الحق على الحقيقة واضح الطريقة، مالم تجد العقول الصافية، والأسرار الموجبة النافية، سبيلاً إلى نفيه ولا طريقاً إلى جحوده، اضطراراً قام عليه البرهان، لا تقليداً لما رواه فلان عن فلان.. وذلك إذ جالت العقول في آفاق الاستبصار بأجنحة الأفكار، فحصلت على معارف ذواتها، وإدراك غرائب صفاتها، فإذا هي أقباس قبس تزهر من نوره، ومصابيح زيت شجرة تخرج من طوره، متعلقة الذوات بذاته، مرتبطة الصفات بصفاته، وجودها لجواهر صورها هو وجوده، وجحودها لحقيقة كونها هو جحوده. فكلما رامت أن تنفيه وقع النفي عليها، وكلما أرادت أن تجحده سرى الجحود إليها. فلما اتضح لها هذا الدليل القوي، وأشرق عليها هذا البرهان المضيء، كادت أن تتوهم انما هي هو ، أو هو هي. فكما لاتجد إلى نفي ذواتها سبيلاً، ولا لجحود صورها طريقاً، كذلك لا تجد سبيلاً إلى نفيه، ولاطريقاً إلى جحوده. فحينئذ اتضح لها طريق النسبة إليه، وعلمت أنها أنوار الدلالة عليه، كنوع التمرة الدالة على صفة الغرس، وكمعنى الحركة الدالة على جوهر النفس، وكأنوار الفجر الدالة على ذات الشمس. فلسان حال التمرة ينتسب إلى النخلة.. ولسان حال الحركة ينتسب إلى النفس.. ولسان حال ضياء الفجر ينتسب إلى الشمس.. كذلك جواهر العقول الروحانية تنتسب إلى الأنفاس الربانية. كأنهار الفرات بعذب ماها تدل الشاربين على الفرات فذا من ذا وذلك أصل هذا صفات من صفات من صفات لها أصل تعود إليه حي حياة الخلق من تلك الحياة ولولا كون ذا ما كان هذا كريح المسك دل على الفتات فجاحده كجاحد والديه وملحق نفسه ببني الزناة ولا عقل له إذ كل عقل يدل عليه من كل الجهات صفت أوصافه لمراقبيه وأبهمت الأمور على الغواة ففاز العارفون به عليهم كما فاز الخلوق على النبات فلما انعقد الوجود بالوجود، واقترن الجحود بالجحود، واتصل سبب الشاهد بالمشهود، والموجد بالموجود، خرس عن ترجمان الشك، وبهت عن محاورتها قهرمان الإفك، وكشف عن بصائرها الغطاء، وعرجت في ملكوت السماء، فأشرقت على مشارق الأزل، مكتحلة بأنوار من لم يزل، فعاينت نار هويته العالية، مشتعلة بحطب المعترضات الباطلة، اشتعالاً أوضح برهانه فأبداه، وأحرق ما سواه فأفناه. فلما لم يبق في الوجود شيء يوصف به إلا هو، اشتملت هويته الأزلية على آفاق الوجود، والعقول قائمة بالشهود، فخرت عند المعاينة بالسجود، ناطقة بألسنة الوجود والجود، تشهد أنك لأنت هو، السابق لكل هو، الخالد في هوا هويتك الهاوية بكل هو، الماحية لكل هو، القائمة بكل هو، المخترقة لكل هو، المحيطة بكل هو.