في أحد الصباحات الوردية المتجددة للحالمة تعز كنت على موعد مع زيارة الشنيني , عيون العقل ترسم صوراً تخيلية متعجلة لذلك الذي سأفد إليه , فإذا ما تطابقت صورة العقل وصورة الواقع ابتهجت النفس وفاضت فرحاً على وقع الأنفاس العطرية والروائح الزكية التي تخترق الأنف ويسيل لها اللعاب ... في الشنيني تفوق صورة الواقع جمالاً صورة العقل المتخيل ليكون الفرح مضاعفاً وشهقات الإعجاب أكثر ذهولاً الشنيني احد أهم الأسواق الشعبية اليومية في اليمن وأشهر أسواق مدينة تعز التي تعكس نمط الحياة السائدة والتراث العريق من التفنن والإبداع الذي ينتجه أبناء المحافظة و يؤمها المتسوقون من كل حدب وصوب ليشكل أحد عوامل الجذب السياحي من حيث التعدد في المنتجات التي يعرضها الباعة باعتبارها جزءاً أصيلاً من حياتهم وليس مجرد صناعة او حرفة فقط, والتنوع الخلاب في أزياء المتسوقين ولهجاتهم وهم يتقاطرون من كافة الجهات. لقد جاءت تسمية السوق نسبة الى رجل اسمه الشنيني كان يقطن في تلك المنطقة داخل مدينة تعز القديمة حيث مكان السوق اليوم , وفي رواية أخرى لأهل السوق تقول بأن المنطقة كانت عبارة عن أراض زراعية خصبة تتحول الى برك ومستنقعات تشن بالماء عند هطول الأمطار. . سوق الشنيني سوق هادئ إلا من أصوات الباعة والمتسوقين , مسالم في كل الظروف , والباعة فيه تجدهم دائماً رائقي المزاج متواضعين لأبعد الحدود فهم يعملون على قاعدة “الذي ما يشتري يتفرج” لقد تشكلت طبائعهم من عبق التاريخ التي تفوح بها المساجد والمآذن السامقة والمدارس الدينية والمباني القديمة من حولهم والتي خلفتها حضارات مرت ذات يوم على ذي عدينة وسكنتها لفترات طويلة فكانت مركز إشعاع علمي وحضاري جمع بين دفتيه فنون العلم والأدب وصنوف الصراع السياسي والديني ثم تركتها في غابر الأيام دون رجعة مخلفة وراءها مآثر شاهدة للعيان تحكي تاريخاً تليداً هناك يفيض بعبق التاريخ وإجلال الحضارة وهو يسري بين ثناياها من أعالي قلعة القاهرة معرجاً على السراجية ثم باب موسى ليعود ثانية الى الباب الكبير مروراً بسوق الشنيني محطة زيارتنا اليوم . في الشنيني تشاهد الناس كنوارس وفراشات وهم يمتعون نظراتهم بخصائصه البديعة وينعمون بحرية المضي والعودة واستنشاق الهواء المعجون بروائحه الزكية , الحظ السوق وقد صهر الجميع بمختلف طبقاتهم ولهجاتهم وأجناسهم وأشكالهم فمنهم من طاب له التجول فيه بصورة دائمة ومنهم الوافدون من البلدان الشقيقة والصديقة وهم السياح الذين يأتون إليه فرادى وجماعات ونظرات الإعجاب تملأ عيونهم من روعة ما يرونه من معروضات الشنيني , وما سمعناه ان جميع الشركات والوكالات السياحية تحرص دائماً على زيارة سوق الشنيني ضمن برامجها السياحية الى مدينة تعز . خلال تجولي في السوق المكتظ بألوان البشر وأنواع المنتجات لاحظت الكثير من المصنوعات الصينية قد وجدت طريقها الى السوق وهي معروضة بشكل يطغى على مصنوعاتنا ومنتجاتنا الرائعة وهو ما ساءني كثيراً فعلى الرغم من بساطة منتوجاتنا ورقة حالها إلا أنها تحمل رسالة جادة تجسد جانباً من هوية الإنسان اليمني ونمط حياته الأصيلة. إن أهم ما يميز سوق الشنيني من صناعات تتجلى فيها أصالة الموروث العريق لأبناء محافظة تعز هي صناعة الجبن البلدي والذي يتم تصنيعه في مناطق معينة بحسب درجة حرارتها مثل مفرق شرعب والكدحة ومقبنة وهجدة ومنطقة القاحزي وجبل حبشي والبرح ومنطقة العوشقي بالقرب من الوازعية التي ينسب إليها أجود أنواع الجبن البلدي المسمى بالجبن العوشقي والذي يتم تصديره كهدايا الى العديد من البلدان وهو أهم ما يقتنيه السياح من هذا السوق. وعن صناعته تحدث إلينا الصلوي واحد من الباعة الذين يمتهنون صناعة الجبن في الشنيني منذ وقت طويل قائلاً: إنهم يعملون على استخراج معدة الماعز او التيس الصغير وقت ولادته وهي ما تسمى بالمنفحين ويودعونها بداخل قطعة من القماش ويتم ربطها جيداً حتى تجف ومن ثم توضع على اللبن في إناء صغير حتى يجفف اللبن فيكون هو العوب حيث يتم تعريضه للدخان ليصبح محمراً ويتم كبيه بنفس الكيفية التي تكبى بها قشوة السمن في المناطق الريفية التي لازالت بعض أسرها تمتلك الأبقار والأغنام وتستغل ألبانها كجزء من موائدهم اليومية ولكن يبقى التساؤل عن المادة الحافظة التي تبقي الجبن لفترات طويلة دون ان يتعفن هل تكمن في معدة ذلك التيس الصغير أم في الدخان الذي تتعرض له قطعة الجبن أم أنها في الطبيعة البيولوجية للمنطقة التي تصنع فيها الأجبان , والموضوع بحاجة الى أبحاث علمية حتى تستمر هذه الصناعة الرائجة وتقوم على أسس وطرق علمية في إنتاجها . من الصناعات الأخرى التي يتم تصنيعها وبيعها في سوق الشنيني الصناعات الفخارية كالمجامر والادواح والبرم والمدر والبواري المستخدمة لأغراض مختلفة , والصناعات الخزفية وتشكيل الحصير والمتعددة الأغراض والاستخدامات وصناعة الأدوات الزراعية , كما يعرض السوق أنواعاً عديدة من البهارات التي تجلب من مختلف مناطق الجمهورية وأهمها البن اليمني الأصيل ذو الرائحة الزكية والشهرة العالمية وأنواع من العطور والأدوية العشبية .