بينما تتوالى مشاهد الإبادة الجماعية على الشاشات ومنصات التواصل، يجد المرء نفسه أمام مفارقة مؤلمة. في قطاع غزة، يستمر الاحتلال في ارتكاب أبشع الجرائم: قتل، وتدمير، وتشريد، وتجويع. كل ذلك يجري تحت غطاء دعم أمريكي لا يتزعزع، وتواطؤ أوروبي مكشوف. هذا الدعم لا يقتصر على الصمت السياسي، بل يتعداه إلى توفير الدعم العسكري واللوجستي الذي يغذي آلة الحرب الإسرائيلية، لتمضي في مجازرها. وفي الوقت الذي بدأت فيه كثير من الدول تعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية، في خطوة تبدو أنها تدعم حل الدولتين، يأتي الرد الإسرائيلي صادماً. ففي خضم هذه التحركات، يخرج بنيامين نتنياهو ووزراؤه بتصريحات واضحة وصريحة مفادها بأن الرد سيكون بظم الضفة الغربية وأنهم لن يوقفوا الحرب أو التهجير القسري لأبناء غزة، في تجاهل تام لكل المساعي الدولية. هذا الرد لا يقتصر على رفض الاعتراف، بل يشمل تهديداً مباشراً بالرد على أي دولة تعترف بالدولة الفلسطينية، ما يكشف عن عقلية الاحتلال التي ترفض أي حل سياسي عادل وتصر على مسارها العدواني. إن هذه التصريحات تضع العالم أمام حقيقة أن الدعم المستمر لإسرائيل لا يغذي فقط آلة الحرب، بل يمنحها الضوء الأخضر لرفض أي حل سلمي، مما يجعل من الاعترافات الدولية خطوة بلا قيمة ما لم تكن مصحوبة بإجراءات عقابية حقيقية. هؤلاء الذين يصرون على استمرار دعم الكيان بالسلاح يغالطون أنفسهم ويفرضون شروطاً مجحفة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مما يجعل هذا الاعتراف شكلياً وغير فعال. فهل يمكن لدولة أن تولد مكبلة؟ وهل يمكن لدولة أن تكون شبيهة بحكم ذاتي لا يختلف عن سابقه القائم في رام الله؟ بالمثل اليمني: "ديمه خلفنا بأبها". تطورات إيجابية في المشهد الأوروبي والدولي في خضم هذا المشهد المعقد، بدأت تتشكل ملامح تحول إيجابي على الساحة الدولية. ففي خطوة تاريخية، انضمت بريطانيا، وكندا، وأستراليا، والبرتغال إلى قائمة الدول التي تعترف رسميًا بالدولة الفلسطينية. يأتي اعتراف بريطانيا تحديداً كحدث مفصلي، كونه يصحح "خطأً تاريخيًا" يعود إلى وعد بلفور. كما أن هذه الاعترافات من دول غربية كبرى، تضاف إلى الموقف المتقدم لدول مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا التي سبقتهم في هذه الخطوة، لتشكل ضغطاً متزايداً على إسرائيل وتكشف عن تغير في الرأي العام الأوروبي، الذي أصبح أكثر تفهماً للقضية الفلسطينية. هذه التحركات تؤكد أن "صمت العالم" ليس مطلقاً، وأن هناك أصواتاً حقيقية ترتفع ضد الظلم. وفي الوقت نفسه، يتجلى التواطؤ العربي في أبهى صوره، حيث تبدو المواقف الرسمية هزيلة ومترددة، وكأن ما يحدث في غزة لا يخص الأمة. هذا التواطؤ، مقترناً بصمت ملياري مسلم على وجه الأرض، يكشف عن حالة من الضعف والعجز غير المسبوقة. إن مشهد الأمة وهي تقف متفرجة على دماء أبنائها لا يليق بتاريخها ولا بمبادئها، ولا حتى بحد أدنى من الإنسانية. وفي خضم هذه الأحداث، تتكشف صورة "النظام الدولي" الزائفة. فبينما كان العالم يترقب موقفاً حاسماً من الهيئات الدولية، نجد "مجلس الأمن" يجتمع لمناقشة قضايا هامشية، وكأن غزة ليست على خريطته. هذه الاجتماعات، التي غالباً ما تؤول إلى الفشل في اتخاذ أي إجراءات رادعة، تكشف عن ازدواجية المعايير التي تحكم هذا المجلس؛ فهو مجلس للأمن في نظر من يملكون حق النقض (الفيتو)، ولكنه مجلس للضعف في نظر الشعوب المقهورة. من جهة أخرى، يظهر "الجامع العربي" بوعود متكررة باجتماعات قادمة لاتخاذ "إجراءات عقابية" ضد الاحتلال. لكن هذه الوعود غالباً ما تكون متأخرة، وتأتي بعد فوات الأوان. فهل تنتظر هذه الهيئات أن تستكمل آلة الحرب مهمتها الإبادية؟ هل تنتظر أن تُباد غزة عن بكرة أبيها وتصبح أثراً بعد عين، لتبدأ في التحرك؟ إن ما يحدث في غزة ليس مجرد صراع إقليمي، بل هو اختبار حقيقي لإنسانية العالم. إنه كشف فاضح لزيف مسرحية العدالة الدولية التي تنهار أمام مرأى ومسمع الجميع. وفي النهاية، لا يملك الإنسان إلا أن يردد: "حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله".