(الحلقة الأولى) قال الشاعر عبدالله بن يعلى يصف مدينة جبلة: هب النسيم فبت كالحيران شوقاً إلى الأهلين والجيران ما مصر ما تبريز ما طبرية بمدينة قد حفها نهران خدد لها شام وحب مشرق والتعكر العالي المنيف يماني حصنا خدد والتعكر من الحصون اليمنية المشهورة : يقع حصن خدد في مديرية حبيش ويقع حصن التعكر في مديرية بعدان بمحافظة إب. أنشئت مدينة جبلة على تلة مرتفعة تتكون من سبع ربُى، لكل منها اسم يميزها عن الأخرى: مثل ربوة ذي أور التي بُني فيها جامع الملكة السيدة، وربوة الدارة وبها قصر العز أما عن سبب تسمية مدينة ذي جبلة بهذا الاسم فيذكر المؤرخ عمارة اليمني (توفي سنة 569ه/1173م) في كتابه المفيد بأن جبلة هو اسم تاجر فخار يهودي كان يبيع آنيته الفخارية في الموضع الذي اختط فيه الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي دار العز، وقد سميت المدينة باسم هذا التاجر. ونحن لا نشاطر عمارة هذا الرأي، فربما اشتق اسم جِبْلَة من اسم جَبَلَة الذي أطلقه العرب على عدة حصون وقرى، وجدت قبل إنشاء مدينة ذي جبلة بعدة قرون من الزمن. اختط مدينة ذي جبلة عبدالله.. محمد الصليحي سنة 458ه/1066م، حينما كان والياً، في عهد أخيه الملك علي محمد الصليحي، على حصن التعكر المشهور الذي يقع في قمة الجبل المطل على مدينة ذي جبلة، ويذكر عمارة بأنها مدينة بين نهرين جاريين في الصيف والشتاء، وكانت قديماً تعرف بجبلة ذات النهرين. اتخذتها الملكة سيدة بنت أحمد بن جعفر الصليحي (440-532ه/ 1049-1138م) حاضرةً لها ومقراً لحكمها، بعد انتقالها من صنعاء إلى هذه المدينة الجميلة وأقامت فيها عدة منشآت معمارية. وحتى اليوم، ما تزال بعض المواضع في المدينة تحمل اسم الملكة سيدة: مثل مدرج السيدة في غرب المدينة وجامع السيدة الذي يقع في وسط المدينة كانت مدينة جبلة مركزاً علمياً مشهوراً، وعلاوةً على دور مساجدها في نشر العلم والمعرفة أنشئت في المدينة العديد من مدارس العلم التي قصدها الطلبة من مناطق مختلفة، درس فيها عدد من العلماء المشهورين، من هذه المدراس: مدرسة ابن أبي الأمان التي أنشأها الشيخ أبو الحسن على بن إبراهيم بن أبي الأمان سنة 558ه/1163م، وتعتبر هذه المدرسة اليوم أقدم المداس مدارس العلوم الإسلامية التي نعرف موقعها واسم بانيها وتاريخ إنشائها ؛ وتعد الثلاث المدارس التي أنشأتها الأميرة النجمية في مدينة جبلة في النصف الأول من القرن السابع الهجري/ التاسع الميلادي من أجمل المدارس التي لا تزال قائمة حتى اليوم وهذه المدارس هي : المدرسة الشهابية تعرف حالياً باسم المدرسة الوزيرية، المدرسة النجمية، والمدرسة الشرفية التي أنشأتهما الأميرة الدار النجمي أخت الملك المنصور عمر بن علي بن رسول مؤسس الدولة الرسولية. ومن أشهر المنشآت التاريخية في مدينة جبلة: دار العز وقبة الزوم، والجامع الكبير الذي كان في الأصل قصراً من قصور ملوك الدولة الصليحية، وكان يعرف باسم دار العز الأولى، ومسجد السنة ومسجد الدار النجمي والمدرسة الزاتية، وتشكل هذه المنشآت الدينية مع المباني السكنية القديمة بطوابقها العديدة التي تعانق بشموخ وإباء سماء جبلة الصافية تحفة فنية معمارية عربية إسلامية تجعل من مدينة جبلة متحفاً مفتوحاً ، يجذب إليه الزوار والسائحين طوال أيام السنة. جامع الملكة بمدينة جبلة يعد جامع الملكة سيدة في مدينة جبلة من المساجد التاريخية الهامة، ويرجع تاريخ بنائه إلى منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. يقع جامع الملكة في وسط مدينة جبلة، وقد كان مبنى هذا الجامع في الأصل قصراً ملكياً يعرف باسم دار العز الأولى، أحد القصور التي شيدت عند تأسيس المدينة. في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلاد، قررت الملكة الصليحية سيدة بنت احمد الصليحي نقل عاصمة الدولة الصليحية وحاضرتها ومقرها من صنعاء إلى جبلة، أمرت ، بتحويل دار العز الأولى إلى مسجد جامع للمدينة. التخطيط المعماري العام للجامع : التخطيط العام للجامع عبارة عن بناء مستطيل الشكل يتكون من بيت الصلاة وفناء مكشوف محاط بأربعة أروقة أهمها وأكبرها الرواق الشمالي، الذي يفصل بين الفناء وبيت الصلاة وللجامع مئذنتان تقع الأولى في الزاوية الجنوبية الشرقية وتقع الثانية في الزاوية الجنوبية الغربية للجامع. بنيت قواعد هاتين المئذنتين من الحجر وبنيت بقية الأجزاء من الآجرِّ. يتم الدخول إلى الجامع عن طريق عدد من المداخل: ثلاثة مداخل تفتح في الواجهة الشرقية، مدخلان في الواجهة الجنوبية، مدخل واحد في الواجهة الغربية ومدخل في الواجهة الشمالية. تعلو النقوش الكتابية عتبات بعض هذه المداخل. الوصف المعماري بيت الصلاة: عبارة عن قاعة مستطيلة الشكل (31.50×16.20م) تتكون من أربعة صفوف من الأعمدة والدعامات: يوجد في الصف الأول خمس دعامات وخمسة أعمدة، يقع العمود الخامس منها في الركن الجنوبي الشرقي للمساحة المربعة التي تحتل الزاوية الشمالية الغربية لبيت الصلاة. تضم هذه المساحة قبر وتابوت الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي، ويتكون الصف الثاني من عشرة أعمدة، والصف الثالث يتكون من ثمانية أعمدة ودعامتين، أما الصف الرابع والذي يمثل الضلع الجنوبي لبيت الصلاة فتكونه أربع دعامات وستة أعمدة، وقد أقيم على المساحة التي تفصل الأعمدة عن بعضها في هذه البائكة جدار يعزل بيت الصلاة عن الرواق والفناء المكشوف الذي يقع في جهتها الجنوبية. المحراب: عبارة عن فتحة مجوفة معقودة في منتصف الجدار الشمالي لرواق القبلة، يكتنف المحراب عمودان يحملان عقداً مدبباً. يحيط بهذين العمودين عمودان أكثر سمكاً يرتكز عليهم عقد مدبب. تغطي الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية تجويف المحراب وواجهات عقوده والأعمدة التي تكتنفه من الجانبين، يدور شريط من الكتابات الكوفية، محاط بشريط آخر من الزخارف النباتية المتداخلة، حول الأعمدة التي تكتنف المحراب ويشكل هذا الشريط الكتابي إطاراً مستطيلاً يحيط بمنطقة المحراب. وعلى يمين المحراب نجد منبر الجامع وهو عبارة عن منبر مصنوع من الخشب، يؤدي مدخله إلى سلم صاعد من عشر درج تنتهي بجلسة الخطيب. وتظهر على أجزاء المنبر المختلفة زخارف هندسية ونباتية ملونة. السقف: يلاحظ وجود بقايا المصندقات الخشبية التي كانت تكون السقف الزخرفي لبيت الصلاة، وقد حضيت المصندقات التي تغطي منطقة المحراب باهتمام كبير من حيث تكويناتها وثراء الزخارف التي نفذت عليها. والسقف مقسم إلى مناطق زخرفية، بكل منطقة ثلاثة مصندقات. تظهر على مصندقات السقف أشكال زخرفية بعضها يتكرر هنا وهناك مثل: نجمة ثمانية الأضلاع تحتوي بداخلها مربعات ومثلثات متشابكة ودوائر صغيرة، وتحيط بالنجمة الثمانية زخرفة نباتية عبارة عن أوراق ثلاثية. وأشكال الورود وأوراق الأكانتس وأشرطة من الزخارف الحلزونية والتشابكات الهندسية. وقد استخدم اللون الذهبي والبن والأزرق الفاتح والأبيض والأسود في عملية تنفيذ هذه الزخارف الرائعة. أما البناء المربع (3.50× 3.70م) الذي يحتل حالياً الزاوية الشمالية الغربية فيظم قبر الملكة سيدة والتابوت الذي يعلوه. يتم الدخول إلى التابوت عن طريق باب صغير في الجدار الجنوبي للبناء المربع. وتظهر زخارف متقنة غايةً في الجمال على واجهات هذا التابوت منها: أشكال المحاريب التي تنتهي بعقود مدببة, تغطي الزخارف النباتية الكثيفة المساحات التي تفصل بينها، والمحاريب محاطة من أعلى بشريط من الكتابات الكوفية المورقة ومن أسفل بشريط من الزخارف الهندسية قوامها معينات ودوائر ومثلثات متداخلة بعضها ببعض. يفتح في الجدار الجنوبي لبيت الصلاة بابان يؤدي الأول إلى الرواق الشمالي للفناء ويؤدي الثاني إلى الرواق الغربي. وصف الأروقة: الرواق الشمالي: عبارة عن بائكة واحدة تتكون من ستة أعمدة، ترتكز عليها عقود مدببة تحمل السقف, ينتهي جدار الواجهة الجنوبية للرواق من أعلى بزخارف هندسية عبارة عن شرفات متدرجة ذات خمسة مستويات مقامة على قواعد مرتفعة, ويلاحظ بأن العقد الأوسط، الذي يقع على نفس خط المحراب، أكبر من العقود الجانبية الأخرى، وتغطي قبة صغيرة مقامة على طمبورين، المساحة التي تفصله عن بيت الصلاة. أما الرواق الشرقي فيتكون من بائكتين، تتكون كل بائكة من ثمانية أعمدة ترتكز عليها عقود مدببة، ويتكون الرواق الجنوبي من بائكة واحدة تكونها سبعة أعمدة, يفتح هذا الرواق في ضلعه الجنوبي على المطاهير والحمامات بواسطة مدخلين.الرواق الغربي يتكون من بائكتين: البائكة الأولى تطل على الفناء بواسطة ثمانية أعمدة، وتتكون البائكة الثانية من خمسة أعمدة فقط تحتل الجزء الشمالي للرواق، أما أعمدة الجزء الجنوبي فقد حلت مكانها المعلامة التي في فترة متأخرة عن البناء الأصلي لهذا الرواق، وهذه المعلامة ( الكُتّاب ) بنيت لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والقرآن الكريم. نفذت في الجامع أعمال ترميم في عصور مختلفة، آخرها نفذت خلال الخمس السنوات الماضية، الترميمات التي قامت بتنفيذها أولا الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية ولم توفق في ذلك، تلاها الترميمات التي قامت وزارة الأوقاف بتنفيذها، خلال العامين 2006 و2007 بمشاركة متخصص من الهيئة العامة للآثار والمتاحف الآثار. أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية بجامعة صنعاء - المصادر والمراجع : د. محمد العروسي: كتاب السياحة في اليمن ، الطبعة الأولى ، 2007. -جبلة و جامع الملكة في الموسوعة اليمنية ، الطبعة 2، مؤسسة العفيف الثقافية، 2003. إبن الديبع (عبدالرحمن بن علي، توفي سنة 943/1536م): الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد، تحقيق يوسف شلحد، بيروت، 1983م. الحجري (محمد أحمد): مجموع بلدان اليمن وقبائلها، تحقيق القاضي إسماعيل الأكوع، في جزأين، منشورات وزارة الإعلام والثقافة، 1984م. الحموي (شهاب الدين ياقوت بن عبدالله الحموي، توفي سنة 626/1229م): معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، 7 أجزاء، ط1، بيروت، 1990م. عمارة اليمني (نجم الدين عمارة بن علي اليمني توفي سنة 569/1171م): تاريخ اليمن المسمى المفيد في أخبار صنعاء وزبيد، تحقيق محمد علي الأكوع، ط3، 1985م، توزيع المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع. الهمداني (الحسن بن أحمد بن يعقوب ت.سنة 350 أو 360ه/ 961 أو 971م)، صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد علي الأكوع، ط3، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1983م.