توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك وصية سياسية مباشرة وواضحة تبين ما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في الدولة الوليدة، وإن ترك ما يبين ضرورة السلطة ووجوبها.. فعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لايحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم» رواه أحمد.. وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم»، رواه أبو داود.. فالنبي - هنا - يؤكد ضرورة وجود مركز للقرار وممارسة السلطة، لأن تعدد المراكز يؤدي إلى الفوضى والخصام ومن ثم احتمال القتال والتشرذم، ولذلك قال «عليه السلام» في خطبة الوداع: «لاتعودوا من بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض..» فالنص - هنا - على وجوب السلطة الواحدة في الجماعة الواحدة، «فليؤمروا أحدهم»، ولكنه لم ينص على كيفية ممارسة هذه السلطة والشكل الذي تتخذه، إذ إن ذلك خاضع لمبدأ: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، في نطاق مبدأ أعم، وهو «الأصل في الأمور الإباحة». فالثلاثة الذين على سفر ملزمون بتأمير أحدهم، هذا واضح، ولكنهم غير ملزمين بكيفية الاختيار، أهو على أساس المعرفة، كأن يكون أحدهم أكثر معرفة بالطرق، أم على أساس السنّ، افتراضاً أن السنّ تعني الحكمة، أم على أساس القدرة على تسهيل أمور الجماعة أثناء السفر، أم غير ذلك من أمور وأسس. المهم في الموضوع هو أن هؤلاء الثلاثة أدرى من غيرهم بظروفهم، فقد يختار ثلاثة من المسافرين أميراً عليهم وفق أسس تختلف عن تلك التي قام عليها الاختيار من قبل مسافرين آخرين، لأن الظروف كانت مختلفة.. إذن فالإمارة «السلطة» والاختيار واجبان، أما كيفية ذلك فمتروكة لأصحاب الشأن لأنهم أدرى بظروفهم. من ذلك نخرج بنتيجة مؤداها أنه ليس هناك نظام حكم إسلامي محدد، بل هناك أنظمة حكم إسلامية، قد تختلف اختلافاً جذرياً في أشياء كثيرة، ولكن يجمعها حدان لايجوز تجاوزهما: وجود وحدة السلطة وكيانها، ومن ثم القرار السياسي في الجماعة الواحدة، والاختيار، وما عدا ذلك فهو متحرك ضمن هذين الحدين مع اختلاف مدى الحركة وفق تغير الظروف والمعطيات في المكان والزمان، ولذلك نجد أن المفكرين في الشأن السياسي الإسلامي والفقهاء يجمعون تقريباً على مبدأ وحدة السلطة هذا، ويرفضون الفوضى، ويفضلون عليها أي حكم كان، حتى لو كان جائراً، وكذلك على مبدأ الاختيار الذي تعبر عنه البيعة.. وبالنسبة لأنظمة الحكم والدول في التاريخ الإسلامي، نجدها تحرص على مسألة البيعة، حتى لو كانت صورية، لأن الشرعية الحقيقية إنما تنبع منها. وباستعراض تاريخ الخلافة الراشدة على وجه الخصوص، نجد الاختلاف في سيرهم وسياساتهم، واتجاهاتهم، ولكنهم يبقون ضمن الحدين السابقين: مركزية السلطة ووحدتها، واختيار الجماعة. فالطريقة التي أتى بها أبوبكر إلى الخلافة تختلف عن طريقة عمر وعثمان وعلي «رضي الله عن الجميع».. وسياسة كل خليفة من هؤلاء تختلف عن الآخر اختلافاً يكاد يكون جذرياً، فأبوبكر مثلاًَ قاتل المرتدين، رغم معارضة عمر في البداية، لأن هؤلاء يهددون كيان الدولة ووحدة السلطة ومركزيتها، كما أنه كان يساوي بين المسلمين في العطاء، وكانت غنائم الحروب توزع على المحاربين وفقاً للآية الكريمة: «واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير»، «سورة الأنفال، الآية 41». وبناءً على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، حيث خمَّسها ومن ثمّ وزعها على المقاتلين.. وحين جاء عمر بن الخطاب ألغى المساواة في العطاء، وقال في ذلك ما معناه: «والله لا أساوين بين من قاتل في بدر ومن أسلم بعد الفتح».. أما أهم سياسة عمر التي كان لها آثارها المستقبلية فهي عدم توزيع أراضي الفتح على المقاتلين، رغم معارضة معظم الصحابة لذلك، متسلحين بالآية الكريمة السابقة، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر.. وكانت حجة عمر في ذلك أنه لو تم هذا الأمر، أي توزيع الأرضي بعلوجها على المقاتلين، لما بقي شيء للأجيال القادمة، ولتحول المال إلى دولة بين الأغنياء، وبقي الآخرون بلا مورد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن فعل هذا الأمر سيترك الدولة بلا موارد في المستقبل تنفق منها على الثغور ووظائف الدولة المختلفة، وفي ذلك تهديد لكيان الدولة، بمثل ما أن الطبقية الحادة بين كثرة من الفقراء وقلة من الأغنياء هي تهديد آخر للدولة عن طريق تهديد السلم الاجتماعي، ومن ثم عدم الاستقرار السياسي، وهو ما حدث أيام عثمان بن عفان «رضي الله عنه»، وأدى إلى ثورة دموية راح ضحيتها الخليفة نفسه.. وقد أيد عمر موقفه بنص قرآني آخر ألا وهو: «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب»، «سورة الحشر، الآية 7». وقال في ذلك: «أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس بياتاً ليس لهم شيء ما فُتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها».. كما كانت سياسة عمر تقوم على التقشف الشديد، كما كان صاحبه السابق، بادئاً بنفسه وأهل بيته أولاً. أما عثمان بن عفان فقد كان يوزع من بيت المال على أقاربه، ويعيش عيشة لينة.. وعندما قيل له ذلك، مذكرين إياه بعمر، قال ما معناه: إن عمر كان يتقرب إلى الله بعدم إعطاء أقاربه، وإنه هو يتقرب إلى الله بإعطاء أهله.. كلا الموقفين، موقف عمر وعثمان، يمكن بطبيعة الحال أن يؤيدا بنص قرآني، وبالتالي لا خروج عن النص، ولكن يبقى دور المفسر الذي من المفترض أن يأخذ كل حالة وفق ظروفها.. وعندما جاء علي بن أبي طالب، عاد إلى سيرة عمر، ولكن بعد تغير الظروف التي كانت سائدة أيام عمر، فقد تحزبت الأحزاب، وكانت الطبقية الاجتماعية واضحة، ولذلك خسر علي السياسة، وإن بقي فائزاً في المثال على الدوام. المراد قوله بإيجاز - هنا - هو أن الاختلاف في السياسة كان ديدن العهد الراشد، ولكنه اختلاف ضمن حدي الحفاظ على كيان الدولة ووحدة السلطة والاختيار، وما عدا ذلك فهو خاضع للأخذ والرد. السؤال الذي يثور حين استعراض ذلك العهد، أفضل عهد تاريخي للدولة في الإسلام من الناحية المثالية، هو: ما هي «مرجعية» الصحابة في اتباع هذه السياسة أو تلك، اتخاذ هذا القرار أو ذاك؟ بطبيعة الحال، فإن الغني عن القول هو أن النص «القرآن والسنة» يشكل شرعية الفعل، بمعنى أن الفعل لابد أن يكون مبرراً بنص إن وجد، ولكن النص يبقى عاماً وشاملاً قد يختلف تفسيره باختلاف المفسر واختلاف الظرف، وذلك كما فعل عمر - مثلاً - مع نص السرقة، وكما فعل أبوبكر قبله حين قاتل المرتدين، مبرراً ذلك نصياً بكون أن الشهادة وحدها لا تكفي بل لها حقوق، ودفع الزكاة واحد من هذه الحقوق، وكما فعل عثمان حين أباح لنفسه إعطاء أقاربه بناءً على نصوص توصي بالقريب، وكما فعل علي بن أبي طالب حين قاتل الخارجين عليه استناداً إلى آية البغي: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله..»، «الحجرات الآية 9».. ويثور سؤال المرجعية بشكل أكبر حين لايكون هناك نص يشير إلى ما يجب فعله، سواء بشكل صريح أم وفق تفسير معين أو تأويل محدد. يمكن القول، بدراسة تاريخ الراشدين خاصة: إن المرجعية هي «مصلحة الجماعة»، وهي ذات العلة التي تقف وراء النصوص المتعلقة بالمعاملات والعقوبات.. البحث عن مصلحة الجماعة في المعاملات مسألة واضحة، وفي العقوبات يمكن الاستدلال عليها بسهولة، فعندما يقول الحق: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب»، فإنه يوضح العلة - هنا - ألا وهي أن القصاص، والعقاب عموماً، يقضي على الجريمة أو يقللها، وبالتالي فإن قتل شخص واحد قد يحيي عشرات الأشخاص، والعكس صحيح فيما لو لم يكن هناك عقاب واستفحلت الجريمة، وعلى ذلك قس بقية النصوص. ومصلحة الجماعة هذه لاتكون دون توافر كيان جامع «دولة» يتمتع بوحدة القرار، ودون رضا المحكوم بالحاكم «الشرعية» الذي عبرنا عنه بمفهوم الاختيار، وترجم تاريخياً بإجراء البيعة. في إطار هذين الركنين، اللذين لا معنى لأي شيء دونهما، يدور البحث عن مصلحة الجماعة وفق ظروف الجماعة المتغيرة في الزمان والمكان، وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» صراحة حين وصلته صيحة الخوارج المعروفة: «إن الحكم إلا لله»، يقول: «كلمة حق أريد بها باطل.. إنه لا حكم إلا الله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة، وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع بها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ فيه للضعيف من القوي حتى يستريح برّ، ويُستراح من فاجر»، «نهج البلاغة». ومصلحة الجماعة ليست أمراً ثابتاً، فالمصلحة متغيرة بتغير الظروف، ولأجل ذلك قال فقهاؤنا الأوائل: إن «الفتوى متغيرة بتغير الزمان».. فشرعية الفتوى ليست في ذاتها، ولكن في تعبيرها عن مصلحة الجماعة المتغيرة.. وقد كان الفقهاء الأوائل واعين لهذه المسألة، ولأجل ذلك قالوا المبدأ السابق حول «نسبية» الفتوى، ومن أجل ذلك أيضاً نجد أن الإمام الشافعي كان له فقهان، فقه مصر وفقه العراق، دون أن يكون في ذلك عيب أو نقيصة، فما يصلح للعراق قد لايصلح لمصر، وظروف مصر ليست هي ذاتها ظروف العراق. أما المشكلة التي نعانيها حتى اليوم، فهي أن فقهاء العصور اللاحقة لعصور الازدهار قد أغفلوا المبدأ الذي يقف وراء كل تشريع وكل فقه، ألا وهو «مصلحة الجماعة»، وانصرفوا إلى الانشغال بالنصوص على اعتبار أنها غاية بحد ذاتها، والانشغال بآليات المعرفة، من قياس وإجماع ونحوه، على أنها هدف بحد ذاته، متناسين أو غافلين عن المبدأ الذي يقف وراء النص ذاته. نعم، إن النصوص غاية بحد ذاتها في الأمور التعبدية، ولكنها تشريع لمصلحة في المعاملات والعقوبات.