عندما كتبت «السياسة بين الحلال والحرام» كنت أعتقد أنها مجرد تحصيل حاصل، وأن أفكارها مجرد بديهيات يدركها الحس العام والذهن الصافي، حيث إن خلاصتها بدت في غاية البساطة والبداهة انتهت تلك الخلاصة إلى أن السياسة تقوم على مستويين من التحليل: مجرد عام ومحسوس تفصيلي.. أما المجرد فإن الدين عامة، والاسلام خاصة، داخل في نسيجه، سارٍ في تركيبه سريان الروح في الجسد، إذ إنه الاطار العالم لأي مجتمع وأي ثقافة، والدين هو أحد المؤطرات الرئيسة لثقافة أي مجتمع، إن لم يكن المؤطر الأوحد في بعض الحالات المتناثرة في ثنايا التاريخ وزوايا الجغرافيا. وأما التفصيل فهو متعلق بجانب المعاملات في الحياة البشرية، والذي هو جانب متغير بطبعه مرتبط بتطور وتغير حياة الجماعة ومصلحتها غير الثابتة على حال ، وعلى ذلك فإن الدين لايحددها بشكل مباشر، وإن كان مؤطراً لها وفق المبادئ العامة الموجودة دائماً في دستور الجماعة فمبادئ مثل: «الأصل في الأمور الاباحة»، و»الحلال بين والحرام بين»، و«أنتم أعلم بأمور دنياكم» إنما تتعلق بحرية التفصيل والحركة داخل اطار المبادئ العامة المجردة والتي هي المعنية بمقولة أن «الاسلام صالح لكل زمان ومكان» وليست التجارب التاريخية المحسوسة التي هي تطبيق لهذه المبادئ، ولكنها ليست التطبيق الأوحد أو الخيار الأوحد. وكنت أعتقد، ومازلت أن عظمة الاسلام تكمن في مبادئه العامة والشاملة، إذ إنها هي التوازن بعينه بين التحريم المطلق، والاباحة المطلقة، بين المجرد والمحسوس، بين مايجب أن يكون وماهو كائن، بين التاريخ وما فوق التاريخ، بين النسبي والمطلق بصفة عامة والاسلام، كما نعلم، دين قائم على الوسط والوسطية: [وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس] البقرة الاية 143 هنالك اذن حدود عامة ومبادئ شاملة تؤطر حركة الانسان الاجتماعية وضمن هذا الاطار الواسع فإن الانسان حر في العقل والفعل، وإلا فما فائدة العقل الذي منحه الخالق للمخلوق والحرية التي لامعنى للتكليف بدونها، ونحن نعلم أن الخالق لايخلق أي شيء عبثاً، ولا يمنح أي شيء اعتباطاً. لنضرب مثلاً على ذلك كتاب الله الخالد «القرآن الكريم» ففيه يقول الحق سبحانه: [مافرطنا في الكتاب من شيء]«الأنعام الاية38» مامعنى مثل هذا القول الكريم؟ في تفسير ذلك، يقول محمد علي الصابوني نقلاً عن الطبري والزمخشري والجلالين، إن المقصود هو: «أي ما تركنا وماأغفلنا في القرآن شيئاً من أمر الدين يحتاج الناس إليه في أمورهم إلا بيناه: وقيل إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، ويكون المعنى: ماتركنا في اللوح المحفوظ شيئاً فلم نكتبه» «صفوة التفاسير، الجزء الأول ص389 » غير أن الصابوني يضع حاشية تقول: «هذا اختيار الطبري والزمخشري والجلالين، ورجح أبوحيان في البحر المحيط أن المراد بالكتاب القرآن الكريم العظيم» ونحن نعتقد أن المراد بالكتاب هنا هو القرآن الكريم وليس اللوح المحفوظ وذلك لسبب منطقي في المقام الأول: فاللوح المحفوظ هو شاهد القدرة والعلم الالهيين، وبالتالي فهو كامل ومحيط بالضرورة ولايحتاج إلى تأكيد واثبات، إذا إنه إذا كان الاله لابد كاملاً، فإن علمه وقدرته وكل صفة من صفاته لابد أن تكون كاملة لأنها ملازمة لصاحب الصفة.. وطالما أن اللوح المحفوظ هو شاهد العلم الالهي، فلابد بالضرورة أن يكون كاملاً دون حاجة إلى تأكيد. أما ما هو بحاجة إلى تأكيد فهو ما يتداوله الناس من كلام الله المكتوب وإثبات أن هذا الكلام هو كلام الله فعلاً ومن هنا يكون طرح التحدي بكون هذا الكتاب شاملاً لكل ما يفيد الانسان في حياته دون تفريط، إذ ما إن يثبت ذلك حتى يكون دليلاً وشاهداً على أن ماورد في الكتاب هو كلام الله فعلاً وليس من صنع بشر، وهنا تقوم الحجة عقلاً وشرعاً. ولكن يبقى سؤال: هل التفريط وعدم التفريط منصرف إلى أمور الدين والدنيا، أم هو قاصر على أمور الدين كما في التفسير السابق؟ والحقيقة أن النتيجة واحدة، سواء قلنا إن المعني منصرف إلى الدين فقط أم إلى الدين والدنيا معاً، فإذا كان عدم التفريط منصرفاً إلى أمور الدين فقط، كما ذهب المفسرون السابقون، فمعنى ذلك أن الدنيا «المعاملات» متروكة لأهلها حيث إنهم «أعلم بأمور دنياهم» أما العبادات فهي ثابتة مطلقة لا يطالها مبدأ التغير ، أما إذا كان عدم التفريط منصرفاً إلى أمور الدين والدنيا معاً، فإن المعنى قائم على كون القرآن الكريم كتاب مبادئ عامة وأطر شاملة تحدد الحركة لكنها لا تقيدها، توجه هذه الحركة ولكنها لاتطرح اجابات مباشرة، إذ إن ذلك متروك للانسان وعقله .. من هذا المنطلق نفهم مثلاً قول الحق تعالى: [قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين] الانعام الاية11 مثل هذا القول الكريم يطرح منهجية معينة ولكنه لايعطيك التفاصيل التي لابد أنك عاثر عليها إذا«سرت» و«نظرت» وعلى ذلك قس بقية آيات الكتاب الكريم. إذن ووفق الفهم السابق نستطيع القول: إن الكتاب لم يفرط في شيء، سواء فيما يتعلق بالثابت من عبادات، أوالمتحول من معاملات ونظرات، ولايستقيم الفهم السليم لكتاب الله إلا بذلك، الذي بغيره سوف نكون قد جنينا على أنفسنا وعلى كتاب الله قبل كل شيء لتوضيح هذه النقطة نقول: لنفرض أن أحدهم جاء يسأل: تقولون إن الكتاب لم يفرط في شيء من أمور الدين والدنيا، فهل لك أن تدلني على نظرية اينشتين في النسبية في القرآن، أو نظرية نيوتن في الجاذبية، أو كوبرنيكس في مركزية الشمس، أو جاليلو في دوران الأرض..أين نظرية الكم وانشطار الذرة في القرآن، أين.. وأين، إن لم يكن كل ذلك في الكتاب فإنه قد فرط في شيء وأشياء، وبالتالي فإنه ليس كلام الله..أليس كذلك؟ والحقيقة أن مثل هؤلاء المتسائلين لديهم بعض المبرر في مثل هذا الشك، إذ أن بعض«الغلاة» و«المتنطعين» «بحسن نية، كما نفترض» يحملون القرآن ما لايحتمل فيجعلونه كتاباً في الطب والهندسة والقانون والفيزياء والجيولوجيا والانثروبولوجيا والسيكولوجيا وعلم السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلك، بل وحتى المحاسبة وغير ذلك كثير وهم بذلك انما يجنون على القرآن رغم أن النية قد تكون الرفع من شأنه فالقرآن الكريم ليس كتاباً مدرسياً في علم ما ولا «المرشد اليدوي» لعمل كذا وكذا، ولكنه دستور والدستور بالتعريف لايعطي التفصيل ولكنه يعطي المبدأ العام المؤطر للتفصيل، والممكن من الغوص في ذلك التفصيل، بغير ذلك لايستقيم الفهم وإن حسنت النوايا، إذ ليس بالنوايا وحدها نتوصل إلى النتائج الصحيحة. من هذه النقطة، ومن ذلك الفهم، نلج السياسة وعلاقتها بالدين عموماً، ومسألة الحلال والحرام تخصيصاً. فأنت عندما تتحدث عن السياسة فإنك لاتتحدث عن شيء واحد لايدركه الغموض، ولكنك تتحدث عن شيء ذي مفاهيم مختلفة ومستويات متغيرة وممارسات متعددة. فمن الناحية النظرية والمنهجية مثلاً يمكن تفريع السياسة إلى عدة مجالات هي : الفلسفة السياسية، علم السياسة، وفن السياسة. فالفلسفة السياسية تبحث فيما يجب أن يكون عليه الحال «انطلاقاً من قيم معينة»، وفي مثل هذا الإطار يندرج مفكرون مثل أفلاطون في الفكر الغربي، أو ابن تيمية وابن القيم في تراثنا، حين يتحدثون عن السياسة. وعلم السياسة يتحدث عماهو عليه واقع الحال بشكل وصفي تفسيري دون أن يكون للتفصيل دخل في مثل هذا الوصف وذاك التفسير. وفي مثل هذا الإطار يندرج دارسو السياسة في الوقت الحاضر، ومفكرون مثل مكيافيلي في التراث الغربي أو ابن خلدون والماوردي وابن أبي الربيع في تراثنا. أما فن السياسة، فيمكن القول إنه ذلك الجسر الذي يربط بين مايجب أن يكون عليه الحال «الفلسفة» وواقع الحال «العلم»، وهو المقصود حين الحديث عن السياسة بأنها «فن الممكن» . ولعل أبرز مثال على ذلك المقنع في رسالة الصحابة. فالممارسة السياسية تعني محاولة تحقيق غايات وأهداف الجماعة «مايجب أن يكون» مع الأخذ في الاعتبار واقع حال الجماعة، سواء في الداخل أو في علاقاتها مع الجماعات الأخرى «ماهو كائن». الأخذ بالأهداف والغايات «الفلسفة» دون الواقع «العلم»، يعني الغرق في رومانسية قد تكون جميلة ولذيذة، ومثيرة، ولكنها غير قابلة للتحقيق، وفي ذلك ضرر للجماعة وإن كانت الغايات نبيلة في ذاتها. والانغماس المطلق في الواقع دون غايات وأهداف مؤطرة للحركة، يعني الغرق في واقعية ساذجة وسطحية لاتلبث أن تكون خطراً على مصلحة الجماعة أيضاً. الممارسة السياسية «فن الممكن» هي التي تجمع الطرفين وتكون فيها محاولة لتحقيق المصلحة عن طريق الابتعاد عن الغرق في الرومانسية المطلقة أو الواقعية السطحية المطلقة. وعندما نقول «الممارسة السياسية» و «فن الممكن» فإننا نتحدث عن نهايات مفتوحة، وخيارات متعددة، ولكنها كلها تصب في مصب واحد، ألا وهو تحصيل المصلحة والابتعاد عن الضرر بالنسبة للجماعة. هذه المصلحة ليست من الأمور الثابتة إذ إنها متغيرة بتغير الظروف في الزمان والمكان وحركة الجماعة في التاريخ. وبالتالي فإن طرق ووسائل تحقيق هذه المصلحة هي متغير بدورها نتيجة تغير المصلحة. وتحقيق مصلحة الجماعة هو دعم لقيمها ومبادئها في الحياة «الفلسفة السياسية»، ولكن تحقيق هذه المصلحة لايكون بتجاوز الواقع السياسي أو القفز فوقه، بل بالعمل وفق آلياتها وإلا فإن الفشل هو المآل. إذن، فالممارسة السياسية «فن الممكن» مسألة نهايات مفتوحة وخيارات لا أول لها ولا آخر، وكلها تدور في إطار تحقيق المصلحة وبالتالي دعم الغايات النهائية للجماعة، فأين موقع الحلال والحرام في مثل هذه الخيارات اللانهائية ؟ الحقيقة أنه لاموقع للحلال والحرام في مثل هذا الوضع الذي تنطبق عليه مبادىء مثل «الأصل في الأمور الإباحة» و «أنتم أعلم بأمور دنياكم » ، طالما أن هذه الخيارات تدور في إطار مصلحة الجماعة واستبعاد الضرر عنها. أما الباحثون عن الحلال والحرام في مثل هذه المسألة فمثلهم مثل أولئك الباحثين عن معادلة فيزيائية أو تركيبة كيماوية أو وصفة طبية في القرآن الكريم، بغض النظر عن النوايا والغايات، إذ إن المنهج ذاته غير سليم. هم بذلك يسيئون للقرآن نفسه ويقيدون حرية الجماعة في سعيها نحو مصلحتها، فهم لايرون إلا طريقاً واحداً يؤدي إلى روما، مع أن هناك الكثير من الطرق كلها تؤدي إلى روما، واختيار الطريق المناسب خاضع لظروف الزمان والمكان، أما الهدف وهو روما «المصلحة والغاية» فهو قابع هناك. ولماذا نذهب بعيداً في الكلام المجرد ولدينا من الممارسات السياسية التاريخية للسلف مايبرهن على خطأ القول بالحلال والحرام في هذا المجال، وهو خطأ قد يضر الإسلام نفسه والدين ذاته عن طريق جعله أيديولوجيا ضيقة مغلقة، وهو حقيقة ليس كذلك. في معركة «الجمل» تقابل جيشان من المسلمين على رأس أحدهما علي بن أبي طالب «رضي الله عنه»، وعلى رأس الآخر الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله «رضي الله عنهما»، ومعهما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر«رضي الله عنهما» وسالت بين الجيشين الدماء، وكلنا يعلم أن هؤلاء الرؤوس من المبشرين بالجنة. إذ أدخلنا مسألة الحلال والحرام في الحكم على الممارسة السياسية، وجب علينا تحديد من هو المخطئ «صاحب الأسلوب المحرم» ومن هو المصيب «صاحب الأسلوب المحلل» في هذه المعركة، وذلك يقود إلى إشكالية وقع فيها الخوارج في هذا المجال ألا وهي تكفير طرف دون طرف، أو تكفير كافة الأطراف «كما حدث في معركة صفين». فهل نقول إن علياً وجيشه كان مخطئاً وبالتالي خاض في الحرام؟ أم نقول إن الزبير وطلحة وعائشة كانوا من المخطئين وإنهم هم من خاض في الحرام؟ أم نقول، كما هو رأي أهل السنة والجماعة، إن الكل كان مجتهداً والله أعلم بالنيات وعليه حسابهم.. بأي قول قلت، فإن النتيجة التي تصل إليها سوف تكون واحدة. فإذا خطأت ثم حرمت ثم كفرت أحد الطرفين أو كليهما تكون قد فعلت عظيماً، إذ أنك أخرجت من الملة من هم مشهود لهم بالجنة، فكيف يدخل الجنة من هو من غير أهل الملة؟ وإذ أنت أخذت برأي أهل السنة والجماعة وقلت إن الجميع مجتهد وإن الله أعلم بالنيات وإليه فصل الخطاب يوم الدين الأكبر، فأنت قد أدنت أسلوب التحليل والتحريم في هذا المجال؟ إذ إن هؤلاء هم سلفنا الصالح والذين منهم نأخذ القدوة، فإذا كانوا قد اجتهدوا اجتهادات متضاربة أدت بهم إلى سفك الدماء والقتل في أمور السياسة دون أن يخرجهم ذلك من الملة، ودون أن يكون هناك خط فاصل واضح بين الحلال والحرام، أفلا يكون لنا ذلك في البحث عن مصلحة الجماعة بما هو دون القتال وسفك الدماء بشكل كبير؟ ونفس هذا التحليل من الممكن أن نطبقه على معركة صفين وغيرها في تاريخنا. قد يقول قائل إن كل من ذكرت هم من الصحابة «رضوان الله عليهم أجمعين» ، وبالتالي فإن اجتهاداتهم ليست كأي اجتهاد، ومافعلوه خاص بهم ولاتجوز المقارنة. لنأخذ بهذا الاعتراض ونبتعد عن عهد الصحابة وماجرى فيه ونأخذ مثلاً آخر من تاريخنا، بعيداً عن الصحابة. لقد تقاتل الأمين والمأمون، ابنا هارون الرشيد على الخلافة «على السلطة»، فمَنْ منهما المخطئ ومن منهما المصيب، ومن منهما خاض في الحرام ومن منهما كان الحلال إلى جانبه؟ ولنجعل المسألة أكثر وضوحاً نقول: من منهما في النار: الأمين أم المأمون أم كلاهما وفقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما،فالقاتل والمقتول في النار» «الحديث، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان وباب المعاصي من أمر الجاهلية». معنى ذلك أن أميرين من أمراء المومنين في النار. فأي مؤمنين هؤلاء الذين يكون أمراؤهم في النار؟ إذن لابد أن يكون معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفاً إلى شيء خلاف الاختلاف في الرأي وإن أدى إلى قتال مثلاً، إذا كانت النية خالصة من أجل مصلحة الجماعة، والله وحده أعلم بالنوايا. إذن الجماعة ومصلحتها هي المعيار، وماأدى إلى هذه المصلحة بشكل أفضل فهو الأفضل، دون الخوض في مسائل لاعلاقة لها بذلك مثل الحكم بالحلال أو الحرام على أي شيء وكل شيء. لقد طرحنا الأمثلة التاريخية السابقة من أجل إيضاح أن المسألة أعقد مما يطرحه البعض من «مؤدلجي» الإسلام الذين لايرون إلا أبيض أو أسود دون بقية الألوان.