ما من شك أن الجميع يعي جيداً، أن القروض الاستهلاكية المخصصة للحصول على المساكن في أكبر اقتصاد في العالم، هو الاقتصاد الأمريكي، هي التي كانت وراء واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية التي عاشها عالمنا في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ولا يزال تعاني من تبعاتها دولٌ وشركاتٌ ومصارف ومؤسسات تمويل مالية، وأفرادٌ عاديون. غير أن المستهلك الأمريكي الذي انخرط في لعبة القروض بهدف الحصول على مسكن خاص، لم يكن يواجه الظروف السيئة التي يواجهها المستهلكون في بلد مثل اليمن، لأنه في الواقع كان يعيش في مسكن لائق، ويحصل على احتياجاته من السلع الأساسية والاستهلاكية، ويحظى بفرصة للسفر، واقتناء السلع الترفيهية، ويتمتع بحقوق الرعاية الصحية، وحقه في التعليم الكفء. تراجع في حجم الشراء المستهلكون في اليمن يقعون هذه الأيام تحت طائلة الضغوط الاقتصادية الآتية من تزامن ثلاث مناسبات قاتلة للإنفاق القسري خلال شهر واحد، كل مناسبة أثقل من الأخرى لجهة من تتطلبه من نفقات مالية، والمناسبات هي: شهر رمضان المبارك، وعيد الفطر المبارك وحلول العام الدراسي الجديد. وهذا ما يفسر التراجع الملحوظ، هذه الأيام، في حجم الإقبال على الشراء، مما يجعل الأسواق في مواجهة أسوأ حالة ركود تعيشها، ولذلك تبعاته الاقتصادية المباشرة على عافية الاقتصاد، خصوصاً إذا ما علمنا أن المؤشر القياسي للمستهلك، الذي يقيم توجهات المستهلكين، على مستوى الإقبال على الشراء أو الإحجام عنه، يشكل عاماً حاسماً في مزاج السوق وفي الحركة الاقتصادية لأي بلد، بل إن هذا المؤشر عندما يرتبط بمستهلكي الدول الصناعية الكبرى، فإن تأثيره يتجاوز الحدود إلى الاقتصاد العالمي برمته. ضغوط اقتصادية ومحدودية خيارات إن إحجام المستهلكين اليمنيين عن الشراء، يحمل دلالتين خطيرتين إحداهما على المستهلك، والأخرى على الاقتصاد، وإن كان التأثير على الأخير أقل من حيث الخطورة، بسبب أن الإنتاج المحلي متواضع، وأن أكثر من 90 بالمائة من احتياجات المستهلكين يتم استيرادها من الخارج.. ولذلك من المهم توضيح الخطورة التي تكمن في إحجام المستهلكين اليمنيين على الشراء، ذلك أنها لا ترتبط برغبة المستهلكين في الادخار، كما يحدث بالنسبة للمستهلكين في الدول الغنية، كما أنها وفي هذه الأيام تحديداً، لا ترتهن لمتغيرات السوق وفي مقدمتها التغيرات في الأسعار. ذلك أن تراجعاً واضحاً في الأسعار قد سجلته السوق اليمنية وشمل معظم السلع الأساسية قياساً بالسنة ونصف السنة الماضية التي شهدت أعلى معدلات أسعار في تاريخ البلاد.. الخطورة إذاً تكمن في افتقار المستهلك للمال، وهو وضع لا يوجد أسوأ منه في بلد آخر من العالم، هذا الوضع يعني أن المستهلك لا يمتلك القدرة على شراء احتياجاته الأساسية والضرورية كما هو الحال بالنسبة لمتطلبات المائدة الرمضانية، وملابس العيد، ومتطلبات المدارس، تلك هي القضية.. على أنه من المهم التوضيح في قضية مهمة تتعلق بتفاوت حجم الإحساس بالضغوط الاقتصادية الحالية الناجمة عن تزامن ثلاث مواسم للإنفاق القسري، لدى فئات المستهلكين. فهذه الضغوط تختلف من حيث تأثيراتها على المستهلك اليمني تبعاً للفئة الاقتصادية التي يعيش فيها، ففئة أصحاب المداخيل العالية لا يشعرون بمشكلة، وفئة الدخول المتوسطة، يشعرون بتأثير مواسم الإنفاق القسري هذه على ميزانيتهم، ولكن بصورة أقل، مع بقاء هامش من الخطورة يكمن في انضمام الآلاف من المستهلكين الواقعين ضمن هذه الفئة إلى فئة المستهلكين الفقراء. وهناك فئة الفقراء وهي فئة واسعة، تضم محدودي الدخل، من موظفي القطاعين العام والخاص، وأصحاب المشاريع الصغيرة، الزراعية والسمكية والحرفية، والعاملين بالأجر اليومي، وهذه الفئة تواجه مشاكل حقيقية من حيث الإيفاء بالاحتياجات الأساسية في الظروف العادية، ولذلك يكون إحساسها بوطأة وثقل ثلاثة مواسم متزامنة من الإنفاق الضروري كبيراً جداً، في ظل محدودية الخيارات والبدائل أمامها.. وهناك فئة أخيرة هي فئة الأشد فقراً من المستهلكين الذي يقعون تحت خط الفقر ويعانون من فقر الغذاء. إن إجمالي عدد السكان الذين يقعون ضمن الفئتين الاقتصاديتين الأخيرتين، ويحملون صفة الفقراء والأشد فقراً يتجاوزون ال7 ملايين إنسان. هؤلاء هم الذين يعيشون أسوأ لحظات حياتهم، هذه الأيام، فيما يتعين عليهم أن يواجهوا تحدي الإيفاء باحتياجاتهم الأساسية التي يفرضها الشهر الكريم، والعيد، والعام الدراسي الجديد.. هؤلاء ما من خيارات مناسبة أمامهم، سوى الخيارات المرة، التي من بينها، الاستدانة، أو بيع المدخرات العينية، أو التنازل عن تلك الاحتياجات، وكلها خيارات سيئة للغاية. ولواقع كهذا إفرازاته وتبعاته الاقتصادية، التي لا تقتصر على هذه الشريحة الواسعة من المستهلكين الفقراء، ولكنها تمتد لتطال المجتمع بكامله. تداعيات خطيرة فحينما يعجز كل هؤلاء عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، وحينما تدفع الأزمات الاستهلاكية كالتي أتت بها مواسم الإنفاق الثلاثة هذه، الآلاف من متوسطي الدخل إلى فئة الفقراء، فإن النتيجة تكون زيادة مضطرة في أعداد الفقراء، وهو ما يشكل تحدياً للحكومة التي يتعين عليها الإيفاء بتعهداتها تجاه أهداف الألفية، والتي تفرض على الدول الأقل نمواً مثل اليمن تخفيض عدد الفقراء لديها إلى النصف بحلول عام 2015. وتكون النتيجة أيضاً، زيادة في نسبة الذين يقعون خارج نظام التعليم الإلزامي، وزيادة في وتيرة المشاكل النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الفقراء مثل الطلاق والتفكك الأسري، واستشراء لظواهر اجتماعية مثل الجريمة.. وهناك أنواع أخرى من النتائج والتداعيات، أهمها، التدفق الخطير لسلع استهلاكية غير مطابقة للمواصفات والمقاييس، سواء بسبب رداءة جودتها، وفساد محتوياتها أو بسبب انتهاء الصلاحية، أو بسبب سوء النقل والتخزين والعرض. وهذه السلع غالباً ما تتدفق إلى السوق اليمنية في مواسم الإنفاق هذه كشهر رمضان المبارك، وهناك مؤشرات عديدة على ذلك تتمثل في الكميات الكبيرة من السلع التي تم التحفظ عليها من قبل الجهات الرسمية المختصة بحماية المستهلك.. ومن بين أهم هذه السلع، التمور التي تم التحفظ على مئات الأطنان منها، كان آخرها كمية تقدر ب45 طناً من التمور الفاسدة التي حاول مستورد إدخالها عبر المنافذ الحدودية البرية، ومارس ضغوطاً كبيرة ليتمكن من ذلك لكنه منع من قبل الجهات المختصة.. وهناك كميات تزيد عن 150 طناً من التمور تم مصادرتها من مخازن وأسواق أمانة العاصمة والأسواق المجاورة لها، وهناك عشرات من الأطنان من السلع الغذائية الأخرى تضم المشروبات والحلويات والبهارات، والذرة الشامية التي تدخل في صناعة أغذية الأطفال مثل البفك وغيرها.. وأنا على يقين بأن هناك أضعاف الكميات المصادرة من المواد الغذائية تجد فرصتها في الوصول إلى المستهلكين، والسبب قلة في الوعي لدى معظم المستهلكين، وحاجتهم الماسة لتوفير احتياجات بأسعار تتفق مع ميزانيتهم حتى وإن كانت غير جيدة، بل وضارة. إن الأمر إذاً يتجاوز في خطورته حدود الضغوط الاقتصادية، والحرمان من حياة معيشية أفضل لمعظم المستهلكين في هذا البلد، فوطأة الحاجة لدى المستهلك، تجعله فريسة سهلة لممارسات انتهازية وسلوكيات غير مشروعة من قبل التجار والباعة، تعرض صحته وسلامته للخطر.