ينمو صرير الجدجد«1» في كل مكان ، يختلط بوميض النجوم المتدفق أزلا .. ما عدا ذلك لاشيء يطاردها بين أزقة القرية الحجرية وأقدامها تلهث بإيقاع مضطرب في طريقها إلى المقبرة المجاورة. لسان صخري يتدلى في فضاء قاحل ، إلا من قرية مهجورة ومقبرة مستطيلة !! أمي تعرف قبره الطري في الظلمة الحالكة ، وتعرف الطريق المرصوف بالحجارة السوداء. .. في تلك الليلة الشتوية والتي أتت بعد يوم العيد ، اشتاقت أمي إليه.. إلى محادثته ، لم تبال بتيارات الرياح الباردة ، شجرة المقبرة الوحيدة تهتز بعنف عند أطرافها ، وكانت تطير في الفضاء ، وقفت أمي وقد تناثرت شواهد القبور البيضاء في الهواء. خرج سكان القبور يسيرون في صمت عائدين نحو منازلهم.. نحو قريتهم المهجورة ، تدلت رؤوسهم خلف ظهورهم المبتسمة ، لم تشاهده بينهم ، كان ينظرها ، سارت حيث هو ، جثت على قبره تداعب ذرات تربته الباردة وهي تحدثه رافعة وجهها نحو السماء عن اشياء صغيرة بينهم.. حدثته عن العيد ، دون أن تنتظر منه إجابة كعادته يوم كانا معاً تابعت همسها: ها نحن وحدنا ، إني أشعر جوارك بالأمان ، هل أنت كذلك؟ إني اشتاق إليك دوماً وأنت ألا زلت تشتاق إليّ ؟ لمن تقول كلماتك الراقصة الرقيقة؟ أشتقت إليك كثيراً إلى ضحكتك وطريقة جلستك .. إلى ظلك الذي يسبقك داخل الدار.. حدثته كثيراً.. عن وحدتها.. وقسوة الإحساس ، بعد أن صمم على البقاء بعيداً عن القرية ، ثم امتد صمت لم يدم ، فقد مدت كفيها هامسة: هه لقد خضبت أصابعي كما كنت تحب.. ونقشت ساقي بالخضاب ، أمازلت تحب الخضاب ؟ لم تنتظر منه الإجابة ، أرخت جدائلها الطويلة واقتربت بصدرها تلامس ترابه وتابعت: هل تعجبك هذه الرائحة؟ إنها لعطرك الذي أهديتني إياه قبل أن ترحل ، إني احتفظ به ولا اتعطر إلا عند زيارتك ، لقد انتظرتك صباح اليوم ، اليوم عيد ! واشياؤك عندي.. هل احتفلت بعيداً عني؟ انتظرتك ولم تأت حتى غابت الشمس ، لم أبك فقد صنعت لك الكعك الذي تحبه.. لماذا لم تأت؟ جميع سكان المقبرة خرجوا الليلة إلا أنت..!!! متى تأتي؟ أريدك وحدك .. لقد زينت باب المنزل والنوافذ ، ونقلت أعشاش العصافير ، ووضعت أصص المشاقر في النافذة الشرقية..!! كانت تحدثه بصوتها الخفيض ، وقد ارتفعت أصوات سكان المقابر في أزقة القرية ، أصوات متناغمة لهياكل راقصة ، تنتقل من منزل مهجور إلى آخر ، مرددين في صوت شجي نشيد أمسيات العيد: «ألامسى بسم رحمن رحيم ألامسى والسعادة والنعيم ألامسى عمرك يابو الولد ألامسى والولد شيخ البلد ألامسى ودولي مسايتي ألامسى حسب ماهي عادتي ألامسى تحت ذا الدار الجديد ألامسى ذي مصاريعه حديد ألامسى ودولي ثمنه علس ألامسى تطحنه بنت الغلس ألامسى ودولي ثمنة شعير ألامسى نحسك الصعب الصغير ألامسى ودولي مسايتي ألامسى حسب ماهي عادتي ما أن يحصلوا على عيدينهم ، حتى يضج الجميع بصوت» واحد: كثر الله خيركم ،.. كثر الله خيركم.. إلا «يا لحوماه». منتقلون إلى منزل آخر ، يتقدمهم ثلاثة يحملون أكياساً كبيرة.. يضعون بداخلها ما يحصلون عليه من لحم ، وكعك ، وخبز ، وحلوى ، وزبيب. اقتربت أصواتهم وأمي قلقة.. فمازالت في بداية الحديث معه ، وهو يستمع كعادته. دبت الخيانة بين سكان المقبرة ، فهرب حاملوا الأكياس الثلاثة بحصيلتهم ، ارتفع الضجيج.. يلاحقهم بقية سكان المقبرة ، مهرولين إلى المقبرة.. عادوا مخلفين المنازل الصامتة. نهضت مرتبكة وقد تناثرت زهور حجرها ، وقطع الكعك ، تمضغها غصة قديمة ، عادت باتجاه القرية.. تاركة الطريق للعائدين .. تتحاشى الاصطدام بعظامهم منحدرين نحو قبورهم. عادت وحيدة إلى منزلها .. كل المنازل باردة أقفلت النوافذ ، ظلت الكلمات تتوارد بداخلها ، أحست برغبة الحديث إليه عن «...» وعن «....» ، استقامت على سجادتها.. رفعت يديها وهي تتمتم .. وجهت.. وجهي للذي فطر السموات والأرض.. نويت أصلي ركعتين لوجه الله تعالى إلى روح حبيبي هدية واصلة من دار الدنيا الفانية إلى دار النعيم الباقية ، الله اكبر. بحر الظلمة يتخلل كل شيء ، تاركاً سلسلة الجبال تلتحم في لون السماء الأسود ، لفت انتباهها منظر السماء المنبعج بضوء ينبض مع إيقاع قلبها! شهقت وهي تتأمله هامسة: إنها روحه تواسيني في وحدتي! كان نبض الضوء يتسع خلف الظلام المتراكم ، وفجأة ظهر نجم ذو لون أخضر ، اتجه هابطاً في رقصة دائرية ، ازداد ضؤوه حتى حجب بقية النجوم ، سكنت الصراصير! هجعت الرياح ، وصار لضوئه همساً رقيقاً ، ابتسمت وهو يقترب فوق سماء القرية ، ثم اقترب حتى التصق بنافذتها.. بدا لها مبتسماً ، مدت يدها لامس أطرافها!! تخلل روحها .. سافرت عبر ضيائه ، كان شعورها لذيذاً وهو يتخلل كل شيء ، يغشى كل شيء: عينيها.. قلبها.. عقلها ، تفتحت مسامها وهي تتابع حديثها له ، وهو يصغي صامتاً كعادته ، إلتهم قلبها ، أطراف عنقها .. شرايينها ، توهج كل شيء ، واختفى من خيالها مشهد الرصاص في وجهة ذات مساء على مرأى ومسمع الجميع ، نامت تلك الليلة في احضان الضوء تحلم بالجنة.