بعد أن سئمت الأم من انتظار طفلتها الوحيدة اسماء ذات الستة أعوام لملمت قلقها الذي توالد مع انتشار خيوط المساء السوداء المرعبة وتقدمت بخطواتٍ ثقيلة صوب اطراف القرية منادية على ابنتها بأعلى صوتها المتحشرج إلى القرية المجاورة التي لاتبعد عنها سوى نصف كيلو متر أو يزيد قليلاً ، حيث ذهبت للجلوس مع بعض اقربائها وتردد الصدى هازاً طبلات القلب المضطرب، وفرغ الناس من أداء صلاة المغرب فتقيأت المساجد عابديها، وتحول النداء في أعماق الأم المكلومة إلى شيء آخر مجهول لم تستطع تفسيره، فأبلغت زوجها الذي بدوره أنبأ الجميع فهرعوا يبحثون وسط الأوحال وحقول الذرة الكثيفة الطينية التي ملأتها سحائب الصيف خلال النهار،وطال البحث فيما عقارب الوقت تسافر نحو حفرة الليل العميقة المظلمة..كانت بطاريات الجيب المشتعلة تملأ السهول والجبال ومصبات السيول،وعادت النساء خائبات بعد طول بحثٍ في المنطقة وما جاورها، وغاصت أقدام الباحثين في صلاصلٍ رخوة، واستبد اليأس في النفوس فراحوا يفتشون بمخاطرة في مجاري المياه الدافقة، وتنادت الأصوات متسائلة عن اكتشافٍ جديد بلا فائدة ،فعادت القهقرى تحمل أحزانها المبهمة ماعدا شخصين خطرت ببالهما فكرة التعريج على أحد الحقول الزراعية القريبة من الطريق،وقبل أن يتماهيا فيه صادفهم في طرفها شاب في الثلاثين من العمر يدعى محمد وهو ابن عم الطفلة أسماء، فأكد لهم بصدق أنه مشط المكان تمشيطاً دقيقاً واقسم على ذلك، لكنهم ألحوا على الاطمئنان والتأكد والمغادرة، فاتفق معهم أن يبحثوا في أطراف الحقل من شتى الاتجاهات، وهو سيتولى التفتيش عن أسماء في قلب حقل الذرة على أن يلتقوا جميعاً في نقطة محددة، وخالفوا بالفطرة خطته وفي وسط الذرة وجدوا أسماء...كانت ملقية على وجهها فحاولوا ايقاظها معتقدين أنها نائمة أو على الأقل مغمى عليها، وحملها الثلاثة صارخين تجمعت حولهم القرية برمتها،وفي موكب مفجع وصل الجميع مسرعين في محاولةٍ يائسة لإنقاذها، وحين تيقنوا بموتها انتابت الأم نوبة إغماء، واقسمت احدى النساء الحكيمات بعد أن رأت قطرات الدم على سروالها المخلوع أنها ماتت مقتولة بعد اغتصابها،وفي ذات اللحظة من الليل حمل الأب ابنته متوجهاً إلى قسم الشرطة لإظهار الحقيقة. .بدأ العمل الأمني الجاد والقهر المجنون يملأ النفوس، والاسنان تصطك متمنية تقطيع ذلك الذئب البشري الذي سلب أسماء الفتاة الملائكية بكارتها وطفولتها المتبرعمة، واشعل النار والقيح والبكاء بأدمعٍ من دم في والديها، وتركز التحري في الرجال الذين تواجدوا في الوادي الذي قتلت فيه لحظة العصاري، وتم احتجاز ثمانية اشخاص، ثم بدأ التحقيق مع كل واحدٍ منهم على حدة وتسجيل أقواله، وعند الشخص الثامن سقطت كلمات الاعتراف كالصاعقة، ولم يكن سوى محمد ابن عم اسماء الذي راح يبحث عن الضحية مع القوم في كل سهلٍ وجبل وواد، وواصل اعترافه الخبيث أنه رآها تمر في الطريق فاستدرجها بلطف وحنان بعيداً عن الأنظار ثم أوهمها بأنه سيبتاع لها حلويات وعصائر ودفاتر وأقلام حتى فظ بكارتها فصاحت متألمة من هول المفاجأة وأخبرته ببراءة أنها ستقول لوالديها بما فعل فأدركها واطبق على عنقها حتى فارقت الحياة معتقداً أنه بقتلها سيمحو فضيحته ويكتم سره وحين دق ناقوس التفتيش عنها لم يتوان عن القيام بالواجب. الموت الغريب حين علم والدا الجاني محمد بجريمته الشنعاء كادت الأم أن تصاب بالشلل، وتم اسعافها، أما الأب فقد ذهب إلى أخيه «والد أسماء» وأعلن أمام الأشهاد بغضب انه بريء من ابنه محمد وأن دمه دم كلب وأقسم أن لايراه إلى الأبد، وأن أخاه سيظل ذراعه اليمين على طول الزمان، وظل محمد في السجن عامين لمحاكمته دون أن يزوره والده واقرباه أو يكلفان انفسهما السؤال عنه، بل أن الأب اقسم أن لا يدفن في القرية البتة حتى لا يدنس ترابها، وفي لحظات إعدام محمد لم يحضر سوى اولياء الدم «والد اسماء ووالدتها» ودفنه أهل الخير في مكانٍ مقفرٍ غريب كالمجهول.