديثة التي توفر الوقت والجهد والمال غير أنها لا تعطي ذات النتائج الجمالية التي تمنحها الطريقة التقليدية الأصيلة التي أوشكت على الاندثار. بعد الانتهاء من صياغة فصوص العقيق بشكلها البديع وبأنواعها وألوانها المختلفة يتم تزيين خواتم الفضة والحلي والقلائد بتلك الفصوص التي يتم عرضها في الحوانيت التقليدية الصغيرة المنتشرة في صنعاء القديمة والتي تتعدد أسعارها بحسب أصنافها التي يعد الرماني والأحمر من أجودها وأغلاها غير أن الفصوص النادرة من العقيق اليماني تباع بمبالغ مرتفعة جداً نظراً لما تحتويه من أسماء وأشكال نادرة وذات دلالة لفظ الجلالة "الله" و"محمد" وصور الكعبة والشجر والحيوانات. ويرجع سبب ارتفاع أثمان الكثير من فصوص العقيق لارتباطها بمعتقدات دينية، إضافة إلى مزاياها الجمالية ويعتبر من أشهر من تناول خواص العقيق اللونية وسر معالجة ألوانه بالحرارة هو الهمداني، حيث يقول في كتابه الجوهرتين: "وكذلك العقيق يكون أوله أدكن فإذا شوي بالنار والملة أظهرت صُفرته وحُمرته"، وهو أول من أثبت هذه الملاحظة حيث ثبت علمياً في عصرنا الحديث أن الكرنيليان الداكن اللون يتم معالجته بالحرارة، حيث تتأكسد مركبات الحديد فيه فتزهو ألوانه الحمراء وأن تسميته التي عرفت في القواميسAgate أو Onyx إنما يقصد بهما الجزع. وعن منافعه فيقول التيفاشي: "من تقلد بالأحمر منه شديد الحمرة سكتت عنه روعته عند الخصام، ومن تختّم بالأحمر المصفر الذي فيه خطوط بيض قطع عن حامله نزف الدم".. ويقول الأبشيهي من تختّم بالعقيق لم يزل في بركة.. ويقال إن العقيق الأحمر يقترن بالياقوت الأحمر مع الياقوت الأصفر، ضمن قائمة أحجار السعد لمن يؤمنون بذلك وإن أفضل وقت للتخوتم بهما هو شهر يوليو تموز.