ازدادت هذه الأيام وتيرة الجدل بصورة غير مسبوقة عن غلاء الأسعار والاكتفاء الذاتي ومدى استعداد دول العالم الثالث لتأمين الأمن الغذائي والطرق والخيارات المطروحة لهذه الغاية.. يأتي ذلك تزامناً مع ارتفاع الأسعار الغذائية في الأسواق العالمية والذي يهدد في حال استمراره حياة 100 مليون شخص على وجه الأرض بحسب معلومات صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الغذائي.. الشارع اليمني كعادته كان ولايزال الحاضر الأبرز في مناقشة وتحليل مثل هذه القضية الهامة، حيث لم يبخل في إثراء جوانبها «ضرباً وطرحاً وجمعاً» وإذا افترضنا غياب المعايير العلمية لهذه الطروحات التي تبدأ ولا تنتهي إلا أن ما يعنينا أن هناك مشكلة يتداولها الشارع بشكل مستمر. النقاشات أفضت إلى استذكار جمعي عن الاكتفاء الغذائي الذي كان يتمتع به اليمن إلى وقت قريب بقطع النظر عن أي أبعاد أخرى، فالأرياف القريبة أو البعيدة من المدن كانت تمثل سلة غذائية بكل ما تعنيه الكلمة للحضر في عناصر غذائية مهمة وأساسية مثل: الدواجن البيض اللحوم الحبوب بأنواعها وأنواع من الفاكهة إلى جانب الحليب وأعواد الحطب التي كانت وقوداً لكل مطبخ قبل معرفة أنابيب الغاز لدرجة أن تقرير الأمم المتحدة عن البطالة والفقر في اليمن الصادر نهاية العام 2007م ألمح إلى ضرورة إنعاش الدور الاقتصادي الذي كانت تلعبه القرية وتحسين الظروف والاقتراب أكثر من غاية الاكتفاء الذاتي غذائياً. وفي اعتقاد الكثيرين فإن هذا الإنعاش هو «عين الصواب» المعول عليه إيجاد نقلة نوعية في هذا المجال، في حين تظل الدعوات والتوجهات الرامية لزراعة احتياج البلاد من مادة القمح مثلاً خارج اليمن مادة للاستهلاك الإعلامي وفي أحسن الأحوال محدودية التأثير ولا جدوى من المراهنة عليها. «الجمهورية» بدورها ناقشت هذه القضية الحساسة والهامة مع عدد من المواطنين والمهتمين أملاً في أن تحظى بدراسة واهتمام أعمق وأشمل من كافة الجهات الرسمية والشعبية.. اتبعونا: حتى العلماء يمتهنون الزراعة الحاج علي محمد برقع 72- عاماً: أيوه يا ولدي صحيح كان القبايل بيدهم الخير الكثير، حيث كانوا يتوافدون إلى مدينة ذمار في يوم الاربعاء من كل اسبوع إلى سوق الربوع وسوق العلف وكان أهل المدينة ينتظرونهم لشراء ما يحتاجون من الحبوب المختلفة ومن السمن والأبقار والعجول والغنم وحتى «اللبن» الحليب والذي كان يخصص جزء منه كهدايا للأصدقاء والمعاريف، وكانت طريقة الشراء إما نقداً أو مقايضة، حيث يتم استبدال بضاعة معينة تأتي من الريف مقابل مادة «الجاز» «الكيروسين» التي تستخدم في الإضاءة لأنه ما كان هناك كهرباء مثل ما هو حاصل الآن أو «البز» «القماش» أو غير ذلك، أما من ناحية شراء الحبوب «القمح» كما ذكرنا فقد كانت قليلة لأن معظم أهل ذمار كانوا يعملون في الزراعة ويعتمدون على ما تجود به أراضيهم الواسعة التي تحيط بالمدينة من كل جانب، وكان الكل يعمل في الأرض صغيراً وكبيراً حتى كبار علماء ذمار معظمهم كان يعمل في زراعة الأرض ومنهم العلامة المجتهد القاضي يحيى داديه، فبرغم أنه عالم إلا أنه لم يترفع عن الزراعة والحصاد، وهذه الأمور كانت سارية حتى في زمن الجمهورية وبعد قيام الثورة، أما الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله فقد جاءت الوظيفة والدفتر «الكراس» ومسخت الناس جميعاً حتى أبناء بيوت المزارعين «الرعية» الكبار، والنتيجة أننا ننتظر إلى ما تعطيه لنا أمريكا واليهود، وهذا عقاب من الله، وبعدين نصيح من غلاء البر والدقيق ونطوبر طوال اليوم في باب المؤسسة للحصول عليه، بينما أرض الخير التي أعطاك الله أصبحت صالبة «قاحلة» جدباء.. إذاً كفرنا بنعمة الله فسلط الله علينا الغلاء والمشاكل. لن نترك الأرض الحاج علي محمد البسمي - 75 عاماً مزارع: «إحنا» والحمد لله مازلنا نعمل في أرضنا ولن نتركها حتى نموت لأنها الخير ورأس المال والضمار، وهذا ليس كلامي وحدي، ولكن أمامك أهالي قرية خربة أفيق مديرية ميفعة عنس أكثرهم يعملون في الأرض ووادي الخربة أمامك فيه الكثير من التفاح البرقوق البلس العربي والتركي، كنا نصدرها إلى أسواق المدينة، ومدن أخرى في صنعاء وغيرها ومازلنا، وأقول لك مستحيل أن يترك المزارعون في قريتنا مزارعهم لأنها تدر عليهم الخير كله من الأموال فما استطاعوا بناء البيوت وشراء السيارات بمختلف أنواعها إلا من ظهر هذا الوادي، ولو حسبنا حجم عوائد بيع ثمار الوادي سنوياً فقد يصل إلى عشرين أو خمسة وعشرين مليون ريال، فهل من المعقول أن يترك هذا الخير ويذهب للوظيفة الحكومية التي تعطيه 30 ألف ريال ما تكفيش سيجارة وقات؟!. مع العلم أن كثيراً من المدرسين والموظفين من أبناء القرية إذا كانوا وقت العطلات فإنهم يستغلون هذه الإجازة في العمل في الأرض والذهاب إلى الأسواق وبيع بضاعتهم، وهكذا طبيعة الأرض من اعطاها أعطته وأكرمته، وبلادنا كلها أرض زراعية، ولكن من يعمل ويأخذ المفرس «المعول» ويشقي «يعمل» فيها، الأرض ما تغيرت، ولكن الناس هم من تغير، قال الله تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم، ونحمد الله أننا بعيدون عن زراعة آفة «القات» الذي ابتليت به معظم القرى في عنس وغيرها والذي خرب التربة لأن الوادي لحسن الحظ لا تصلح فيه زراعة القات رغم محاولات البعض زراعته في أطراف الوادي. أساليب قديمة يجب إنعاشها جمال علي الشرعي- موظف بمكتب التربية: نحن في المدينة إلى وقت قريب قبل عشر سنوات، خمس عشرة سنة تقريباً كانت أسرنا تسهم بطريقة تلقائية في سد بعض احتياجاتها الغذائية كأساليب توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل، حيث كنا نهتم بتربية الدجاج البلدي بغرض تأمين احتياجنا من البيض، وأيضاً تربية المواشي التي لم تبخل علينا بالسمن والحليب واللحم، كذلك في حوش المنزل يتم زرع الطماطم والبصل وهذا أسلوب حضاري يدل على وعي كامل، وهذه الأساليب تتبع ونسمع عنها في معظم الدول المتحضرة والتي تتمتع بمجتمع حي لا يمكن أن يرضخ أو يشل قدراته ويتوسل على أبواب الدول العظمى التي جعلتنا أذلة لأنهم يتحكمون في قوتنا. لكن للأسف الشديد رحل الكبار من الأرض واختفت هذه الأشياء الجميلة فجأة من حياتنا، وأنا أطالب هنا أن نعيد نحن بأنفسنا هذه الطرق لتأمين بعض احتياجاتنا الغذائية الهامة وأن لا نظل ننتظر من يقوم بانتشالنا من هذا الوضع المزري من الخارج أو نعول على الخطط والدراسات التي توضع من هذه الوزارة أو تلك التي نسمع عنها في وسائل الإعلام لكن مصيرها أن تختفي فجأة، وصدق المثل: «من ركن على سبغ جاره أكلها يابسة». الزراعة سر الحضارة خالد محمد الصباحي - مثقف: تاريخنا العريق الذي نفاخر به العالم حتى يومنا هذا يؤكد حقيقة واحدة لا غبار عليها وهي أن الفضل الأول في سطوع تلك الحضارات اليمنية الذائعة الصيت يعود إلى اهتمام اليمن القديم بالزراعة وبناء السدود، وسد مارب خير شاهد، إذاً فالمجتمع مجتمع زراعي قبل كل شيء، وهذا ما يجب أن نعيه وأن نعمل في سبيل تحقيقه بالممارسة والفعل وليس بالأقوال الطنانة.. وفي اعتقادي أن هناك عدة عوامل أسهمت بشكل مباشر في وصولنا إلى هذا الوضع السيئ، حيث وجدت أو استجدت ظروف وتحول تاريخي انقلبت فيه المفاهيم رأساً على عقب تحت ذريعة واهية في التحضر.. والانقلاب المفاهيمي هذا بات معروفاً لدى الكثيرين وبالذات النخب المثقفة، فهذه الظروف وتلك التحولات جعلت من المزارع وكل من يعمل ويكد في الأرض رجلاً غبياً لا يفهم شيئاً غير متحضر، وما زاد الطين بلة هو رؤية المزارع ابن عمه أو أخاه أو أحد أبناء قريته التحق بإحدى الوظائف الحكومية التي فتحت الباب واسعاً أمام المواطنين قبل عشرين أو خمس وعشرين سنة من عمر الثورة وانبهر بما لاحظه عليه من ملبس ومأكل وامتلاك سيارة ومسكن في المدينة مما أوحى إليه بطريقة أو بأخرى أن عليه أن يترك هذا العمل المهين.. ويبحث عن وسائل التحضر والتي تبدأ بترك زراعة الأرض والاهتمام بها.. والمشكلة الأكثر تعقيداً ظهور فتيات ريفيات لا يقبلن بالزواج إلا من موظف ساكن المدينة ولا يعمل في الأرض؛ لأن ذلك يعتبر إهانة في حقها لأنها كذلك تبحث عن التحضر الذي يختزل في ترك الأرض والابتعاد عن الاهتمام بالمواشي وما إلى ذلك؛ الأمر الذي أدى إلى هجرة الآلاف من أبناء الريف إلى المدن للبحث عن الوظيفة أو أعمال جديدة أكثر تحضراً، وفي ظل هذه المعمعة لم يكن هناك أي رد فعل يظهر الحقائق من قبل الجهات الحكومية أو غير الحكومية ربما بمعرفة أو بغيرها. وهنا لابد من إعادة الاعتبار إلى مهنة الزراعة وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي خاصة والأيام وصعوبة المعيشة وغلاء الأسعار أثبتت أن مهنة الزراعة هي أشرف المهن؛ بل تسهم بشكل مباشر باستقلالية وحرية اتخاذ القرار حتى للدولة وسيادتها.