الحب العذري هو سلوك في العشق تزخر مشاعره بمواقف عظيمة في التضحيات والعطاء والطهر العاطفي الذي يتسامى في المثالية لدى عشاق هذا الصنف لدرجة يصبح فيها المعشوق شيئاً أكبر من كل فضاءات العشق نفسه وأغلى من كل شيء لدى العاشق حتى الحياة.. لهذا فإن هذه الموجه العاطفية بطابعها العذري الذي ظهرت على الساحة الاجتماعية منذ العصر الأموي ماكان لها أن تبلغ ما بلغت في كتاب المحبة لولا أنها وجدت لها متسعاً في قلوب الشعراء العشاق امتزجت تجاربهم العاطفية بقدراتهم الإبداعية في صياغة مايعتمل في أرواحهم من مشاعر وفي عقولهم من أفكار في قوالب شعرية مضمونها العام: صورة للحب جديدة توحدت بموجبها كائنات الطبيعة لتصبح أسرة واحدة للشاعر خارج إطار الكلاسيكية التقليدية الرتيبة فيما يسمية النقاد «البلاغيون» بالرومانتيكية التي جاءت محلقة في فضاءات التجربة فاتخذت من لغة الأحلام ملاذاً من عذابات الواقع المعاش والقيود المفروضة على حركية المودة ونبض القصيدة الساري في شرايين الشاعر: عاشقاً عذرياً من الطراز الجديد.. وهذا الإتجاه ظل منافساً على الساحة الإبداعية حتى بعد ظهور غيره من مدارس الشعر الجديدة كالواقعية والرمزية وحتى بعد ظهور قصيدة النثر المعبرة عن تيار الحداثيين.. وشاعرنا المبدع الأستاذ علي سلمان الشميري واحد من شعراء الشباب اليمني: كتب القصيدة بمختلف محطاتها الكلاسيكية الرومانسية والواقعية.. إلخ وكذلك بمختلف أشكالها «العمودي التفعيلة..». ولكن ماجعلنا هنا نأتي إليه من بوابة الحضور الرومانسي في معظم قصائده هو نفسه ذلك الحضور المشار إليه. يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان «أدمنت هواك». «أدمنت هواك.. أجيبيني يا أعظم مافي تكويني ياأعظم حبٍ يصعقني ويذيب جميع شراييني أبكيك بكاءً يعصفُ بي هل أنت حبيبتي تبكيني؟ للحب دموعٌ أعذبها مافاقت فعل الأفيون» فالهوى.. تلك العاطفة المعنوية أصبح لدى الشاعر مادة يفوق مفعولها «الأفيون» ليس في تخدير إحساسه كما يفعل الأفيون المخدر ولكن فيما يتولد لديه من أحاسيس لذيذة وعذبة تملكت مشاعره حتى الإدمان، وهنا يبرز التوظيف الجديد للأفيون المادة المخدرة وقد صار في صورة حب يسيطر على لباب الشاعر ولايفقده عقلنته في التلذذ بعذوبة الدموع التي هي الأخرى قد ارتدت معادلاً موضوعياً جديداً أعطى اللقطة معناها الأجد.. فالدمع ليس إلا ذلك الذي تفرزه عيون البكاء العاصف من شدة الفرح بإدمان العاشق ذوبانه في المعشوق.. وهذه هي رومانسية الحب العذري الذي أحال الهوى عظيماً والبكاء لغةً للوفاء.. أما الدمع فإنه الذي يفعل في القلب مايفعل ولاتقف قدره وشاعرية الشاعر عند هذا الحد فقط.. بل إنها تتجاوز هذه الرؤيا إلى عالم آخرٍ من الهوى والحب الروحي الأكثر إيغالاً في فضاءات النقاء.. نقاء الروح في عواطفها تجاه من تحب.. يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان «أنت أنا»؟ «تنفسنا.. تنفسنا وجاوزنا السماء سنا وذبنا في بكائيات ترحالات أنفسنا وذبنا في رحاب الحب إن الحب يقتلنا وذوبنا بقايا الحب في تقبيل أعيننا» فالقصيدة هذه قيلت في رحاب مكةالمكرمة 2002م ضمن مجموعة من القصائد التي كتبها الشاعر في تلك البقعة المقدسة.. إذ جاءت عبارة عن تجليات شاعرنا الروحية وذوبانه وحبه الكبير لله سبحانه وتعالى في لحظات تصوفية أعادت ذاكرتنا إلى الرعيل الأول من مثل ذلكمو شعراء كالحلاج مثلاً.. يقول الشاعر «علي سلمان» في نفس القصيدة: «ومن يدري أنا المحضون أوقد كنتُ مُحتضنا سوى سُكرٍ يخامرني وليس السكر فيه جنى» وتلك هي اللحظة التي تترجم مصداقية المقولة «الحب الصادق موت العاشق حتى يحيا في المعشوق» ومايؤكد ذلك قوله في ختام القصيدة: «ومادار الفضاء الرحب إلا حين أنت أنا وأن الحب تحت العرش لاترقى إليه دنا وأني دون أهواك ياربي فليس أنا» وإذا أردنا أن نعرج إلى الجانب الآخر في إبداعات الشاعر «الشميري» نجد أنه كثيراً مايبدو عاجزاً عن الخروج من دائرة رومانسيته المفرطة وروحانية عواطفه حتى في قصائده الإخوانية التي كثيراً ما أبدع الشاعر في هذا المجال.. ومن أبرز نماذجه قصيدة بعنوان «لاشبه للمنفرد» كتبها أيضاً وهو في مكةالمكرمة عام «1426ه» وأهداها إلى الأديب والشاعر السفير عبدالولي الشميري.. حيث بدأ الشاعر فيها محافظاً على قاموس مفرداته وعلى فكرة الهالة الروحية التي تتملكه عند كتابة النص الشعري بصرف النظر عن فكرة النص أو موضوعه، وأعتقد أن وجود الشاعر أثناء كتابة هذا النص في مكةالمكرمة هو ما أصبغ عليه هذا التوجه فالروح، الحب، والسموات هي الثلاثي الذي يشغل وجدان القصيدة وكل مايدور من أحداث أو مدح أو حديث في ثنايا النص إنما هو داخل الإطار الثلاثي العام المشار إليه يدعم ذلك كله اختيار الألفاظ والقافية التي تزيد من تجسيد الفكرة وتفصح عن شحنة العاطفة الكبرى التي أعتاد الشاعر على إبرازها تجاه من يحب.. يقول الشاعر: «سما في السموات حب وود وما الحب؟ إن لم أرَ أو أجد فعبد الولي بكل النفوس هو الحب في كل قلبٍ ولد تسامى، ونسمو على ذكره ولولاه كنا كقشٍ حصد» فالطريق الذي سلكه الشاعر للحديث عن صاحبه عبدالولي الشميري بدأ بالاستهلال المعتاد لديه وهو الحديث عن الحب المحلق في آفاق السموات وعن تلك العواطف والمشاعر التي تملأ روح الشاعر تجاه «عبدالولي» الذي هو في الأصل مصدر الحب المتوالد في كل القلوب وراعي العواطف الإنسانية والنبيلة في كل قلوب أبناء الحي ولولاه كما يقول الشاعر لأصبح الجميع مثل حصاد الهشيم.. وتعليل ذلك هو «الروح الطاهر والضمير الإنساني الحي» المتوافر في شخص من يحب.. وتلك الفرضية لم تأت من فراغ بل أفرزتها نزعة الإغراق في الخيال والميل الشاعري لديه إلى نزعته في الكتابة الشعرية التي بقدر مانقرأ في مضامينها العاطفة العذرية بقدر مانجد السمو المتصوف وكل هذا في إطار الإتجاه الرومانسي شكلاً ومضموناً: يقول في سياق نفس القصيدة: «فعبدالولي ولي وهل ستحبل أنثى وتأتي بند؟ أديب غريب فريد وحيد يقاس بشعب وجيش حشد بحثنا لشبهٍ له فانتهى بنا البحث: لاشبه للمنفرد» نتمنى للشاعر المزيد من العطاء والإبداع والمشاركة الفاعلة في رفد الحراك الشعري على الساحة الإبداعية في بلادنا..