اليوم الإجتماع الفني لأندية الدرجة الثالثة لكرة القدم بساحل حضرموت    اليوم بدء منافسات المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انهيار سريع وجديد للريال اليمني أمام العملات الأجنبية (أسعار الصرف الآن)    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    وفي هوازن قوم غير أن بهم**داء اليماني اذا لم يغدروا خانوا    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    كاس خادم الحرمين الشريفين: النصر يهزم الخليج بثلاثية    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    الخطوط الجوية اليمنية توضح تفاصيل أسعار التذاكر وتكشف عن خطط جديدة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    مقتل واصابة 30 في حادث سير مروع بمحافظة عمران    الانتقالي يتراجع عن الانقلاب على الشرعية في عدن.. ويكشف عن قرار لعيدروس الزبيدي    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يحسم معركة الذهاب    غارسيا يتحدث عن مستقبله    احتجاجات "كهربائية" تُشعل نار الغضب في خورمكسر عدن: أهالي الحي يقطعون الطريق أمام المطار    العليمي: رجل المرحلة الاستثنائية .. حنكة سياسية وأمنية تُعوّل عليها لاستعادة الدولة    الكشف عن قضية الصحفي صالح الحنشي عقب تعرضه للمضايقات    خبراء بحريون يحذرون: هذا ما سيحدث بعد وصول هجمات الحوثيين إلى المحيط الهندي    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    الرئيس الزُبيدي يعزي رئيس الإمارات بوفاة عمه    رئاسة الانتقالي تستعرض مستجدات الأوضاع المتصلة بالعملية السياسية والتصعيد المتواصل من قبل مليشيا الحوثي    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    مأرب ..ورشة عمل ل 20 شخصية من المؤثرين والفاعلين في ملف الطرقات المغلقة    عن حركة التاريخ وعمر الحضارات    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    بعد شهر من اختطافه.. مليشيا الحوثي تصفي مواطن وترمي جثته للشارع بالحديدة    رئيس الوزراء يؤكد الحرص على حل مشاكل العمال وإنصافهم وتخفيف معاناتهم    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    الذهب يهبط إلى أدنى مستوى في 4 أسابيع    الشيخ الزنداني يروي قصة أول تنظيم إسلامي بعد ثورة 26سبتمبر وجهوده العجيبة، وكيف تم حظره بقرار روسي؟!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    نجل الزنداني يوجه رسالة شكر لهؤلاء عقب أيام من وفاة والده    بعشرة لاعبين...الهلال يتأهل إلى نهائى كأس خادم الحرمين بفوز صعب على الاتحاد    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962الحلق32
نشر في الجمهورية يوم 05 - 10 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
ه انتفاضة بكيل «0691 1691»
لم يتمكن الإمام أحمد كما أسلفنا من إلقاء القبض على سنان أبو لحوم، أو على أي من شيوخ بكيل الآخرين، الذين وقفوا إلى جانب ابن الأحمر، وعملوا مع الأحرار لإسقاط النظام الإمامي وبهروب هؤلاء إلى عدن، أتيحت لهم الفرصة للمقاومة، إذ حصلوا على دعم المحمية البريطانية «بيحان» فأثاروا مناطقهم ودفعوا رجالها للعصيان والتمرد على السلطة.
في البداية أراد الإمام الإيقاع برؤساء بكيل «خولان والأعروش، وبني سحام ونهم وغيرهم» كما أوقع برؤساء حاشد، فابرق إليهم في ابريل 0691 وعلى وجه التحديد لخولان التي أظهرت قدرة على الصمود قائلاً لهم «أولادي مشايخ خولان، لا فائدة من العصيان، والأحسن مبادرتكم بالوصول إلينا في السخنة، ولكم علينا عهد الله وميثاقه.. أن لايصلكم أذى لا في أموالكم ولا في أحوالكم» وكانت تجربة الشيخ ابن الأحمر وابنه حميد وعبداللطيف في راجح مازالت ماثلة أمامهم، فردوا عليه «إلى أحمد حميد الدين لن نصل إليكم لأننا لانثق بكم، ولابوعودكم، وأمامنا ماجرى لبنى الأحمر»
وكان الإمام يدرك أن المواجهة ضد قبائل خولان قد باتت حتمية، وإلا فإن ذلك يشجع بقية القبائل على التمرد، لذلك جهز لقمع بكيل «كل قبائل بكيل المتمردة» جيشين توجه الأول إلى «خولان الطيال» بقيادة محمد حسين الظمين، وتوجه الجيش الثاني إلى «بني سحام ونهم» وتولى قيادته عبدالقادر أبو طالب، وقد اختبر الإمام الجيشين في مواجهة حاشد، برغم أن الجيشين لم يتلقيا إلا القليل من التدريب على أيدي مصرية، ولايملكان سوى القليل من الأسلحة، لكن مالديهما من أسلحة كان أفضل وأكثر فتكاً ممالدى القبائل، وفي نفس الوقت كان يريد الإبقاء على جذوة الخلاف والنفور القائم بين الجيش والقبائل، وهو خلاف كان قد نشأ خلال العقود الماضية، واستمرت رواسبه قائمة حتى في ظل زيادة الوعي، لدى الطرفين «الجيش والقبائل» بأن الإمام إنما كان يستخدم الطرفين لمصلحته وبقائه، لا لمصلحة اليمن وأمنه واستقراره.
لكن الحملة العسكرية لم تحقق نتائج سريعة وحاسمة، وذلك لأن بعض القبائل رفضت السماح للقوات العسكرية بالمرور في أراضيها، فيما ساندت بعضها الآخر القبائل المتمردة وفي «نقيل الهبيري» «عقبة الهبيري» جرت اشتباكات عنيفة وضارية سقط فيها الكثير من رجال الجيش ومن أبناء القبائل وعجز الجيش عن الوصول إلى مراكز التمرد، وقد سبب ذلك للإمام حرجاً شديداً وبدت هذه القبائل في موقع البطولة، فغير خطته في القضاء على التمرد، بأن استخدم من جديد مابقي لديه من تأثير على قبائل أخرى فأغراها بالمال، ودعاها إلى مساعدة الجيش في القضاء على العصاة، «أعداء الله، وأعداء الإمام» ثم أوكل إلى القاضي محمد عبدالله الشامي وهو قاضٍ ورجل دولة اعترف انجراس «بكفاءتته السياسية والإدارية بالحوار مع المتمردين والوصول معهم إلى نتائج تحفظ ماء الوجه، ويبدو أن جهود القاضي الشامي، والقبائل التي لبت نداء الإمام قد غيرت مسار الحرب في «خولان»، فهزمت القبيلة، وفر رجالها بالمئات إلى «بيحان» وقبلت «بالخطاط» دليلاً على الخضوع والإذعان وفقدان القدرة علي المقاومة الجماعية، ودمرت القوات الحكومية بيوت زعماء التمرد، علي بن علي الزائدي وأحمد محسن النيني، وسنان أبو لحوم وآخرين.
وبانتهاء المعارك الكبيرة نسبياً، تحولت المواجهة بين القبائل والنظام إلى مايشبه حرب العصابات طالت معظم المدن اليمنية، بمافيها العاصمة صنعاء ونالت من هيبة السلطة ومكانتها، كما خلقت حالة من عدم الاستقرار ففي يونيو 0691 تعرضت بيوت مسئولين في تعز، منهم أحمد عباس نائب وزير الداخلية وصهر الإمام أحمد، وبيت محمد الخطيب، من الديوان الملكي، وعبدالملك العمري من رجال الحكومة لهجوم بالقنابل اليدوية، وامتدت هذه التفجيرات لتصل إلى دار الإمام أحمد نفسه في منطقة الروضة بصنعاء وشملت مرافق حكومية كثيرة، وحتى بعض القنصليات الأجنبية.
لقد نشط المقاومون في توزيع المنشورات التي خلفت المزيد من الغضب لدى الإمام وأحدثت الكثير من اللغط السياسي، وحفزت المواطنين على التصريح بمخالفتهم لسياسة الإمام وكان معظم هذه المنشورات موجهاً إلى الشعب والجيش اليمني، لأن استنهاض الهمم، وتحفيز روح المقاومة، كان يتطلب إلى جانبه وحدة في موقف الجيش والشعب معاً ويكفي قراءة فقرات من واحد من هذه المنشورات لمعرفة الكيفية والطريقة التي كان يتعامل بها قادة التمرد مع القضايا الوطنية، ومشكلات الصراع مع النظام، يقول أحد هذه المنشورات «أيها الشعب اليمني العظيم، أيها الجيش البطل، أنتم اليوم تصنعون المستقبل الكريم بعد أن عشنا 05 عاماً من الذل والهوان، يتجسس بعضنا على بعض، ويقتل بعضنا بعضاً من أجل حياة الحكام الظالمين..لقد قتلوا من أحرار اليمن وأبنائه الكرام عدداً كبيراً، ولكنهم لم يخمدوا جذوة الحرية ولم يحطموا عزم الأحرار إن حكامنا الجائرين يتهمون الحرية بأنها دعوة إلى الاستعمار ولم يعلموا بأنهم هم الذين يستعينون اليوم بالمستعمرين..حتى إذا تم لهم النصر، وضعوا الأغلال في رقابكم».. كما احتفظ قادة المعارضة في الداخل بصلات طيبة فيما بينهم، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالاتصال مع القادة المهاجرين إلى عدن أو إلى القاهرة، وكان الهم المشترك لغالبيتهم قد اقترب أكثر فأكثر من الوضوح وهو إزالة ظلم الإمامة، وإسقاط حكم الإمام أحمد.
إلا أن عمليات المقاومة وتوزيع المنشورات، وإطلاق النار على دور رموز النظام، كان لها ثمنها، فقد وقع العدد من المناضلين في قبضة النظام، ولاقوا في سجونه أصنافاً من التعذيب والإهانة، كما أن بعضهم ضرب المثل في التضحية فقاوم كما فعل علي شويط، وحزام الشعيبي في إب وكان من بين المعتقلين عبدالسلام صبرة، أحد أبرز قادة المعارضة حينها.
وكانت البلاد في حالة من التوتر الشديد، والناس في الأسواق يبحثون عن السلاح والذخيرة التي ارتفعت أثمانها، وقد بدت عليهم آثار التوتر وكأنما كانوا في انتظار حدث هام وكبير، وكان الشيوخ يلتقون في الأسواق الأسبوعية لبحث الأوضاع المتوترة بين القبائل والنظام وكان الرأي العام يجمع على أن الإمام أحمد وكان ومازال سبباً في هذه الأجواء المتوترة، وهذا الاضطراب الذي عم معظم المناطق القبلية، وانتقل إلى المدن، فأثر على استقرارها، وظهر وكأن هذه الأحداث مقدمة لما بعدها.
وكما أحدثت هذه الأوضاع اضطراباً في كيان الدولة، أحدثت بالمقابل اضطراباً في صفوف الحركة الوطنية، فقد أيدت تيارات مواقف القبائل، وساندت العمليات الفدائية التي كان البعض يقوم بها، وعارضتها تيارات أخرى، وبدا هنا ثانية أن الأحرار لم يكونوا قط حزباً موحداً في مواجهة الأخطار فالزبيري والعيني والمروني، وشعلان والأسودي وغيرهم في عدن والقاهرة أيدوا وساندوا مادياً ومعنوياً موجة الرفض القبلي هذه وحافظوا على صلات إيجابية مع رموزها،ومنهم سنان أبو لحوم، بينما وقف النعمان وبعض رموز الاتحاد اليمني موقفاً سلبياً منها، ورأوا فيها حركة ارتزاق، ربما في إشارة إلى دعم البريطانيين لهذه الحركة، ومع ذلك فإن الإمام نسب هذه التفجيرات والاضطرابات إلى النعمان والاتحاد اليمني، ولم يكن يدري أن للنعمان موقفاً آخر منها.
ويبدو أن النعمان وقد أخذ منه الزمن مأخذاً وهدته التجارب، تغلبت عليه روح المصالحة على روح المقاومة، ورأى أن الجنوح للنضال السلمي هو الأنسب والأجدى في هذه المرحلة، خصوصاً وأن النظام مازال يحتفظ بتأييد قوى اجتماعية مختلفة يصعب الاستهانة بها، وكان تقديره هذا في غير محله، لأن القاعدة الاجتماعية الكبرى، وهي القبائل قد أصاب علاقتها بالنظام الكثير من الندوب والشروخ الكبيرة التي يصعب رتقها، بل أن هذه القبائل وقد اكتشفت بالممارسة، وبتأثير الوعي الوطني القومي المتنامي أن الإمامة نظام غاشم، وأن الأئمة استخدموا هذه «البدعة الدينية» لممارسة أبشع صور الظلم والاستعباد والقوة ضد الشعب اليمني، ولم يفقه النعمان لهذا المتغير في وعي القبائل، لأن القبيلة كانت دائماً وأبداً القوة العمياء التي استخدمها الأئمة لتحقيق طموحاتهم السياسية.
وحاول النعمان الدفاع عن نفسه، وتبيان موقفه، بالقول إنه اكتشف في خضم النضال أن الجهل كان عدو الشعب، وكان ولايزال سبب البؤس، والفرقة والاستعمار، والرجعية فدعا إلى التعلم، واهتم بإنشاء «كلية بلقيس» في عدن لتستقبل طلبة اليمن الفارين من وجه النظام، أو غير القادرين على الحصول على فرصة للتعليم في الأرض الأم، وأعطى لمشروعه التعليمي كل وقته، ووجه المساعدات التي كان يبعثها أنصار الحركة للاتحاد اليمني نحو هذا الهدف، وفي نفس الوقت حجب هذه المساعدات عن القبائل المتمردة أو الفدائيين الذين كانوا يقومون بأعمال استهدفت إضعاف النظام تمهيداً لإسقاطه.
وكان موقف الزبيري مختلفاً عن موقف النعمان والزبيري هو القطب الثاني في حركة الأحرار فقد أيد الزبيري بقوة أعمال المقاومة التي كانت تصدر عن رجال القبائل وأحرار اليمن في الداخل فرفع ذلك من معنويات المقاومين، وفي نفس الوقت أعلى من مكانته لدى أحرار الداخل ورجال المقاومة، وفي إحدى رسائل الزبيري إلى «سنان أبو لحوم» أكد حصول الموقف السلبي لزميله النعمان من الحركة القبلية، والأعمال الفدائية، ولكنه في نفس الوقت أشار إلى أنه بذل من الجهد الكثير لتعديل موقف النعمان هذا وأبلغ سنان أنه سعى ويسعى لإقامة جبهة وطنية واسعة تتصدى لمعطيات المرحلة القادمة التي يعتقد بأنها ستكون مرحلة حاسمة في تاريخ اليمن.
ومن المؤكد أن سلاطين «بيحان ولحج» على وجه الخصوص قد قدموا مساعدات مختلفة للمقاومين المناوئين للإمام أحمد، وكانت هذه المساعدات محل نقد من بعض الأفراد والقيادات أو ربما محل شبهة كما رأى البعض الآخر، لأنه في الواقع ماكان يمكن لهؤلاء السلاطين أن يمدوا أيديهم لمعارضي الإمام، وبهذا القدر من المساعدة والدعم لولا موافقة صريحة من البريطانيين ومع ذلك فإنه من الغبن اتهام القبائل والأحرار بالاتفاق موقفاً وهدفاً مع البريطانيين ازاء النظام الإمامي، فالبريطانيون كان هدفهم واضحاً، هو الاعتراف بحقوق ومصالح لهم في عدن وقد اعتقدوا بأن دعم المعارضة يساعدهم على تحقيق هذا الهدف.
كان هناك اعتقاد قد بدأ يسود في الوسط الوطني، أنه لزوال الاستعمار في الجنوب، لابد من إسقاط النظام الإمامي في الشمال، والانطلاق من الشمال كقاعدة لتحرير الجنوب، وهذه كانت أطروحة المنظمات القومية غالباً، إلا أن شباب الأحرار، والقبائل لم يكونوا بعيدين عن هذا الاتجاه، وكانت مثل هذه الأفكار قد وجدت طريقها إلى تفكيرهم السياسي.
وقد احتج اليمن مراراً لدى السلطات البريطانية بسبب الانفجارات التي كانت تهز المدينة طوال عامي 0691 و1691 وكذا النصف الأول من عام 2691 وطلب من البريطانيين أكثر من مرة منع المتسللين اليمنيين من دخول اليمن، عبر المحمية، ولكن بريطانيا لم تتخذ موقفاً يرضي الإمام، ولم تأخذ من الإجراء ماقد يوحي بأنها ستفعل ذلك لقد أهمل البريطانيون عن قصد هذه الاحتجاجات فتوترت العلاقات بين اليمن وبريطانيا التي كانت في الواقع مشحونة بأسباب الخلافات القديمة، كان أبرزها موقف اليمن من الاتحاد الفيدرالي الذي أعلنته بريطانيا في فبراير 9591 ولتخفيف حدة التوتر قام الحاكم البريطاني في عدن «السير وليام لوس» بزيارة تعز في يوليو 9591 إلا أن العلاقات ظلت على ماهي عليه من التوتر، حينها لم يجد الإمام سوى القيام بطرد القنصل البريطاني من تعز المستر «بيللي» متهماً إياه بالتحريض على الفوضى وإقلاق الأمن.
ومع استمرار أعمال المقاومة حرص الأحرار على الابقاء على علاقات وطيدة مع ولي العهد، الأمير البدر، فقد كانوا يرون أن دعمه وإسناده ضروري في مواجهة تيار عمه الحسن، الذي يتحين الفرصة للانقضاض على العرش، وهو تيار يجد قوته ويستمد وجوده من واقع المجتمع المتخلف، المجتمع التقليدي الذي لم يتأثر بعد بالتحولات المحلية والإقليمية والدولية، وظل على ولاء حقيقي للإمام ودفاعاً عن واحدة من مقومات المذهب الزيدي، وهذا التيار كان مدعوماً من المحيط الاقليمي فالمملكة العربية السعودية تميل إلى الحسن، وهي تؤازره بصورة أو بأخرى، وكانت المملكة كما نعرف من بداية الخمسينيات وحتى 6591 قد أيدت الأمير البدر، وحاول الملك سعود في أثناء زيارته إلى صنعاء عام 4591 إقناع الإمام، وأمراء الأسرة الحاكمة بضرورة إعلان ولاية العهد للبدر لكن ميول البدر القومية، وصداقته الحميمة لعبدالناصر، وخلاف عبدالناصر مع الملك سعود فيمابعد، حولا هذا الدعم إلى عمه الحسن، وكذلك كان الأمريكان يساندون مجيء الحسن إلى إمامة اليمن، وهم على تنسيق مباشر معه، وهذه مفارقة فبينما الأمريكان يمثلون الجديد الليبرالي العلماني، يمثل الحسن أكثر التيارات تخلفاً في بلاده ولكنها مقتضيات السياسة والمصالح.
ولعب الأحرار بورقة البدر حتى قيام الثورة، فأثناء المقاومة كان شيوخ القبائل، وقادة الأحرار يبعثون إلى البدر بالبرقيات لإسناد موقفه، وتشيجعه على مواجهة عمه الحسن والتيار المحافظ، ودونما تردد كانوا يجددون ولاءهم له، وهذه واحدة من برقيات التأييد كان قد بعث بها إليه سنان أبو لحوم في ابريل 1691يقول فيها «تحية تجدد العهد، وتوثق الحب، وتؤكد الإخلاص، وبعد فقد آن لنا أن نذكر سموكم بأننا على العهد والمبدأ لم نتحول..إن أنصار «عزيز» الأمريكي يعني به الحسن يخشونكم مصلحاً مجدداً وقد ألفوا الفساد والجمود، واغتنوا على حساب المؤامرات والإرهاب فهم اليوم يحاربونكم جهاراً نهاراً، في الداخل والخارج ولايعرفون أنهم يحاربون أمن البلاد ورخاءها..وهم بالتأكيد لم يقصدوا كل كلمة قالوها في حق البدر مدحاً وتبجيلاً وتعظيماً،ولكنها أيضاً مقتضيات السياسة ولزوم التحالفات المؤقتة والتكتيكية،فالبدر منذ أن عاد والده من روما،لزم الصمت،ولم يبد حراكاً للدفاع عن الأحرار والمناضلين الذين آزروه في غياب أبيه ثم أصبحوا عرضة للموت والسجن.
ولكن المقاومة دخلت نفقا صعباً،واختلطت أوراق اللعبة،لدرجة يصعب التفريق فيها بين مايقوم به أحرار اليمن،وبين مايقوم به أنصار الحسن،الذين بدأوا في تثبيت وجودهم،وحشد قواتهم للمجهول،فالإمام مريض،وهو طريح الفراش بسبب إصابات المغامرة التي أقدم عليها شباب من الأحرار في الحديدة،وبعض أعمال المقاومة طالت مرافق حكومية،ومواقع مدنية،وقنصليات أجنبية لم يكن الأحرار يستهدفونها،فأصبح وضع بعض قادة المعارضة في عدن في خطر،وأضحى تحركهم من عدن إلى بيحان،ومناطق الحدود مراقباً من السلطات البريطانية التي تعرضت سفارتها هي الأخرى للانفجارات،وكان الإمام يلح على سنان بالعودة،ويغازل في نفس الوقت البريطانيين بإبداء بعض التعاون إذا هم ساعدوه على وقف المقاومة،وتسليم رموزها،ففر سنان أبو لحوم إلى القاهرة في يناير 2691م،طالباً حق اللجوء السياسي،وقد احتضنته القاهرة كما احتضنت قبله النعمان والزبيري والعيني وغيرهم.
ثالثاً وجها لوجه مع الإمام 1691م
وأخيراً وبعد فشل العديد من المحاولات التي بلغت نحو سبع عشرة محاولة،نجح ثلاثة من الأبطال من النيل من الإمام أحمد،حيث اخترق الرصاص هذه المرة جسده بعملية فدائية جسورة،قام بها ثلاثة من أحرار اليمن،هم عبدالله اللقية ومحمد العلفي،ومحسن الهندوانة،وأرادوا من خلالها تخليص اليمن من الإمام.
كان اللقية أكثرهم إحساسا بالوضع المأزوم في البلاد،لقد اعتقد دائماً وأسر إلى مجالسيه أن الإمام أحمد هو مصدر شقاء اليمن وتعاسته وأزمته،والحاجز الذي إذا انهار انطلقت اليمن إلى عهد جديد،ولو بعد فوضى واضطراب،كان قوى الايمان مستقيماً كأنه من أصحاب طالب الحق الكندي،وكان لديه اعتقاد بأن فشل التجارب السابقة في الخلاص من الإمام أحمد،هو أن القائمين عليها كان يدفعهم الحرمان من الحكم «السلطة»،فيتخذون قراراتهم فيما يتعلق بالإمام أحمد على هذا الأساس،ومن وحي رغبتهم في الحلول محله،وقد دفعه اعتقاده هذا أن يجعل من نفسه الرجل «المخلّص» لليمن،ثم يفعل الله بعد ذلك مايشاء.
وكان على اللقية أن يجد من يشاركه رؤيته،ويقتنع؛لأن القيام بأمر جلل مثل ذلك كان يحتاج إلى أكثر من وطني غيور،ويبدو أنه لم ينتظر طويلاً،فقد اكتشف لدى زميله في الدراسة،ورفيقه في سجن حجة الملازم العلفي نفس الرغبة،ونفس الهدف، وقد وحدت بينهما الظروف ذاتها،الفقر،والحرمان،والسجن ونوازع الثقافة التحررية الواحدة،واتفق الاثنان على القيام بالعملية،وانضم إليهما في لحظة ما من تنفيذ العملية محسن الهندوانة،صديق العلفي.
كان الإمام قد اتصل بمدير مستشفى الحديدة حسين المقدمي يبلغه بأنه سيحضر إلى المستشفى لإجراء فحوصات طبية،وفعلاً توجه الإمام مساء الأحد الموافق 92 مارس 1691م بسيارته الخاصة،وقد سبقه حراسه إلى هناك،وعندما وصل الحرس الملكي إلى مدخل المستشفى قابلهم الملازم العلفي المكلف بحراسة المستشفى وطلب من الحرس عدم الدخول،لان الإمام طلب منه ذلك،ويقال أن العلفي،كان قد قدم تقريراً إلى الإمام يتهم فيه الحرس الملكي بعدم احترام النظام في المستشفى،وأنهم يحدثون اضطراباً وإزعاجاَ للمرضى والأطباء؛فأرسل جلالته أمراً يقضي بتطبيق نظام المستشفى على أي كائن كان، وقام الإمام بتفقد بعض رجال حرسه الخاص الموجودين في المستشفى والذين أصيبوا في حادث السيارة التي وقعت للإمام في مطلع الشهر المنصرم،وكان هذا الحادث في حد ذاته محاولة أخرى لاغتيال الإمام لم تنجح،ولم تعلن جهة ما أو تدعي مسئوليتها عنها.
وبينما كان الإمام يهبط السلم الذي يفصل بين عنبر المرضى ومبنى الأشعة ،أطلق عليه النار كل من عبدالله اللقية الملازم بفرقة المطافئ بميناء الحديدة ومحسن الهندوانة،الملازم في الجيش،وكانا مختبئين بجانب غرفة التبريد من الجهة المقابلة،وعند سماع الرصاص فرَّ حرس الإمام،بينما ألقى الإمام بنفسه على الأرض،ولم يكن في الحقيقة قد فارق الحياة،بالرغم من أن الملازم اللقية قد أفرع في جسده رصاصة أخرى،ليضمن موته،كما ركله برجله،وكتم الإمام أنفاسه ليتبين للأطباء فيما بعد أن الإمام حي يرزق، وان إصاباته خفيفة،ولم تكن في موضع الخطر القاتل المميت.
وأصيب في الحادث محمد البليلي،وشخص آخر إلى جانبه،وتوفي العزي الجحدري بعد ثلاثة أيام من الحادث،كما أصيب في الحادث أيضاً الأمير محمد إسماعيل بن القاسم،ومحمد جحزر،وعلي عيضة،ومحمد صالح الرويشان.
وفرَّ اللقية والعلفي والهندوانة كل باتجاه،فاختبأ العلفي في منزل شخص اسمه «الرصاص» ويقع قرب قصر الرئاسة،وتصادف أن جندياً كان ماراً قرب المنزل،فارتاب في أمره،وأخبر عنه حرس الإمام،الذي اتجه عدد كبير منهم إلى المكان،وأخذوا ينادون عليه بأن يخرج ويسلم نفسه،ولكن العلفي رفض الاستسلام وتبادل مع الحرس إطلاق النار، وقتل أثناء تبادل إطلاق النار القاضي حسن الرازقي عضو المحكمة الشرعية في الحديدة،كما جرح اثنان آخران،ولما لم يجد العلفي مفراً من التسليم،وأيقن انه قاب قوسين من قبضة حرس الإمام،ولمعرفته واعتقاده بأن موته قد أضحى محتماً،أطلق على نفسه رصاصة أصابت قلبه فمات في الحال.
أما الملازم اللقية فقد توجه إلى الميناء، الذي يحرسه بعض أفراد سريته العسكرية المعروفين لديه،في محاولة منه لإبلاغ بعض قيادات الأحرار،ربما لدفعهم أو تشجيعهم على اتخاذ مواقف،واستغلال الوضع الناشئ عن مقتل الإمام كما تصور، إلا أن رجال الإمام لم يمهلوه طويلاً،فحاصروا مبنى اللاسلكي،فاضطر اللقية للتسليم.
وتوجه الهندوانة الملازم في الجيش إلى قصر الإمام،وقد فكر ببساطة في تضليل حرس الإمام،فأخبرهم هناك أن الإمام أحمد قد اعتدى عليه، فاشتبه به رجال الحرس،وألقوا القبض عليه.
وألقي القبض على حسين المقدمي مدير المستشفى،ومحمد أحمد الأهنومي ضابط في سلاح المدفعية،والملازم محمد الرعيني،وحميد القماسي،ضابط إطفاء بالميناء،والقاضي محمدعبدالعزيز حمزة،وأحمد خيبر،ويوسف هبة،وإبراهيم صادق،والعميد محمد رفعت،وأمين عبدالواسع،ومحمد عبدالواسع حميد،وكلهم أو جلهم كانوا من رموز المعارضة،وأصحاب مواقف وطنية،وبالإضافة إلى هؤلاء اعتقل فضل الزاقوت الطبيب السوري،والذي تأكدت علاقته باللقية والعلفي،وصلته بالحادث،والتحريض على الوضع القائم،ولكن الامام عفا عنه في نفس العام بعد أن جاء إلى اليمن سعد الله الجاري من الزعماء السوريين،للتوسط لدى الامام،فأطلق سراحه في يوليو 1691م.
وتم ترحيله فيما بعد إلى سوريا،ونقل الإمام إلى القصر الملكي،حيث أشرف على علاجه أطباء أجانب منهم أمريكي وآخر روسي،وثالث إيطالي،وأحضرت أجهزة خاصة من أسمرة،واستدعيت بعثة طبية اضافية من روما للغرض نفسه.
وعاد البدر الذي كان موجوداً للعلاج في روما،ليشرف على التحقيقات،وفي أول تصريح بعد الحادث،حمل على أعداء الإسلام،الذين يدعون أنهم أصدقاء في إشارة واضحة إلى أحرار اليمن،وربما تنطوي على إشارة إلى الجمهورية العربية المتحدة.
وشكلت لجنة تحقيق من 21 عضواً،بإشرافه،وبرئاسة عبدالكريم عبدالله رئيس الديوان الملكي،أما العسكريون فكان أبرز أعضاء اللجنة عبدالله السلال مدير الميناء.
واضطربت الأحوال في اليمن وهرع الناس لشراء المواد الغذائية والأسلحة ،تحسباً لما قد يقع وتسفر عنه الأيام،وأغلقت الحدود مع المملكة العربية السعودية ومع عدن،ولتهدئة الخواطر، وإعادة الطمأنينة للناس صدر بلاغ رسمي عن القصر الملكي أعلن فيه أن الإمام بخير،وأنه خاطب شعبه بالقول: إن هذا الشعب الكريم لم يغتر بالمدينة الزائفة، وإن جيشي العزيز الذي لم يغتر بالملحدين والأعداء الكافرين،يسره أن إمامه في خير وسلامة وأن إصابته ليست بذات خطر،وقد أراد الإمام أن يقول مجدداً بالإضافة إلى تطمين أنصاره،أنه لن يغير من توجهاته في المستقبل.
كما أشار هو الآخر إلى أعدائه الملحدين الكافرين،وقد قصد أيضاً الأحرار،وقادة المعارضة من مختلف الاتجاهات،وبعد ذلك توالت التهاني على القصر الملكي بنجاة الإمام، من الرئيس عبدالناصر الذي جاء في برقيته «إنه قد تأثر غاية التأثر للاعتداء الأثيم على الإمام» وكذلك من سعود بن عبدالعزيز،والامبراطور «هيلا سيلاسي» الذي وضع طائرة خاصة تحت تصرف الأمير البدر لنقله من أسمرة إلى صنعاء،أثناء عودته من «روما» وأبرق البريطانيون بالتهنئة لنجاة الإمام،وفي نفس الوقت أخذت التهاني بنجاة الإمام تتوالى من كل أنحاء اليمن،ومن الجاليات اليمنية في السودان والحجاز وعدن،وكالعادة فإن هذه البرقيات كانت تتضمن عبارات لاتعبر في الواقع عن المشاعرالحقيقية للناس،وربما لاتعبر حتى عن مشاعر من قاموا بإرسالها.
أما الاتحاد اليمني في عدن فقد أصدر بياناً حمل فيه الإمام أحمد مسئولية ماحدث ومايحدث في اليمن في ظل حكمه الدموي، والذي بدأه بمجزرة الأحرار في عام 8491م،وماتلاه من مجازر طالت رؤوس العديد من الوطنيين في عام 5591م،وقد جرب المسئولون في مواجهتها منذ أن بدأت سبل الشدة المختلفة،السجن ،التشريد،النهب،التعذيب،التخريب للمنازل... إلخ وكذلك القتل دون محاكمة،وبالعشرات،فهل توقفت المحاولات؟
ومن صيغة البيان فإن الاتحاد لم يؤيد العملية،ولم يدع علاقته بها، واتسم موقفه بالحيادية شأنه في ذلك شأن مواقفه السابقة من العمليات الفدائية التي قام بها بعض أحرار اليمن،وشملت مدن صنعاء وتعز،والحديدة،فأخذت عليه بعض قيادات الداخل هذه المواقف،وخالفته قيادة الاتحاد في القاهرة.
وفيما بعد أكد الأحرار صلتهم بالحادث،على الأقل صلتهم بمنفذيه،وذكر جزيلان أن حديثاً جرى بينه وبين العلفي عن الإمام أحمد،وما يرتكبه من جرائم بحق الشعب وأن العلفي كان يتمزق غيظاً لأن الإمام كان يرسل المقربين منه والجواري للعلاج في الخارج،ثم يضن به على الشرفاء،وكان العلفي مريضاً بالقلب،وقد عجز عن الحصول على منحة أو مساعدة علاجية،فقال له الجزيلان «طالما أنت مهدد بالموت،والإمام لن يسمح لك بالعلاج في الخارج،فلماذا لاتقتله وتريح الشعب منه؟
فسأل العلفي في لهفة،كيف ؟أجبت أنت ضابط المستشفى والإمام كثير التردد على المستشفى.
وفي إحدى زياراته إلى هناك يمكنك إطلاق النار عليه وقتله،فقال العلفي في جد وحزم ليس عندي مسدس،ولا أعرف استخدامه،فأعطيته مسدسي ليقوم بإطلاق الرصاص على الإمام وينفذ ما اتفقنا عليه،وهذه الرواية بالإضافة إلى ضعفها،فإنها تتعارض مع روايات آخرين،حيث أكد مدير المستشفى أحمد حسين المروني وزميل اللقية والعلفي أن منفذي العملية قد أقدما على إطلاق النار على الإمام،وخططا له بإرادتهما،وبإحساس منهما بوجوب التخلص منه.
ولمّح السلال دون أن يصرح بعلاقته بالحادث،وبطل المغامرة اللقية فقال:
إن هذا البطل قد نذر نفسه لهذا العمل الجليل،والمهمة العظيمة.. وإن أنس فلن أنسى ذلك اليوم المشهود الذي وصل فيه إلى بيتي المجاور لبيته، ومعه طفله «فائز» حيث ودعني الوداع الأخير،وأوصاني بابنه وأمه،وعذب اللقية أثناء التحقيق تعذيباً شديداً،لكن صلابته النضالية، وإيمانه بقضيته منعاه من الاعتراف بأي صلة بالأحرار،وربما انتزع المحققون معلومات من الهندوانة،تشير إلى علاقة المنفذين ببعض رموز الأحرار،إلا أن لجنة التحقيق لم تأخذ بها،خصوصاً وأن اللقية أبرز منفذي العملية نفى صلته بأي من المشتبه بهم،فحمى رفاقه،وقدم صورة أخرى من صور التضحية،كما أن فدائية العلفي،وإقدامه على الانتحار قبل الوقوع في قبضة جلادي الإمام قد دفنت معه حقائق هامة حول العملية.
الأمر المؤكد الوحيد في صلة اللقية والعلفي بالأحرار،أنهما كانا جزءاً من هذه الظاهرة السياسية التي عرفت بتجمعات الأحرار السرية،أما الادعاء بأن أياً من الأحرار،أو زعماء الجمهورية لاحقاً كان ملهماً أو مخططاً أو داعماً لأبطال المحاولة فإنه أمر يحتاج إلى أكثر من دليل،خصوصاً وأن أبطال العملية الثلاثة قد قضوا نحبهم،ورحلوا بأسرارهم.
بعد هذا الاستعراض الموجز لواقع اليمن في نهاية الخمسينيات،وبداية الستينيات يمكننا أن نلمح الحقائق التالية:-
أولاً: إنه بالرغم من عمليات القتل،والإعدام،والمصادرة،والمطاردة وهدم البيوت،واستباحة الممتلكات،وكل أشكال القمع المادي والمعنوي فقد استعاد الأحرار مكانتهم النضالية،وحيويتهم الكفاحية،وأفاقوا من هول الصدمة الثانية في عام5591م التي أطاحت برؤوس بعضهم،وزجت بالبعض الآخر في السجون،فيما سلمت رؤوس أخرى تكفل القدر ببقائها حية،لقد تطورت مفاهيمهم،وأطروحاتهم السياسية،بتأثير محلي وعربي وعالمي،وعادوا من جديد للتنسيق فيما بينهم مستغلين حالة تصدع في كيان الأسرة المالكة ما انفك ينمو وينمو حتى قارب نهايته.
ثانياً: إن أبرز التجديد السياسي في فكر المعارضة،قد حدث بظهور فكرة الجمهورية،كبديل سياسي لأزمة الحكم،وكحل لمشكلة الصراعات الاجتماعية والدينية،والخلافات الاقليمية التي تطفو بين حين وآخر على السطح،لقد أضحت الفكرة هدفاً في ذاتها،ولم يكن هذا التطور ليحدث لولا أن جيلاً جديداً من المناضلين قد دخل حلبة المقاومة ضد الإمامة بكل ماتعنيه من قيم ومقومات،جيل يعبر عن واقع جديد،وبملامح فكرية جديدة ومغايرة،وبمجرد أن طرحت فكرة الجمهورية،فإنها شقت طريقها في الوسط السياسي،وتناولتها الأقلام المفكرة،ثم تبنتها المنظمات القومية لاحقاً،لكن اللافت للانتباه أن جيلاً شاباً من شيوخ القبائل،ينتمون إلى مشيخات ذات تأثير كمي ونوعي في الحياة السياسية في اليمن،رأى في الفكرة ما لم تره الأجيال السابقة من الشيوخ،وجد ذاته وطموحاته،وآماله فيها،ورأى فيها وسيلة للخروج من أسر المجتمع الزيدي السياسي الامامي،الذي حصر السلطة في فئة اجتماعية بذاتها،تحت دعاوى الحق الإلهي.
ثالثاً: في الواقع لم يحدث تغير كبير في الواقع الاقتصادي الاجتماعي للقبيلة حتى نهاية الخمسينيات،لكن مؤثرات قليلة،ذاخلية وخارجية راحت تدفع بالقبيلة الحامل الاجتماعي للزيدية السياسية لقرون عديدة إلى النأي عنها ومقاومتها،فقد ازدادت الهوة اتساعاً بين الامام والامامة من ناحية وبين القبيلة من ناحية أخرى،وكان هذا التحول هاماً؛لأن القبيلة الزيدية كانت قد أنقذت النظام من خصومه المحليين مرات عديدة،وكانت أزمة النظام أنه لم يعد قادراً على استيعاب المعطيات الجديدة في الواقع اليمني،وفي ال مزاج الاجتماعي الذي بدأ هو الآخر في التحول،وكان الإمام أحمد أكثر حكام العصر تخلفاً ورجعية،وكان يتربع على قمة نظام ليس له مثيلاً في تحجره وانغلاقه.
في المقابل كانت أطروحات المعارضة في الفكر وفي السياسة أكثر جاذبية،يمكننا القول إن فترة نهاية الخمسينيات قد شهدت تراجعاً لقيم أصولية كانت سائدة حتى وقت قريب كما شهدت تقدماً لقيم حديثه ومعاصرة،وقد بدت هذه أكثر وضوحاً في مجال السياسية.
رابعاً: إن محاولات اغتيال الإمام أحمد العديدة في هذه الفترة،لم تكن في الواقع سوى تعبير عن حالة الاحساس بالظلم،والشعور بالإذلال والمهانة التي يتجرعها الناس في عهده،ولقد بلغ الظلم مداه،وشمل أثره كافة فئات المجتمع،فحتى وقت قريب كان الاحساس بالجور والطغيان من نصيب أبناء المناطق الجنوبية الشافعية،أما الخمسينيات وبداية الستينيات،فإن هذا الاحساس وهذا الشعور امتد حتى المناطق الزيدية،كما شمل الفلاح والقبيلي،والشيخ والفقيه،والجندي والعامل،والسياسي وغير السياسي،حتى تبدت الأسرة المالكة منفردة،ومنعزلة،تعيش في أجواء مجتمع يرفضها،ويزداد رفضه لها كلما ازداد شعوره بفقره، ومرضه،وكلما ازدادت هي فساداً،وأثرة،وامتيازاً.
الفصل التاسع
سقوط الإمامة وقيام النظام الجمهوري
1- ظهور التيارات القومية والعقائدية
في نهاية الخسمينيات كانت الأوضاع في اليمن تتجه نحو التغيير، وكانت هناك مؤشرات على أن شيئا ماسيحدث، فقد تكررت محاولات اغتيال الإمام أحمد ونشطت المعارضة السياسية «المدنية والقبلية» في طرح نفسها فكراً وممارسة في الوسط الاجتماعي، وتزايد أنصار التغيير الذين رأوا في الإمامة - كنظام سياسي - عائقاً حقيقياً في الولوج إلى العصر الحديث، والنفاذ من العصور الوسطى، ودخلت الأسرة الحاكمة ذاتها في صراعات كانت تشتد أحياناً، وتخبو أحياناً أخرى. يؤججها إحساس طرفي الصراع الرئيسين «البدريين، والحسنيين» بالشعور بأن أيام الإمام الذي شارف على السبعين من عمره قد أزفت. وشارفت على النهاية. وبدا واضحاً أن هذه الصراعات لم تكن في الواقع بعيدة عن المتغيرات الإقليمية وتنافس القوى الدولية. بل إن اليمن مثلت حينها واحدة من مساحات هذا الصراع العربي الدولي، وظاهرة من ظواهر تجلياته السياسية.
كان الأحرار في اليمن، في هذه الفترة قد تأثروا هم أيضا بما جرى ويجري من حولهم، وكان من أبرز هذه المتغيرات دخول عامل القومية العربية بماتحمله من رؤى فكرية وسياسية تستهدف إعادة اللحمة لأمة فرقتها قوى الاستعمار، ونال منها عامل الزمن.
لقد لجأ الأحرار إلى مصر الثورة بعد 2591. وفي مصر لم يجدوا أمامهم الدعم السياسي والمعنوي فحسب، ولكن وجدوا أمامهم الساحة السياسية في مصر حيث تعج بأفكار وقيم القومية والحرية، والوحدة بتياراتها المختلفة، وكانت هذه التيارات «البعثيون، القوميون العرب» قد أسست لها فروعا وخلايا في القاهرة، واستقطبت الشباب من مختلف أرجاء الوطن العربي، وكان طبيعيا أن يجد فيها الطلبة اليمنيون ملاذا جديداً لطموحاتهم، وإشباعا فكرياً وسياسياً لماتجيش به نفوسهم، وحلولا بدت واقعية وثورية تتناسب مع مايحملونه من هموم وقضايا بلادهم المسكونة بالبؤس والألم والفقر. فاتجهوا إلى هذه التيارات بتنظيماتها المتباينة ذات التوجه القومي غالباً، والماركسية والإسلامية نادراً.
وفيما حافظ أقطاب المعارضة اليمنية ورعيلها الأول على مسافة واضحة بينهم وبين هذه التيارات بما فيها «الناصرية» بالرغم مما كانوا يجدونه من دعم مادي ومعنوي، فإن الجيل اللاحق من الأحرار، ومعظمهم كانوا من الطلبة الذين تلقوا علومهم في القاهرة، ودمشق وبغداد قد تأثروا بهذه التيارات القومية، وبأفكارها الوحدوية التحريرية. وتدريجيا وجد هذا الجيل نفسه موزعاً بين خلايا البعث، وحركة القوميين العرب، أو متأثراً أشد التأثر بعبدالناصر وثورة يوليو، وبأطروحاتها القومية، وتوجهاتها العالمية. وفي خلايا هذه المنظمات تشرب هؤلاء الطلبة ملامح الفكر القومي، ورأوا فيه بديلا فكرياً وسياسياً يتجاوز بهم أطروحات الأحرار القديمة الإصلاحية والمهادنة أحيانا للنظام الإمامي، والصامتة أحيانا أخرى عن الوجود الاستعماري البريطاني في الجنوب. وكانت الثورة في مصر، والتجربة الناصرية في المواجهة مع القوى الاستعمارية والصهيونية. وفي سبيل البناء والتقدم الاجتماعي، ملهماً وهادياً.
كما استقطبت الحركة الإسلامية السرية في مصر حينها بعض رموز الحركة. وقد عرف عن الزبيري ميوله الإسلامية المعتدلة، وقربه من رموزها السياسية دون أن يلزم نفسه بالانضمام إلى صفوفها. ربما منعه من ذلك، ومنع غيره حالة العداء بين الحركة وبين النظام الذي ظل يحتفظ الزبيري وغيره بشيء من الامتنان والوفاء تجاهه بسبب مواقفه القوية والصريحة من الاستعمار في الجنوب والإمامة في الشمال، ودعمه اللامحدود لقضية التغيير والإصلاح في اليمن. ثم تأييده المطلق للثورة والنظام الجمهوري فيما بعد فكان استقطاب التيار الإسلامي للشباب من الأحرار محدوداً. وهذا ينطبق تماما على التيار الماركسي. الذي كان يعمل في بيئة دينية معادية تلقائيا لكل اتجاه إلحادي، أو معاد للدين، وكان حظ الشيوعيين في الانتشار والعمل السياسي مقيداً بهذه البيئة، وان اتحدت مساعيه وتوجهاته مع القوميين في أكثر من مجال، وأكثر من اتجاه.
«أ» التيار القومي
إن لتجربة العمل السياسي القومي، والإسلامي والعقائدي خصوصيات فرضها واقع اليمن المتخلف، وطبيعة النظام البيروقراطي المسيطر، وحالة التشطير التي قسمت اليمن إلى قسمين. حاولت كل الاتجاهات التعامل مع هذا الواقع وفقاً لتوجهاتها الاستراتيجية والتكنيكية، وكان حزب البعث هو أول هذه المنظمات وجوداً، وربما تأسيساً لخلاياه في اليمن.
أولاً : حزب البعث العربي الاشتراكي
تاريخيا تعود فكرة نشوء حزب البعث في البلدان العربية إلى عام 0491 والهدف البارز في برنامج الحزب يتلخص في المقولات التالية : وحدة، حرية، اشتراكية، وهذا الترتيب في أفكار البعث وتوجهاته الكبرى جعل لقضية الوحدة الأولوية، فقد رأى مؤسسو ومنظرو الحزب أن وحدة الأمة العربية حقيقة لاتحتاج إلى إثبات، وان الفوارق التي تفصل بين شعوب الأمة العربية هي فواصل مصطنعة.
لقد تأثرت مفاهيم الحزب في كل أرجاء الوطن العربي بمفاهيم قيادته المركزية في المشرق، وهذه القيادة كانت قد صاغت أفكارها ومفاهيمها كحركة سياسية عام 2491عندما ضم لواء «اسكندرونه» إلى تركيا. فقامت وقتئذ تنظيمات في شكل «حلقة قومية» كونت ماعرف فيما بعد بحركة «البعث العربي الاشتراكي» عام 5491، وصدر دستور الحزب إبان مؤتمره التأسيسي عام 7491. والذي حدد مبادئ وأهداف الحزب بالدعوة إلى وحدة الأمة العربية، ورفع فيما بعد شعار الاشتراكية العربية. مؤكدا في معمعان التجربة والممارسة ضرورة ارتباط الوحدة بالتحرر من الاستعمار في كل صوره وأشكاله. وتداخلت قضية الوحدة في برامجه فيما بعد بقضايا العدالة الاجتماعية.
وفي اليمن تأسس حزب البعث رسمياً في أواخر 9591. وكان موسى الكاظمي قد قام في عام 6591 بمحاولة لتشكيل منظمة حزبية بعثية في عدن إلا أن محاولته لم يكتب لها النجاح بسبب قلة خبراته التنظيمية ونشاطه المحدود. وكانت أفكار البعث قد انتشرت في اليمن بين أوساط المثقفين، وعلى وجه الخصوص المدرسون والطلاب، الذين ذهبوا إلى القاهرة، ودمشق، وبغداد في بعثات تعليمية ثانوية وجامعية، وعادوا إلى اليمن تباعا ابتداء من مطلع الخمسينيات متأثرين بالأفكار القومية، ومشحونين بعواطف العروبة المتقدة، وانخرطوا بعد ذلك في حلقات حزب البعث مكونين لبناته الأولى، ومن أبرز هؤلاء الذين عرفوا كبعثيين في اليمن شماله وجنوبه موسى الكاظمي وأبوبكر الحبشى اللذين درسا في العراق. وعلي عقيل بن يحيى، الذي درس في سوريا، ومحمد سعيد مسواط الذي درس في السودان، وعبدالرحمن الشجاع، وعوض عيسى بامطرف، وزين السقاف الذين درسوا في القاهرة، بالإضافة إلى سلطان القرشي، ومطهر الارياني. ويحيى الشامي الذي تحمل أمانة الحزب في معظم فترات العمل الوطني. وهؤلاء جميعهم كانوا أعضاء في الخلايا البعثية في الخارج. واكتشفوا هناك أهمية العمل التنظيمي في الترويج لأفكار البعث.
وفي نهاية الخمسينيات نجح محسن العيني في تكوين فرع للحزب في عدن، تشكلت حلقاته في عدن وحضرموت، ومن ثم في تعز وصنعاء. واقتداءً بالمركز رفع الفرع شعار الوحدة القومية. والحرية والاشتراكية. ثم أدرك قادته أهمية النضال الوطني القطري إلى جانب التطلعات القومية، فأعلنوا في برنامجهم عن موقف معاد للنظام الإمامي في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب. وأولوا أهمية أقل لقضايا العدل، والاشتراكية، ربما بسبب الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتخلف في شمال اليمن وجنوبه، وإن كانوا قد تبنوا بحماس مشكلات الطبقة العاملة في عدن. ورأسوا حركتها المعادية للاستعمار لفترة من الزمن.
وشكل الحزب قيادة موحدة في اليمن «شمال وجنوب» لكن عدن ظلت مركزا لهذه القيادة لفترة طويلة. وأقام تحالفاته على أساس أطروحاته القومية ودخل في تحالف متين مع قيادة «المؤتمر العمالي»، وزعيمه عبدالله عبدالمجيد الأصنج الذي ناور البعث، وادعى إيمانه بمبادئه حتى استطاع أن يحوز على ثقة وعطف القيادة المركزية القومية في دمشق.
وفي مطلع عام 2691 كان البعث في عدن وبالتحالف مع الأصنج، الذي أصبح فيما بعد زعيما للحزب الشعبي الاشتراكي، يمثل التيار الأكثر هيمنة على المؤسسات النقابية والطلابية وأندية ومنظمات ثقافية واجتماعية. لكنه عجز عن نقل نشاطه وكسب الأنصار بنفس الزخم في المناطق الريفية. فيما نجحت حركة القوميين العرب في ذلك والتي نافسته لاحقا وبقوة في السيطرة على المواقع القيادية للحركة العمالية والطلابية في عدن، والمدن اليمنية الأخرى.
ومع تزايد نشاطه السياسي والتنظيمي، واعتقاد السلطات البريطانية بارتباطه بحركة المعارضة النشطة حينها في بعض مناطق الشمال. وكانت هذه أقرب إلى المعارضة القبلية، قررت السلطة البريطانية إبعاد زعيمه محسن العيني إلى عدن. الذي اختار القاهرة كمنفى اختياري. ولقي فيها رغم انتمائه البعثي كل الترحيب والمساندة. وخصوصا بعد أن قام بترجمة كتاب «كنت طبيبة في اليمن» لطبيبة ألمانية، كشفت فيه النظام الرجعي المتخلف في اليمن، وفضحت الواقع المزري الذي عاشته البلاد في ظل أسرة آل حميد الدين، فأثار ذلك الإمام. وطلب من السلطات البريطانية في عدن معاقبة العيني وقد فضلت هذه نفيه تجنبا للحرج.
ولايذكر محسن العيني، الذي كتب كثيرا عن تجربته الشخصية في مجال السياسة، شيئا عن تجربته في تأسيس حزب البعث ، إلا أنه لاينكر انضمامه إلى الحزب بتأثير من بعض القيادات المركزية في دمشق، مشيراً إلى أن انتماءه إلى حزب البعث جاء في فترة الوفاق بين عبدالناصر والقيادة المركزية عندما كانت قضايا المنطقة، ومشكلات الوطن العربي توحد بين رؤى القيادة في مصر، وقيادة الحزب في الشام. أو كما قال : وقد بادرني عبدالناصر بالسؤال عن فترة انضمامي للحزب، فقلت له: «عندما كنتم» سمن على عسل» مع قيادة الحزب وعندما كنتم تحضرون لوحدة سوريا ومصر. عندما ارتفعت الشعارات القومية، وعمت المطبوعات والمنشورات شوارع القاهرة، وحلمنا بتحقيق الوحدة من المحيط إلى الخليج.
إلا أن مكانة الحزب أخذت في التراجع على خلفية صراع البعث مع عبدالناصر حينما أيد البعث الانفصال، بالإضافة إلى خلافاتهم الحزبية، وعدائهم غير المبرر. إلا من وجهة نظر شوفينيه مع التيار الماركسي في اليمن. فكان ذلك يفقدهم تباعا مواقعهم في طليعة النضال الوطني. والتي كانت عناصر حركة القوميين العرب، والعناصر الناصرية والماركسية تحتلها موقعاً أثر الآخر. فعزز ذلك من عزلتهم السياسية، ومن ثم كرس عزلتهم الاجتماعية خصوصا مع الريف الذي ترك إما للقوميين العرب أو لرابطة أبناء الجنوب.
ومع ذلك فإن من الخطأ عدم ملاحظة الدور الهام الذي لعبه البعثيون في النضال ضد الإمامة في الشمال، والاستعمار في الجنوب، وربما كان خطؤهم القاتل أنهم لم يعملوا في الوقت المناسب على فك الارتباط السياسي التحالفي مع الحزب الشعبي بقيادة الاصنج، وتياره في الحركة العمالية، وكان هذا التيار قد جنح إلى مواقف وسطية مهادنة مع المستعمرين. وغالى في مواقفه غير المدروسة من مصر الناصرية. في وقت كانت المنطقة تغلي بشعور ثوري قومي تحرري عارم. وكانت مصر حينها قبلة كل الثوريين العرب.
وكان العداء لمصر حينها عداء للأمة العربية. ومقياسا لثورية المنظمات العربية لقد ساهم البعثيون في التحضير للثورة اليمنية من خلال نشاط أنصارهم في الهيئات الشعبية وفي الجيش اليمني، وآزر البعث ثورة 62 سبتمبر، وساهم في أول تشكيل حكومي لها، كما ساهم في الدفاع عنها وحمايتها، أما في الجنوب فقد كان موقفه مختلفا من ثورة 41 أكتوبر.
ثانياً : حركة القوميين العرب
تأسست حركة القوميين العرب كرد فعل على حالة الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية في الحرب مع إسرائيل في عام 8491. وقد عبرت الصياغة الأولى لأهداف وشعارات عن ردود الفعل هذه «وحدة - حرية - ثأر ». إلا أن الحركة وفي خضم الممارسة والتجربة النضالية أعادت صياغة أهدافها على نحو اقتربت فيه فيما بعد من شعارات وأهداف ثورة يوليو 2591 في مصر، بإعلان تبنيها لاستقلال البلدان العربية، وحريرها من نير الاحتلال الأجنبي، ثم تحقيق الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، وإحداث تنمية شاملة، كان قادة الحركة يتصورونها في الأغلب على مثال النموذج الناصري.
وكان واضحا منذ البداية أن مؤسسي الحركة من الطلاب قد تأثروا بأفكار قومية كان البستاني، وساطع الحصرى، وأستاذهم في الجامعة الأمريكية قسطنطين زريق قد دعوا إليها. وهؤلاء كانت قد نضجت في كتاباتهم رؤية استراتيجية . تحمل قدراً من الضبابية، تقوم على اعتبار الأمة العربية أمة واحدة، تربطها روابط اللغة، والثقافة، والتاريخ المشترك، وربما أضاف بعضهم الأرض الواحدة المتصلة دون حواجز المعنوية في حياة العرب إذ قلل منظرو الحركة من أهمية عوامل اقتصادية واجتماعية كان لابد أن تفرض نفسها على قادة الحركة لاحقا. ولهذا نرى القوميين يقفون في الصف ذاته الذي وقفه البعثيون فرفضوا الاعتراف بفكرة الصراع الطبقي، على اعتبار أن إثارة للصراع الطبقي من شأنها ان تفتت وحدة الأمة العربية، والتي كانت في ذلك الحين أملا ورؤية، كما تضعف من معركتها القومية ضد التجزئة، والاستعمار، والصهيونية.
ومن هنا وجد القوميون العرب أنفسهم في حالة خلاف وعداء شديدين مع التيار الماركسي في اليمن، واستبعدوا أي شكل من أشكال التعاون معهم. كان الهدف الأسمى هو تحقيق الوحدة العربية بأي ثمن كان. وبعيداً عن تصنيف طبقي لمجتمع الأمة، ودون الالتفات إلى مكانة ودور الأعداء الطبقيين لحركة التحرر الوطني العربية. الذين ارتبطت مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية بالوجود الاستعماري المباشر وغير المباشر وكانوا ركيزة هذا الوجود وحلفاءه.
وفي نهاية النصف الأول من الخمسينيات أخذت الحركة تتطور في الأردن ولبنان والكويت، وبدرجة أقل في سوريا والعراق، إلا إنها أصبحت قوة متزايدة النمو والتنظيم.
وكان زعماؤها العقائديون يكتبون بصورة منتظمة في الصحف، ويروجون لأطروحاتهم، وأفكارهم النظرية. وبين عامي 5591- 7591 اكتسبت الحركة بعض شعبيتها بسبب مواقفها المعادية للأحلاف العسكرية الإمبريالية في المنطقة. وفي عام 6591 استقبلت الحركة بحماس كبير قرار عبدالناصر بتأميم قناة السويس، ورحبت ترحيباً حاراً بالوحدة المصرية السورية في عام 8591. وفي هذه الفترة ، كان زعماء الحركة يعتبرون ثورة يوليو في مصر، الثورة العربية القومية الرئيسية، والناصرية التيار الثوري الرئيسي في العالم العربي. غير أنهم كانوا يأخذون بالحسبان أن الناصرية كتيار له أتباع في العديد من البلدان العربية لم يتحول إلى تنظيم سياسي، لذلك أعتبروا أن الحفاظ على الاستقلالية التنظيمية أمر ضروري. في ظل وجود منظمات منافسة، كالبعث، وقد استثمروا عزوف الناصرية عن التنظيم أيما استثمار.
لقد فرضت حالة الانتشار والتوسع للحركة في بلدان عربية عديدة مع نهاية الخمسينيات، تطورات فكرية وسياسية داخل صفوف الحركة وبين أوساط النخبة التي تولت التنظير الفكري والسياسي لها، حيث برزت قضايا التحرر أكثر ارتباطا بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من أبناء الأمة العربية، وكان لابد من تطوير المفاهيم القومية العامة، التي بدت حينها وكأنها مبادئ متزمتة، بل وشوفينية. وطرحت لأول مرة في الفرع اللبناني للحركة مسألة ربط النضال القومي، بالنضال ضد قوى طبقية معينة في المجتمع، وأفكار حول إعادة بناء المجتمع العربي على أسس جديدة. وقد شكلت هذه التحولات في فكر الحركة أساسا لخلافات برزت في صفوفها. مالبثت أن اتسعت.
وهذه التحولات كانت ذات مدلولات مستقبلية بالنسبة لفرع الحركة في اليمن الذي تأسس في هذا الوقت بالذات «9591» على أن الجوهري في تأثير هذه التحولات والخلافات في صفوف الحركة هو أنها أتاحت لفرع حركة القوميين العرب في اليمن، أولا: دراسة ظواهر وحاجات المجتمع اليمني بمعزل عن المفاهيم التقليدية للحركة في المركز، وثانيا : ساهمت في تمتع الحركة بقدر واسع من الاستقلالية من اتخاذ القرار السياسي.
لقد نشأ فرع حركة القوميين العرب في عدن في منطقة الشيخ عثمان في عام 9591، وأخذ ينشط حاملا شعارات قومية وطنية من بينها محاربة الاستعمار البريطاني، والإقطاع الرجعي، والبرجوازية العميلة. مطالبا بإسقاط النظام الإمامي الرجعي في الشمال، والعمل من أجل وحدة اليمن، والوحدة العربية. كان تأثير حركة التجديد في المركز والتي قادها الفرع اللبناني بأطروحاته الاجتماعية والتي وحدت بين ماهو قومي وماهو اجتماعي سياسي واضحاً في شعارات الفرع اليمني، وأهدافه النضالية، فقادة الحركة في اليمن أعلنوا بوضوح أن الإقطاع العشائري، والبرجوازية الكومبرادوية «التجارية الكبيرة» والنظام الإقطاعي الملكي في الشمال، تشكل عوائق كبيرة أمام إنجاز عملية التحرير، وتحقيق الوحدة اليمنية والعربية، وأن النضال ضد الاستعمار البريطاني، يرتبط موضوعيا بالنضال ضد مرتكزاته المحلية التي يعتمد في وجوده عليها، فكانت مفاهيم الفرع، بقدر ماهي مخالفة لمفاهيم المركز، بقدر ماهي تطوير لهذه المفاهيم، وتطبيق خلاق لها في واقع مختلف، وذى خصائص محلية تختلف عما عليه الحال في مراكز نشوء الحركة في الشام.
وكان أبرز مؤسسي فرع اليمن فيصل عبداللطيف الذي كان واحداً في أول تشكيل مركزي للحركة في الجامعة الأمريكية ببيروت. وعلي أحمد السلامي، وطه مقبل، وسيف الضالعي. ثم انضم إليهم، ومن الجنوب سالم ربيع علي، وعبدالفتاح إسماعيل وقحطان الشعبي «أقطاب الجبهة القومية». وكذلك علي ناصر محمد، ومحمد علي هيثم وعلي سالم البيض. وعرف أيضا من مؤسسي الفرع نور الدين قاسم، وجعفر علي عوض وناصر السقاف، وسالم زين، ومن الشمال سلطان أحمد عمر، وعبدالحافظ قائد، ويحيى الارياني وعبدالكريم الارياني وعبدالرحمن محمد سعيد، وشمسان الذبحاني، وعوض الحامد، وعلي سيف مقبل، ومالك الارياني، وسعيد الجناحي، وأحمد قاسم دماج. ومحمد سيف ثابت وكان فرع الحركة قد نشأ على مستوى اليمن تأكيدا لرؤية الحركة بوحدة الشمال والجنوب. وحافظ على وضع قيادي موحد تحمل فيه مسئولية الإقليم فيصل عبداللطيف بالإضافة إلى مسئوليته عن فرع الجنوب، وتولى مسئولية قيادة فرع الشمال سلطان أحمد عمر، ثم عبدالحافظ قائد. وقيل يحيى الارياني وإن كان القول الأخير فيه شيء من عدم الدقة، حيث أغلبية المصادر تميل إلى تأكيد رئاسة سلطان لفرع الحركة في الشمال.
ونجح القوميون العرب في اليمن في تكوين منظماتهم المدنية في الفترة نفسها التي كانت تتكون فيها منظمات البعث، الأمر الذي يوحي بقبول شعبي للفكر القومي آنذاك، خاصة في عدن، والمدن اليمنية الأخرى. ونافس القوميون العرب البعث والماركسيين في السيطرة على الحركة العمالية. ونجح عبدالفتاح إسماعيل في تأسيس أولى خلايا القوميين العرب في الحركة العمالية. كان من أبرز أعضائها، محمود عشيش، ومحمد صالح العولقي، وأحمد صالح الشاعر. كما نجح كل من سالم ربيع علي، وعلي سالم البيض، في تكوين المنظمات القومية في المحمية عدن، وفي حضرموت وكذلك فعل علي ناصر محمد الذي كون خلية ضمت كلا من حسين الجابري ومحمد سليمان ناصر ومحمد علي هيثم واعتمد تنظيم الحركة على قواعد صارمة في عمله التنظيمي للحفاظ على السرية وحماية الحركة من أي اختراقات محتملة في ظل الصراع مع الاحتلال البريطاني، والنظام الإمامي في الشمال، كانت هذه القواعد شبيهة بتلك القواعد التي اعتمدها حزب البعث.
ومن هذه القواعد، القيادة الجماعية، والقيادة للأكفاء، والتفاعل المنظم بين القيادة والقاعدة، السرية التامة في العمل، والنقد الذاتي، وأخيرا نفذ ثم ناقش.
وأعلنت الحركة إيمانها بالكفاح المسلح سبيلا للخلاص الوطني. وأن حركة تحرير الوطن من الوجود الأجنبي البريطاني، لايمكن خوضها إلا بالجسم اليمني كله، لهذا أدركت الحركة أهمية إسقاط النظام الإمامي في الشمال، والانطلاق منه لتحرير الجنوب.
ومن ثم تحقيق وحدة اليمن. وإقامة جمهورية واحدة. وهذه الرؤية سمحت لها بالعمل المشترك مع التيارات الأخرى لتهيئة الشمال للثورة والدفاع عن الجمهورية لاحقاً. غير أن دورها الريادي والقيادي يبرز بوضوح أكبر في الإعداد لثورة 41 أكتوبر في الجنوب.
وإلى جانب أن الحركة قد عززت من مواقعها في عدن، ومن ثم في مدن الشمال، صنعاء، وتعز، والحديدة، إلا أنها أخذت تستميل إلى صفوفها الفئات الأكثر فقراً في الريف. من الموظفين والمعلمين، والطلاب، وبعض الشيوخ وأبناء القبائل، والفلاحين ومن هذه الفئات تكونت خلايا حركة القوميين العرب. والتي أخذت قيادة الحركة تعدها لخوض معركة التحرير في الجنوب. ومعركة التغيير الثوري في الشمال.
وفيما كانت الحركة في مركزها وفي فروعها قريبة من الثورة في مصر، كانت خلافاتها مع البعث قد تفاقمت بسبب ارتباط البعث الوثيق بالسياسة التي اتبعها عبدالله الاصنج المهادنة للوجود البريطاني في عدن والمحميات. ومن ناحية بسبب الخلاف العميق بين البعث وعبدالناصر، وقد ازداد هذا الخلاف عمقا بعد الانفصال في عام 1691. كما أن الحركة قد اتخذت مواقف معادية للتيار الماركسي. ومن ثم للاتحاد الشعبي ومنظمة الشبيبة التابعة له. وفي سياق المواجهة السياسية العدائية لفرع الحركة مع الشيوعيين رفعت الحركة شعار «الجهة القومية» تعبيراً عن الهوية الفكرية، وذلك كنقيض لشعار «الجهة الوطنية» الذي رفعته المجموعة الماركسية بقيادة عبدالله باذيب، زعيم التيار الماركسي في اليمن، وناهضت الحركة قيادات المؤتمر العمالي، ورابطة أبناء الجنوب، والجمعية العدنية. ونظرت إليها كمنظمات انفصالية أو إقليمية.
ولم تكن حركة القوميين العرب على خلاف مع الاتحاد اليمني، وأحرار اليمن، ولكنها لم تكن على اتفاق تام معهم، لقد باءت محاولاتها بالوصول إلى قواسم مشتركة مع الاتحاد بالفشل. وعلى وجه الخصوص فإن محاولة قحطان الشعبي تأسيس تنظيم قومي عام يقود النضال ضد الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب لم تحظ بموافقة الأحرار.
وقد انتهت الاجتماعات المشتركة لقادة الحركة. وأحرار اليمن في القاهرة في نهاية 1691، وبداية 2691 دون الاتفاق على رؤية معينة. كانت مسودة المشروع قد أكدت من جديد على عروبة اليمن، ووحدة نضاله في الإقليم اليمني باعتباره جزءا من النضال العربي العام، وحددت الوثيقة المهام المستقبلية للحركة القومية في اليمن. كما أعادت الوثيقة إلى الأذهان موقف القوميين العرب من الحركة الشيوعية، والمنظمات الإقليمية والانفصالية. ومع قيام الثورة في الشمال وكانت عناصر الحركة قد أسهمت في التحضير لها، وجد القوميون الفرصة متاحة أمامهم لتحقيق أهدافهم في الجنوب، عبر النضال المسلح الذي تبنته الحركة، فأعطت الحركة الوطنية في اليمن وسيلة نضالية جديدة، انفردت بها، ثم لحقت بها بقية الفصائل الوطنية.
«ب» التيار الماركسي
ربما تعود البدايات الأولى في تشكيل خلايا شيوعية في اليمن إلى عام 1491، حيث كانت أصابع الاتهام تشير حينها إلى القاضي محمد راغب بك، وقيل إن أول من نوه إلى شيوعية «راغب بك» هو مندوب بريطانيا في عدن، متهماً راغب بالانتماء سابقاً إلى الحزب الشيوعي التركي، وقد كان راغب تركي الأصل، وممن أبقاهم الإمام يحيى في خدمته بعد الحرب العالمية الأولى- ملمحاً إلى منصبه كسفير سابق لتركيا لدى الاتحاد السوفييتي، ثم تواترت الأقاويل عن شيوعية راغب ومقدرته على تشكيل خلايا شيوعية من عدة جهات. من الفضيل الورتلاني عضو جماعة الإخوان المسلمين الذي أبدى مقاطعة واضحة نحو راغب، لهذا الاعتقاد، وكان الإسلاميون حينها يستخطرون الشيوعية على الاستعمار، لنشوئها من الداخل. وجاءت الإشارة التالية إلى راغب عن طريق القنصل الإيطالي. ربما كرد فعل على اقتراح راغب إلى الإمام يحيى، بإبعاده عن اليمن، وإغلاق القنصلية الإيطالية لأنها صارت خلية «فاشية».
وكانت هناك أسباب أخرى لتوجيه أصابع الاتهام إلى راغب. منها قلة تدينه. وكان يمكن أن يؤخذ بهذه الفرية، لولا أن فترة الإمام يحيى كانت فترة تسامح. ولم يكن قلة التدين دليلا على الشيوعية أو الإلحاد. فلقد كان علماء الدين حينذاك يتواصون بحسن الظن بالناس، وعدم البحث عن السرائر إلا أن تهمة الشيوعية ظلت تلاحق راغب الذي زوج إحدى بناته لطبيب لبناني اسمه ممدوح تحسين باشا، كان يعمل في اليمن. وكمان هذا الطبيب قد اتهم بتشكيل خلايا شيوعية تحت مظلة راغب بك. لانتمائه إلى تنظيم شيتوعي في لبنان. ولأنه كان على علاقة صداقة مع عبدالله باذيب، رمز الحركة الشيوعية في اليمن. وزعيمها في العقود اللاحقة. ومع ذلك فإن الشيوعيين في تلك المرحلة المبكرة. «نهاية الأربعينيات» إن كان هناك شيوعيون حقا، لم يفصحوا عن أنفسهم سياسة وفكراً حتى وقت متأخر في الخمسينيات.
من هنا يمكن القول بأن بداية ظهور الأفكار الشيوعية في اليمن إنما تعود على وجه الدقة إلى سنوات الخمسينات. وذلك عن طريق بعض الطلبة الذين درسوا في الخارج، وكذلك عن طريق بعض النقابيين الذين اتصلوا بالهيئات النقابية الدولية.
كان عبدالله باذيب قد عرف كشخصية وطنية مرموقة منذ عام 0591، فقد بدأ نشاطه السياسي عندما كان طالباً، ثم صحفياً، كتب في أكثر من صحيفة وطنية وشارك في تحريرها. وبسبب كتاباته الوطنية الجسورة ضد الوجود الأجنبي البريطاني في الجنوب اعتقل وقدم إلى محاكمة مشهورة في سبتمبر 5591بتهمة إثارة الكراهية ضد الحكومة «حكومة الاحتلال» وكان باذيب مثله مثل غيره من مثقفي عصره، صاحب شعور مرهف، وإحساس عميق بأزمة مجتمعه المركبة الناتجة عن الاحتلال الأجنبي، والقهر الطبقي، فقد كانت الفوارق الطبقية في اليمن عموما، وفي عدن خصوصا تستدعي النظر والرفض والتحدي، وكان الفكر القومي الذي أخذ يسود في أدبيات التيارات الحديثة قد انطوى على ثغرات كبيرة في جانبه الاجتماعي. وكان التأسيس النظري لدى البعث ضعيفا فتحول عبدالله باذيب إلى الفكر الماركسي، الذي كان له جاذبية آنذاك خاصة في جانبه المادي التاريخي، كماهي الحال بالنسبة لكثيرين من الشباب العرب.
في البداية عمل الماركسيون تحت مظلة المنظمات الاجتماعية والثقافية والتنظيمات السياسية المحلية ومنها رابطة أبناء الجنوب، وبعد أن انفضت الكثير من العناصر الوطنية من حول الرابطة، ظهروا كتيار متميز، يعقد أنصاره اللقاءات فيما بينهم لبحث القضايا السياسية المطروحة أمام الحركة الوطنية. وقد نشطوا عبر كتاباتهم في الصحف، في الوقت الذي كانت تتكون في القاهرة خلية ماركسية يمنية كان أبرز عناصرها عمر الجاوي، وأبوبكر السقاف، وعبدالله حسن العالم، وخالد فضل منصور، ثم تكونت بعد ذلك خلاياهم في الحوطة،والمكلا وتعز وصنعاء ومع نهاية الخمسينيات أصبح بالإمكان الإعداد لبناء حزب ماركسي في اليمن، على طراز الأحزاب الماركسية في البلدان الاشتراكية.
إلا أن عبدالله باذيب كما رأينا تعرض للملاحقة في عدن من قبل سلطات الاحتلال فانتقل إلى تعز في عام 9591، في فترة كانت علاقات الإمام أحمد بالمعسكر الاشتراكي قد نمت على النحو الذي رأينا، وربما راهن باذيب على الأمير «البدر» وهو الأمر الذي جعله مقبولاً من الإمام، سمح له على أثرها بإصدار صحيفة «الطليعة» التي غدت منذ ذلك الحين، صحيفة كل الماركسيين في اليمن. كان يفد عليه رجال معممون من صنعاء، لهم سابق صلة براغب والحجري وممدوح معاً. وعلي باذيب كان على اتصال برؤساء تلك الخلايا التي كان يعتقد بوجودها في الفترات السابقة. وكان يبدي مخاوفه من قيام ثورة عسكرية باليمن في الستينيات لأنها ستستعين بجمال عبدالناصر، الذي كان يقول عنه باذيب انه على عظمته لايطيق حرية الشعب، وعلنية الأحزاب وكان باذيب ممن يرون أن هناك فرقا بين الحريات الاجتماعية والحريات السياسية التي تمثلها أحزاب، ورأى أن المهمة الوطنية تفرض على المثقفين والعسكريين أن يتحركوا في ظل الممكن، وأن يسايروا نضج الظروف متعاونين مع الإمام، لأن الشعوب لاتظفر من واقعها بريح سحرية، ولاطلقة مدفع.
وهاجم باذيب زعماء الأحرار النعمان والزبيري، لكن عبدالرحمن الارياني نجح في تحقيق شيء من المصالحة بين الأحرار والماركسيين، وهاجم في نفس الوقت وجود «النقطة الرابعة الأمريكية» التي كان مقرها تعز، وهي النافذة التي كان الأمريكيون يطلون من خلالها على اليمن، ولكن فترة الوفاق بين باذيب والنظام الإمامي لم تدم طويلا، فأغلق الإمام صحيفة «الطليعة» ولوحق باذيب، وهرب عائدا إلى عدن في نهاية عام 0691.
كما شنت صحف عدن، واليمن هجوما على باذيب والتيار الماركسي، متهمة إياه بالتآمر لقلب نظام الحكم في اليمن، والإتيان بنظام يدور في فلك السوفييت.
وفي أكتوبر 1691 أعلن في عدن عن تأسيس الاتحاد الشعبي الديمقراطي، حزبا سياسيا للماركسيين، تولى عبدالله باذيب زعامته. وعرف من قياداته، علي باذيب، وعبدالله صالح عبده، وأحمد سعيد باخبرة. وجبر بن جبر، وعبدالرحمن خبارة، وأعلن الحزب عن توجهاته السياسية معتبراً الاستعمار هو العدو الرئيسي في مرحلة التحرير الوطني، ودعا إلى الديمقراطية، ورفض المشاريع الاستعمارية الداعية إلى تكريس الاحتلال، وتجزئة الوطن الواحد، بما فيها مشروع الاتحاد الفيدرالي.
وربما كان للشيوعيين السبق إلى طرح فكرة اليمن الديمقراطي الموحد، تلك الفكرة التي توحدت حولها فيما بعد الفصائل القومية واليسارية واعتبر رفض الوحدة بسبب النظام الإمامي في الشمال سبباً غير مقنع ولكنه في نفس الوقت رفض كل المحاولات لاقامة تنظيم قومي وكان موقف الشيوعيين من المسألة القومية كنهج معروفاً، ليس على المستوى اليمني، ولكن على المستوى العربي أيضاً وهو ما ألحق بهم أضراراً كبيرة ولذلك نراهم في هذه الحقبة يرفضون شعار الوحدة العربية الفورية وشعار الوحدة اليمنية الشعبية وبرغم هذه الضبابية، والانفعالية السياسية في مواجهة التيار القومي، فإن برنامج الحزب في الممارسة والتجربة العملية فيما يتعلق بالقضايا الوطنية، وحتى القومية لاحقاً بدا أكثر وضوحاً من غيره من المنظمات الأخرى.
ولأنه كان على الحزب والشيوعيين أن يخوضوا معارك وطنية وسياسية وأيدلوجية، مع أعداء مختلفين بدءاً بالمستعمرين الأجانب، والقوى الرجعية في المجتمع، وبعض الفصائل الوطنية، والتي كانت ترى فيهم مجرد امتداد للأحزاب الشيوعية في المعسكر الشرقي فقد عني قادة الحزب بتوضيح مواقفهم المختلفة من قضايا الصراع مع العدو الاستعماري وركائزه المحلية وربما عدلوا لاحقاً من اطروحاتهم القومية، إذ حرصوا على التأكيد على هويتهم القومية، وتمسكهم بالنضال العربي طريقاً إلى الوحدة العربية الشاملة.
وعندما أعلنت الثورة في الشمال، وأطيح بالنظام الملكي، وجاءت البيانات الأولى للنظام الجديد لتفصح عن هويته القومية، وقربه من الجمهورية العربية المتحدة أعلن الحزب غير متردد موقفه الداعم والمؤيد لها وحفز المئات من أنصاره خصوصاً أعضاء «منظمة الشبيبة» للتطوع دفاعاً عن النظام الجمهوري الجديد ورداً على ذلك قامت السلطات البريطانية الحاكمة في عدن باقفال مركز المنظمة ووضع أعضائها تحت الرقابة، واعتقال قادة الحزب.
«ج » التيار الديني«الاخوان المسلمين
يجري الحديث هنا عن الاسلام السياسي وهو التنظيم السياسي الذي يمثل «الاخوان المسلمون» رمزه ومثاله، أي التيار الذي درج معظم المؤرخين على وصفه بالتيار الأصولي، النقيض للمعاصرة، وبهذه الصفة السياسية لا الدينية فإنه يمكننا القول إن الاخوان ربما فقدوا بعد فشل انقلاب 8491م كل وجود تنظيمي لهم في اليمن أو هكذا نفترض في البداية، ونقول كل وجود تنظيمي لأنه يصعب القول إن ذلك قد حدث على مستوى الأفراد المؤمنين بفكر الاخوان، وعقيدة الاخوان السياسية، فوجود أنصار أو مؤيدين في السر على الأقل أمر يظل محتملاً.
وليس دقيقاً القول إن الزبيري والشامي وغيرهما، هم امتداد لذلك التنظيم الذي كان يرعاه ويقوده الفضيل الورتلاني كان هؤلاء وغيرهم قد أبدوا اعجابهم بالفضيل الورتلاني، وعبروا عن هذا الاعجاب بصور عديدة ومختلفة لكن أبلغ هذه الصور هو انقيادهم الأعمى لطاعته ورغباته الجامحة وغير المدروسة، والتي أودت بهم جميعاً إما إلى المقاصل أوالسجون الرهيبة، أو إلى المنافي الموحشة كان تأثير الورتلاني واضحاً حتى على زعماء الانقلاب الذين لاصلة بينهم وبين فكر الورتلاني الاخواني إلا من ناحية الايمان المشترك بأركان العقيدة الاسلامية، وبعضهم كما هي حالة مقتنعي المذهب الزيدي في حالة خلاف عميق معه في الفروع على الأقل، وهو اختلاف لايمكن التقليل من شأنه.
لقد عول الزبيري، وربما الشامي، والعزب، والعنسي، والحورش، وحتى النعمان وإن كان في حذر على قدرة الجماعة الاسلامية وخبرة الاخوان في مصر وحسن البنا الزعيم الروحي والسياسي للاخوان في دعمهم، واسناد مهمتهم في القضاء على الإمامة، واقامة نظام اسلامي، دستوري، شوروي، واهمين أن بامكان الحركة أن تحشد بمالها من تأثير على الرأي العام العربي إلى جانبهم، وأن تجعل الحكومات العربية تعترف بنظامهم الجديد، ثم اكتشفوا في معمعان التجربة ومع الحصاد الدامي والمر، الشديد المرارة، أنهم كانوا يعيشون في حالة من الوهم القاتل بل إن قادة حركة الأحرار في اليمن ومنهم زعيم الحركة الزبيري وزميله النعمان، أدركوا أن الاخوان المسلمين قد ورطوهم بدفعهم لقتل الإمام يحيى، الذي لازال الكثير من أهل اليمن، وربما غالبيتهم يرون فيه رجل الدين، وإمام الأمة، والمحرر من الاحتلال العثماني، والشيخ الموغل والطاعن في السن وللسن وقاره، وهذه الصورة لا شك أن الاخوان المسلمين في مصر، ومندوبهم الورتلاني، كانوا يجهلونها، أو هم تجاهلوها، فدفعوا أحرار اليمن دفعاً للانقلاب على الإمام، وقتله اغتيالاً، ولم يكن للاغتيال السياسي في اليمن الحديث سابقة وكانت ثقافة الانقلاب والاغتيال ثقافة جديدة على الغالبية من أهل اليمن.
لقد أصيب الزبيري بخيبة أمل كبرى واجتاحته ردود فعل قوية، وهو يرى نفسه منفياً، ومطارداً، ومطلوباً للاعدام لم تقبله دولة عربية لاجئاً إليها، وقبلته باكستان على استحياء فشعر بحالة غضب شديدة على الزعماء والساسة والأحزاب، ومنهم بالطبع وقبلهم«الاخوان المسلمين» وقد عبر عن خيبة أمله هذه، وعن غضبه هذا مخاطباً زميله النعمان قائلاً: إن تفكيرنا في أساسه كان مجلوباً من السوق السياسية العربية، بما فيها من جمعيات وأحزاب وصحف، ومحاضرات وزعماء ودجالين، ممن أفسدتهم ولوثت ضمائرهم الخصومات والأغراض والنزعة التجارية بمصائر الشعوب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.