أدرت الساعة بيدي ، وأنا أنظر لعقرب الثامنة ، بدا لي شاحبًا كطقوس الحزن ماثلة على وجهي ، ربما لم تزل الكلمة التي تناوبت علي بالفزع جالبة أنين مخاوفي ، تطرق عقلي ، وتحفر قلب الذاكرة ، نفضت رتابة الوقت عن كاهل الصمت ، ورحت أمشط شعري ، أمام شخوص مرآة جامدة ، بداخلي أصابع طويلة ، تحصي الهارب من عمري ، وأكاد أستشعر بذرة الموت صار لها رأسًا يريد عبور أرضي للظهور .. الخريف القادم ستصير روحي فالعشرين سهوًا ، وخمسة أشباح تلقي في عمقي الظلام ، سيكون وجه الأيام المقفر إطلالة صبحي الغبش ، وتنهيدة الحلم الذي اعتلى رأسي ، هكذا أفرغت فم الحديث على معابر من ورق ، أطرقت أبحث عنها ، سافر بها الدمع نحو خطوطٍ عريضة ، تنافي قدرة القارئ بلوغ معناها الذي انساب مع الظلام . كأي فتاة يعرض عليها الزواج ، كنت أرفض حينًا ، وألوذ بالصمت حينًا آخر ، لكني كنت أصمت بكثير من الدمع الذي يغافل محاجري بالانهمار ، ولكني لست أي فتاة ؛ إن كنت أرفض بحجة أنك ستكون آخر معابري التي معها سأكمل مشوار حياتي ، كنت أصغر بكثير من أن أعي معنى أن يمر العمر ، ولا زلت أستقطب من وجعي زفرات تلهبني ، بدعوى انتظار يطول تحت وطء المجهول ، كنت أخاف كثيرًا حين أستمع لأحداهن تخاطب أمي عبر الهاتف تطلبني لابنها ، لا أدري كيف كنت أجلب ألف عذرٍ وعذر كي أنجو من طلبهم ، بصوتٍ موجع بداخلي يقرع قلبي بنواح مريب ، مرددًا : “ لا أستطيع العيش من غيره “ ولأجل هذا أنا أبكي كثيرًا ، وأظل في حيرة ، في انقباض حتى أعود إلي ، بكثير من الخيبات المتوالية . رغم كل خوفٍ كان يباغتني ، لم يقاسمني هذا البكاء غير سكون عيني ، ورعشة الدماء أسفل جسدي ، تكاد تنز من أوردتي ، وتخرج معلنة تمرد الدماء احتراقًا ، أطرقت خائفة من لفظها لكني قلتها بخشوع حواسي للحزن : “ لا أريد أن أكون عانساً “ ، هربت من صوت الصدى بداخلي ، مرددًا إياها في بلاهة مغالية : ( عانس . عانس . عانس ) ! أيقظني من هذا الخوف ، صوت إحداهن بجانبي : “ وصلنا “ .. - هاه .. أين !! “ - بيتكم “ نزلت من الحافلة بجمودٍ تام ، أذكر أن في ساقيّ بعض المقدرة على حملي حينها ، وقفت أمام الباب لم أرن الجرس ، أو أطرق الباب ، أو أجر عقلي من هذا الشرود ، أخيرًا وضعت يدي على الجرس ، ليصلني الجواب ، تفتح أختي الصغيرة هيَ في العاشرة من عمرها لربما ، دخلت أفتش عن وجه أمي ألقيت التحية بهدوئي المعتاد ، ومضيت أنزع عن جسدي ارهاق يومٍ شاق ، غسلت وجهي ، حاولت أن أدخل بعض الصحو لداخلي ، عزمت أخيرًا بعد أن فشلت بهذا ، أن أندس تحت أغطيتي ، محاولة أن أترك للنعاس حرية استيطان عينيّ ، نجحت بعد جهد ، أن أغفو . لازلت رغم ما طال ، أوجد لك أعذارًا لتجيء يومًا ، لكن هذا اليوم صار أبعد من قوى تحملي ، من أن يعتقني من مخاوفي ، أو حتى يربت على روحي بيقين ما سيكون ، أنا أجهل تمامًا ، ماذا سيكون في الغد ، لذا لا تعطيني وعودًا ، قابلة للانكسار ، توضأت وانزويت إلى ركن قصي ، أبتهل إلى ربي بمناجاة ، صوتي كان يعلو وينخفض تبعًا لخشوع الدمع على وجنتيّ ، والحق أني ابتلعت كثيرًا من الدمع مرددة : “ يارب “ ، في الصيف الماضي كنت مع أمي وأخوتي نطوف حول الكعبة ، وكنت أسر إليك دعاء تضرعت به إلى ربي ، وابتسمت قليلاً وأنا أراه صار كالحلم ممتدًا فوق رأس أخيلتي ، أن في عامنا المقبل ، أطوف أنا وأنت ، أراك بلباس الإحرام ، تبًا للدمع كيف اجتاح أخيلتي ، ولونها بالبكاء !! وحتى الآن لا أدري ، مصيري بيد الله ، إنما معك عجزت روحي عن مواصلة النداء الخفي ، ضجت النفس عزة ، وضج حزني نواحًا ، الله مولى الوجع بيّ ، وبه استغيث خلاصًا ، أن يكون في اجتماعي بك ، وهذا ما تصبو إليه نفسي وتتوق ، وإن كنت تطاول الأيام هربًا ، فعسى ربي أن يمنحني منك خلاصًا ، وأن يرزقني من خيره العظيم . انكببت على وجهي ، أبكي حرقة وأخفي ذاك الصياح الذي يفزع بي أني أنثى ، لولهة سألت : “ لو كنت رجلاً هل سيطاردني شبح العنوسة كالسيف السليط ؟! “ ، توقفت .. أحجمت عن السؤال ، ومنابت الجواب الذي بدت مدائنه . عدت للشرفة المعلقة بيدي ، ألملم وجهي الملتصق بزجاجها ، وأنفث نفسًا جثم طويلاً فوق صدري ، تراءت لي صور شتى ، مجتمع ، وأهل ، وأحاديث من حولي تصلني ، ولا تصل ! نعم أمي رفضت ذاك لأني ببساطة أخاف أن أعطي أحدهم حقنة حتى وإن كانت أمه ، ورفضت الآخر لأنه لم يكمل تعليمه ، ولم تكن لديه وظيفة ثابتة ، ورفضت ذاك لأني كنت صغيرة طائشة ، ورفضتهم لأني أحبه ، قلتها بصوتٍ خفيض ، وأنا أشير إلى قلبي ، وأخفي ملامحي التي فضحت أمري ، حين كانت أمي إلى جانبي تخبرني عن ذاك الذي سبق أن تزوج ولم ينجح زواجه وجاء طالبًا إياي بطفلٍ من زوجته الأولى ، ثرت رغبة باخراج ثقل كبير عجزت عن مداراته ، وفشلت أن أخرجه بأي شكلٍ كان ، هرعت إلى الحمام ، فتحت الصنبور بقوة وتركت للماء حرية الضجيج ليخفي نحيب روحي ، وبكائي الذي أفزع اطمئناني ، كم يلزمني من الصبر كي أصل أخيرًا إلى بر الأمان ، هكذا خرجت أحمل وجعًاً كبيراً ، لم أفلح يومًا بعد شحنة من البكاء في إزالته ، رميت بحملي فوق سرير بليد ، زفرت عاليًا منادية : “ يارب “ .