إنه الباقي .. يقول ابنها ويضع في يدها حفنة شلنات رطبة دافئة وعيناه تتماوجان بانفعالات الحيرة والخوف .. القلق ..تتسلقان وجهها..وتقف على شفتيها بتوقع الانفجار المفاجئ أو الكارثة هي تحاول أن تغتال صرخة احتجاج غاضبة .. ساخنة تمزق حنجرتها تحاصرها بين أسنانها من الانزلاق أناملها تمتد نحو قطعة قماش يتشبث بها بيده الأخرى ..تبدو رخيصة ..تمسكها ..تجس ملمسها الرديء ولونها الكالح يعكسها كقطعة عتيقة مدفونة في إهمال بزغت إلى الوجود تركتها تسقط فجأة .. نظرت إلي الشلنات الحجرية بين يديها .. - لقد انتهى الراتب.. كراسات الأولاد لم تشتر بعد ..فواتير النور لم تدفع بعد ..تضرب كفا بكف.. تشعر بتورم ينمو في نفسها ..يبلغ حنجرتها. - إنها ارخص قطعة .. يقول ابنها.. يتهدج صوته ..يكتسي الحزن والوقار ..تنظر إليه بدهشة..تشعر بأنها لم تكتشف حزنه..عالمه الصغير القاسي..أنها لم تقف أمامه منذ أمد.. لم تنظر في عينيه لم تسبر نبضه..والمد على شواطئه اليانعة المرهقة.. لقد غابت طويلا خلف الزحمة ..خلف الركام الهم اليومي .. فانزلق هو عن الذاكرة .. شعرت بتيار لاذع تحت جلدها .. في سويداء قلبها .. تشده نحوها .. تلمس وجهه الندي .. تنبش الألق المنطفئ في عينيه..تدفن رأسه في صدرها تضع يدها على كتفه الهزيل..تشعر بحزنه يمتزج بهمها..تحس به كرة نارية تضرب صدرها .. تفتح نفقا للألم. الحيرة والخوف من المجهول..عيناها تغدو بحيرة من الدموع..تعبران مسرعتين على الحيطان بطلائها القديم..تشوهها خطوط طبشورية ورسومات للحيوانات والوجوه بأنامل طفولية..غير متقنة حفرها الأولاد في صدر الحائط..ولم تجد هي الوقت لدعكها أو محوها ..وفي أحد جوانب الحجرة فرش أرضي ينام عليه طفل رضيع وفي وسط الأرضية دمية ملقاة ..وأشرطة ملونة وكراريس تنام بإهمال.. ..في المساء تضع رأسها المتعب على الوسادة..بعد نهار شاق .. طويل تحس بجسدها الممزق يتكوم على الفرش الناعم البارد ويحتويها السرير..يلف جسدها ويعيد تعبيدها ..أطرافها تتفكك ترتخي..ترتمي بعيدا عنها ..تنام ساعات قليلة مضطربة مرهقة . كأنها تصعد شعبا في جبال وعرة تصرخ كثيرا.. كصرخاتها في النهار حيث تطارد الأولاد بصوتها على الأرصفة وهي تتشبث بستارة الباب الخارجي أو تنفض شجارا ينشب بينهم ..أو تصرخ في وجوههم بأن يهدأوا .. ويكفوا عن الأخطاء .. عن الأخطاء وهي منهمكة في شئون المطبخ.. وحين يجتاح عروقها إعصار الغضب ويصل حنجرتها فتتقيأ به في المكتب.. بعد ساعات قليلة من النوم ..تحس يد زوجها تمتد إليها تفعمها بالاشمئزاز وتقذفها في أبار الألم العميقة ..إنها لا تراه خلال ركضها اليومي المضني ..حين يصاب أحدهم بمكروه أو تجدب حقيبتها عن النقود ..لا تجده بجانبها ..تحاول أن تناديه بصوتها فصوتها يتلاشى في المسافات ..تبحث عنه ..تغيب عيناها في الزحمة ..تحاول أن تركض نحوه . تتوه أمامها السبل فتجد نفسها تطرق أبواب الجيران وتستجدي الغرباء وهو بعيدا عنها..ويعدو خفيفا مرحا في حلبته الضيقة الصدئة .. الممتدة بين العمل وجلسات القات مع الأصدقاء..ويعود متأخرا ..كل ذلك يجعل ملمس أنامله دبابيس يحيل اخضرارها هشيماً. وحين تستيقظ في الصباح تجد المرارة ترفع شجرتها في نفسها وتجد صرخة مكتومة في القلب تدق صدرها بعنف بأنها امرأة مطحونة بالتقاليد..وباسم الواجب.. لكنها اليوم تنظر إليه بنفور .. تبتعد عنه ....أنها تنسحب عن قضبان الواجب ..ومخالب التقاليد وتقول لا ..تقولها بعنف وقوة. .. فتسقط الكلمة من فمها حادة مرتعشة ..تصطدم في وجهه..تصفع عينيه..فيتهشم فيها عمود الألق الممتد نحوها..وتعكر صفحة وجهه وتتغضن..فهي تنزلق عن طوعه..عن كفيه اللزجتين .. وترفع راية الرفض بتصلب وعناد ..ينظر إليها بذهول .. يتصلب جسده للحظات ثم يرتخي ..تمر لحظات تحس بدواليبها المسننة تعبرها بألم وبترقب حذر.. ثم يرتفع شخيره وتمضي الأيام وحائط سميك يرتفع بينهما يغسله التصلب واللامبالاة من قبلهما. وفي اليوم التالي ترتفع ضجة بجانب بابها تفتحه يصفعها لغط وصراخ .. يختلط بأصوات الرجال والأطفال وترى ابنها الصغير في يد شرطي يجرجر طفلا آخر بيده الأخرى ويلتقط سمعها رذاذ صرخات .. مختلفة ..بأن ابنها مع مجموعة من الأطفال قاموا بسرقة بقالة .. وصوت آخر يؤكد بأنهم كسروا زجاج سيارة ..وثالث يعبر.. وتشعر بذهنها رجلاً تختلط فيه الأشياء ..وتتمازج بهدير..وتجد نفسها تشهق بعنف وهي تنفي في ذهنها التهمة عن ولدها الصغير..تندفع إلى الخلف .. تحمل عباءتها وتحكمها حول جسدها وتلتقط رضيعها الملقى على الفرش في أحد جوانب الحجرة وتركض خلف الشرطي وموكب الأطفال الهائج .. المتقدم صوب مركز الشرطة وهي تصرخ أن ابنها الصغير بريء ..يدير الصغير رأسه .. عيناه تخترقان فتحات الجدار البشري والزحمة وهو يلوح بيده ويصلها صوته الدقيق الحاد.. بأنه لم يسرق ولكنه رأى اللصوص.. يمر وقت طويل حين تجد نفسها مرة أخرى تحتضن كفه الصغيرة في راحة يدها ..وهي تقوده إلى المحطة..وتغيب في رحم الحائط البشري السميك ..الواقف هناك تحت أسياخ الشمس اللاهبة..ينتظر بتململ وسيلة تنقله..ويزحف الوقت بطيئا.. تصل سيارة ..تقف أمام الحائط البشري..يهتز الجدار ويندفع إلى الأمام. تجد نفسها تندفع معهم ويدها تمتد صوب بابها الحديدي..وفجأة ينسحب جسدها إلى الخلف ..وتنطلق السيارة..وتقبل سيارة أخرى ويهتز الجدار البشري وتتراكض الأجساد نحوها..تتوقف هي ترفع الرضيع إلى صدرها وتشد أناملها على الكف الصغيرة لولدها .. وتأتي سيارة ثالثة..فتركض بشدة صوبها. وفجأة تنظر إلى الخلف يدور رأسها في كل الاتجاهات بلا هوادة ..تتسع حدقتاها .. ويتشبث اليقين في صدرها ويدق بجوانبها بشدة بأنها فقدت ولدها ..أحست بجسدها يهتز بشدة ويهدر صوتها من حنجرتها ..غريبا ..حادا ..يدوي في جنبات الفضاء حولها ..تدير الرؤوس نحوها..مستغربة ..مستفهمة. وهي تطارد سيارة ..عيون تقف في وجهها المرعوب للحظات وتعبرها بآلية ولامبالاة.