بدا زيلعي أحمد حجر مسروراً بحصيلته من صيد الجراجيح «الصرود»، أكثر من مائة وخمسين طيراً جمعها فجر اليوم السابع من مايو من مصائده الثلاث التي تؤشر إلى باعه الطويل في صيد الجراجيح على مستوى مدينة اللحية.. زيعلي حجر واحد من عشرات من أبناء مدينة اللحية، التي تعد واحدة من أهم مدن البحر الأحمر، وأحد أشهر ثغوره البحرية عبر التاريخ، ممن اعتادوا في مثل هذا الوقت من السنة على الاحتفاء بطريقتهم الخاصة بطيور الصرود المهاجرة «الجراجيح». تمثل اللحية وكل من جزيرتي بكلان وتكفاش أحد أهم المواقع التي تتخذها طيور الصرود، محطة لها في طريق عودتها من أفريقيا إلى منطقة بحر قزوين والقارة الأوروبية، حيث تعشعش هناك وتتكاثر قبل أن تعاود الرحلة جنوباً في الشتاء القادم. وفي حين لا يعرف بالضبط الوقت الذي بدأ فيه تقليد صيد الجراجيح، وهو التقليد الذي يكاد ينتشر في كل منطقة ساحل البحر الأحمر والجزر الواقعة عليه في كل من اليمن والمملكة العربية السعودية فإن هذا التقليد كما يبدو لم يعد يستقطب على الساحل أعداداً كبيرة من الناس كما هو الحال بالنسبة لسكان الجزر، حيث تلقى آلاف طيور الصرود حتفها على أيدي هؤلاء السكان بالنظر إلى الأعداد الهائلة التي تهبط في هذه الجزر، وبسبب التنوع في مخرجات هذا التقليد، إذ لا يقتصر الأهالي على التلذذ بلحوم هذه الطيور، ولكنهم يقومون بتجميع شحوم هذه الطيور وتعبئتها في قوارير وبيعها في الأسواق. هجرة محفوفة بالمخاطر يوجد نحو أربعة أنواع من طيور الصرود وهي صغيرة الحجم، وتعرف بالطيور الجزارة لأنها تعتمد في غذائها على الحشرات، وتنفرد بطريقة خاصة في الاحتفاظ بغذائها، حيث تقوم في حال اكتفت من الغذاء بشك الحشرات في شوك الأشجار كاحتياط غذائي لليوم التالي. ويمثل الصرد أحمر الظهر المعروف محلياً بالأكحل إلى جانب الصرد الرمادي المعروف بيعقوبي أهم أنواع الصرود وأكبرها من حيث الحجم، وإلى جانب هذين النوعين يوجد أيضاً الصرد الأشهب أو كلابزي، والصرد الرمادي الصغير المعروف أيضاً بيعقوبي، والصرد المقنع المعروف بالأخرش. ويقدر الدكتور عمر الصغير الأمين العام للجمعية اليمنية لحماية الحياة الفطرية وممثل منظمة الطيور العالمية عدد الصرود التي تعبر البحر الأحمر في طريق عودتها للشمال بنحو مليوني طائر، لكنه عبّر عن مخاوفه من أن يؤدي استمرار سكان ساحل البحر الأحمر والجزر في صيد الصرود في تناقص أعداد هذه الطيور التي قال إنها تمثل عاملاً حيوياً في إحداث التوازن البيئي بسبب اعتمادها بصورة أساسية على الحشرات.. ويفسر نجاح السكان في جمع كميات كبيرة من شحوم هذه الطيور بأن هذه الأخيرة تقوم بتخزين كميات كبيرة من الشحوم في جسمها خلال تواجدها في أفريقيا موسمي الخريف والشتاء لتستعين بها في رحلة العودة ما يوفر للسكان هذه الكمية من الشحوم. وسائل متعددة للصيد ابتكر الأهالي على ساحل البحر الأحمر وسائل صيد متنوعة لما ينظرون إليه باعتباره هبة من السماء، حيث يحلو لهم تسمية هذه الطيور بالسلوى، وشهدت هذه الوسائل تطوراً مع الأيام، فطيور الصرود تعرف بأنها لا تحط إلاً على الشجر، وعبر السنين استفادت هذه الطيور من الشجيرات التي تنمو على ساحل تهامة وفي الجزر لتحط عليها وتحصل على غذائها من الحشرات. وهذا العامل بالذات هو الذي دفع بالأهالي إلى استغلال هذه الشجيرات وتحويلها إلى مكامن صيد بإضافة شباك في مقدمة هذه الشجيرات ليكون مصيدة الطيور وهي تحاول الهرب من ملاحقة الصيادين لها. ومع الأيام عوّض الإنسان الشجيرات بكمائن من صنعه، حيث يقوم الصيادون في اللحية بغرس فروع من أشجار الشورى على الرمال بحيث تبدو كشجرة كبيرة، ثم يقومون بوضع الشباك في مقدمة هذه الشجرة الصناعية لتكون مصيدة للطيور عندما تلوذ هرباً من الصيادين.. وبعض الصيادين ممن لا يمتلكون الوقت ولا المال لإنجاز مثل هذه المصائد الكبيرة يلجأون إلى عمل مصائد صغيرة أو استغلال الشجيرات الصغيرة لنصب مصائد تعرف بالصمص، وهو عبارة عن عصاتين مرتبطتين بحلقة معدنية في الأسفل وخيط مربوط بالطرف العلوي لإحدى هاتين العصاتين يمر أيضاً من خلال فتحة صغيرة في العصا الثانية. حيث يقوم الصياد بضم العصاتين إلى بعضهما ويثبت عصا صغيرة في الفتحة الذي يمر منها الخيط، ثم يصل الخيط بالعصا الصغيرة، وعندما يحط الطائر على العصا الصغيرة تسقط ويُشد الخيط ليمسك بالطائر. الحدأة.. إسناد فعّال من الطيور وخلال فترة صيد طيور الصرود التي تستمر خلال شهري أبريل ومايو ينحصر وقت الاصطياد بين الساعة الرابعة فجراً وحتى الساعة السادسة صباحاً، وهي الفترة التي تحط فيها الطيور على الأشجار والمصائد للراحة والغذاء قبل أن تستأنف رحلتها إلى الشمال.. لكن اصطياد هذه الطيور ليس بالأمر السهل، فبغير الحدأة التي تستطيع وحدها أن تبث الرعب في الطيور المهاجرة لن يستطيع الصيادون الظفر بطائر واحد، ولكي يضمن الصيادون إسناداً إيجابياً للحدأة التي تحلّق بكثرة في مثل هذا الموسم من كل عام، يلجأ الصيادون إلى جلب الحدأة إلى منطقة اصطياد الطيور من خلال قذف أحد الطيور الموتى باتجاهها بقصد إغرائها.. وتستمر هذه العملية حتى يضمن الصياد تحليق الحدأة فوق المصيدة، حينها تقوم الحدأة بتنفيذ هجوم على المصيدة التي تتواجد عليها أعداد من طيور الصرد المهاجرة ما يدفعها إلى الاختباء في ثنايا المصيدة، حينها يسرع الصيادون إلى ضرب المصيدة بالعصا فتهرب الطيور إلى الأمام، حيث تعلق بالشباك المنصوب أمام هذه المصيدة.. وفي هذه الأثناء يسرع الصيادون إلى الإمساك بالطيور ووضعها في إناء مصنوع من سعف النخيل يعرف ب«القرقر» والذي يتوفر بأحجام مختلفة بحوزة الصيادين.. ويحقق الأهالي عوائد مالية جراء بيع هذه الطيور «الجراجيح» في أسواق اللحية وفي غيرها من مناطق الساحل التهامي، حيث تلقى رواجاً لدى السكان، لكن هذه العوائد تظل متواضعة، حيث تتراوح أسعار هذه الطيور بحسب الأخ هيج يوسف بين 15 ريالاً لطائر الأخرش، و50 ريالاً لطائر اليعقوبي. لكن عواقب استمرار ظاهرة اصطياد طيور الصرود تزيد من حجم الخطورة التي تواجه هذه الأنواع من الطيور المهاجرة. جهد توعوي وتبذل الجمعية اليمنية لحماية الحياة الفطرية دوراً متميزاً للتوعية بمخاطر ظاهرة اصطياد الجراجيح «الصرود» على مستقبل هذه الطيور، وفي هذا السياق أقامت الجمعية في السادس من مايو الحالي محاضرة في إحدى مدارس مدينة اللحية حول الطيور المهاجرة، قدمها الدكتور عمر الصغير، وتخللها أيضاً عرض فيلم عن الطيور المهاجرة. المحاضرة استقطبت اهتمام الشباب والتلاميذ من أبناء مدينة اللحية، وهو ما يبعث الأمل في إمكانية أن يصبح طلاب المدارس والشباب سنداً مهماً للجهود المبذولة من أجل تخفيف مخاطر اصطياد الطيور المهاجرة على الساحل التهامي.