لدى الإنسان اليمني وسائله الخاصة التي يبتكرها ، لمكافحة الفقر ، ومن هذه الطرق الفريدة ، استخدام بنادق الصيد في كسب الرزق ، وهو عمل يقوم على قليل من التكاليف ، ويعتمد على عشق أبناء اليمن للرماية وإثبات التميز والفحولة عن طريق قنص الهدف. أصحاب هذه البنادق يقفون في الشوارع بدون أن يثيروا فضول أحد ، ولكن في الحقيقة لهم قصص مع بنادق الصيد لم تحدث مع غيرهم ، فحين كان كل شيء ضدهم كانت البنادق إلى جانبهم ، وحمتهم عندما حاصرهم الفقر. صيد النهار الحاج قاسم عبدالله ثابت (50) عاماً أحد الذين اتخدوا من بندقية الصيد مهنة يعتاشون منها ، فهو ينهض كل صباح حاملاً عدة العمل التي تتكون من بندقية الصيد ولوح خشبي ثبت عليه مجموعة أهداف مكونة من علب فارغة وأغطية قوارير وحبات نعناع وأعواد ثقاب ، وتحت حر الشمس يجلس منتظراً هواة الرماية منذ (18) عاماً ، وهو يخفي تحت تجاعيد وجهه الكثيفة قصة حياته والصراع المرير الذي يخوضه مع الفقر بواسطة بندقيته ، قاسم والد لسبعة أبناء يعيشون معه على ما تؤمنه بندقية الصيد. بداية جديدة حكاية العم قاسم مع البندقية بدأت في العام 1990م عندما عاد من الغربة ، يقول : - في تلك الفترة أجهضت كل أحلامي رغم بساطتها ، عانيت الشظف والفقر ولم يكن هناك أحد مستعد لإعانتي لأبدأ حياتي من جديد ، كان أطفالي يتضرعون جوعاً ، وقد تفاقمت علي المشاكل وغزلت شباكها حولي حتى جعلتني عاجزاً عن اتخاذ أي حل .. وقد بدأت ببيع مقتنيات منزلي من أجهزة كهربائية وفرش وغير ذلك ، إلى أن تبقت معي هذه البندقية والتي كنت قد اشتريتها سابقاً بغرض التسلية ، وعندما خرجت لبيعها في أحد الأسواق الموسمية تجمع عليها الناس وأخذوا يجربونها ، ثم نصحني أحدهم بأن أتخذها وسيلة لاكتساب الرزق ، استحسنت الفكرة وبدأت العمل وشيئاً فشيئاً بدأت الفكرة الغريبة تؤتي ثمارها ، وقد شكلت فارقاً في حياتي ، فقد وجدت إقبال الناس بشكل لم أكن أتوقعه. لم تؤمن البندقية كل شيء للعم قاسم وأسرته ، ولكنها خففت له القليل من الكرامة ، فهو مطالب بمصاريف أكثر من أن تسدها بندقية صيد ، ولا يجيد عملاً آخر غيرها ، كما أنه لم يعد يطمح بعمل آخر لتحسين الدخل ، فقد تقادم العمر على التفكير أن هناك مجالاً للمجازفة والتجريب بعمل آخر فهو يقول : «عندما كنت فعلاً بحاجة إلى عمل آخر رفضني الجميع ، وقبلتني هذه البندقية». تهبط أولى مساحات الليل فيعلن النهار انسحابه يقوم العم قاسم بلملمة عدة العمل ويغادر هو الآخر ، وقد امتلأ جيبه بالعملة المعدنية ثقيلة الوزن خفيفة الصرف! تطوير المهنة الشاب منصور الدميني (30) عاماً يروي كيف بدأت قصته مع بندقية الصيد وما آلت إليه حياته بسببها ، فهو يتهمها ، بالتسبب في ضياع مستقبله وفي ذات الوقت الأمل الوحيد الذي بقي له للعيش ، حيث إنها مصدر دخله الوحيد ، يتخذ منصور ركناًِ في شارع عصيفرة بمدينة تعز ، وقد قام بعمل إضافات لتطوير اسلوب العمل وجذب الزبائن ، عبر تطوير حامل حديدي تثبت عليه البندقية ويجعل إصابتها للهدف أكثر دقة مما يغري الرماة بإنفاق المزيد من أجل الشعور بالرضا والتفوق. الخطأ الأول قصة منصور مع البندقية بدأت في مرحلة مبكرة من العمر وتحديداً عندما كان في العام (12) عندما اكتشف أنه يمتلك قدرات استثنائية في قنص الأهداف مقارنة بالآخرين صغاراً وكباراً ، وقد أخذ جميع من في القرية يثنون عليه لأنه يصيب أي هدف مهما كان صغيراً وبعيداً ، ترك الطفل منصور المدرسة التي كان متفوقاً فيها أيضاً ، وأخذ يتنقل بين البوادي وفي رأسه أفكار طفولية، كيف سيدهش الناس بقدراته ويحصد إعجابهم ، مرت خمسة أعوام وهو على هذه الحال ، وعندما أفاق من نشوة حصد الإطراء كان أقرانه قد قطعوا شوطاً في التعليم وأصبحوا متقدمين عليه بمراحل. حاول العودة إلى المدرسة والانتظام في الصف، لكن الشعور بالندم على السنوات التي ضيعها مع البندقية كان يعتصر قلبه، كان قد أصبح كبيراً على الصف السادس الذي توقف عنده تعرض للسخرية من المحيطين ، تفاقم شعوره بالإحباط .. فقرر ترك المدرسة ، وفي أحد الأيام أثناء زيارته مدينة تعز شاهد رجلاً يعمل ببندقية صيد ، يأتي إليه الناس ويدفعون مقابل قيامهم بالرماية على الهدف ، ومنذ ذلك الحين قرر مزاولة العمل بالبندقية التي كانت يوماً سبباً في انحراف حياته عن الهدف الذي كان يحلم به، وهو الآن متزوج وله طفلتان ، وقد أقسم ألا يلمس أي من أبنائه بندقية ما دام على قيد الحياة. يقول منصور: «كان من الممكن أن أصبح شخصاً آخر غير الذي أنا عليه الآن ، لو لم أقع في تلك المصادفة التي جعلتني أتوهم بأني صاحب موهبة متميزة مع بندقية الصيد وقد قررت أن أكمل العمل معها». كانت البندقية خطأ طفيفاً في حياة الطفل منصور الدميني ، وهي الآن القشة التي يتعلق عليها قوت أسرته ، ورغم المعاناة والفقر الذي يعيشه ، وفشل محاولته في البحث عن عمل أفضل ، إلا أن بندقية الصيد ظلت الرابط الوحيد له لاستمرار الحياة ، وبالنسبة لمنصور وأمثاله تبقى فكرة وجود حياة أقل تعاسة ضرباً من المستحيل ، ولا توجد إلا في عقول المجانبن. الغدر والأمل الوالد محمد الأصابي (60) عاماً أحد الذين لقوا أنفسهم منسيين في الشارع بلا أمل أو عمل فكانت بندقية الصيد الحليف الوحيد الذي مثلت له ولأسرته طوق النجاة من الموت جوعاً. وقد كان معنا متحفظاً ولا يريد الخوض في مواضيع شخصية ، وبعد محاولات متكررة أقنعناه بأن يخبرنا بقصته ، وقد كان سبب تردده في الحديث يرجع لتعرضه للخيانة من قبل شريكه الذي استحوذ على أملاكه ليجد نفسه بعد (25) عاماً من الغربة مفلساً ولا يملك شيئاً يطعم به أولاده الخمسة في حينه ، وبعد حياة حافلة بالترحال استقر مع بندقية صيد في شوارع مدينة تعز ، لتصبح البندقية مصدر عيشه الوحيد يقول الأصابي : وهو يربت على البندقية هذه البندقية عملت على تربية رجال، وقد كفتني شر الحاجة للناس». حتى النفس الأخير اكتسب الوالد الأصابي أسلوباً حاذقاً في جذب اهتمام العابرين من خلال عبارات التحدي التي يطلقها ، إلى جانب بث روح الحماسة والتنافس بين الرماة المتبارين ، ورغم تقدمه بالسن إلاّ أنه لا يزال يحتفظ بنشاطه إلى جانب ذوق رفيع لم تنل منه الشيخوخة وهو لحد الآن لم يفكر بالتقاعد ، ولا يزال رافضاً فكرة أن ينفق عليه أحد، وفي كل يوم ينادي على النزقين وأصحاب الدماء الحامية دون ملل ، وبشموخ ونفس أبية ترفض أن تكون عالة على أحد حتى آخر يوم في الحياة.