قال الشيخ العارف حصار بن نهفت المصمودي في «أخبار أهل النغم وفرقهم» باب ما جاء في ذكر «الحجازية» وما وقع فيهم من الأمور العظيمة: أن الحجازية لما علا شأنها وضاهت بألحانها الكثير ممن سواها «كالرصدية» و«الصبائية» أغتر أتباعها بأنفسهم وعلاهم الكبر والغرور فكان من أمرهم أن ألبسهم الله شملة البلاء وشماتة الأعداء!! وذكر الرواة من أخبارهم مافيه بيان لغلوهم وتطاولهم ومن ذلك مارووه عن أحد سادتهم أنه قام في مجلس الأنغام خطيباً فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يامعشر المقامات،تعلمون أنا معشر الحجاز أعذبكم جنساً وأطربكم لحناً وأرقكم طبعاً، وماكان لكم علينا من سلطان كي نرضى أن نكون من عامتكم بل سادة عليكم فما نعلم أحداً منكم ينازعنا في هذا الأمر إلا أن يكون سفيهاً أو مريضاً أو به من شيطان مارد!!، أو ليس يشهد برفعتنا شدو سيدة غناء أهل المشرق أم كلثوم في قصيدة الأطلال من مقامنا: فانتبهنا بعدما زال الرحيق وأفقنا ليت أنا لانفيق يقظة طاحت بأحلام الكرى وتولى الليل والليل صديق!! فعند ذلك ثار «البياتي» وقد إحمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال ومن عينيه يتطاير الشرر من الغضب: كذبت ورب الكعبة فإن لنا لشرف يفوق شرفك وعذوبة تفوق عذوبتك فإن شئت فاستمع لما يلي مقطعك الذي ذكرت آنفاً تعرف أنغامنا ومن نكون: فإذا النور نذير طالع وإذا الفجر مطل كالحريق وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كل في طريق أيها الساهر تغفو تذكر العهد وتصحو كلما التأم جرح جد بالتذكار جرحُ!! ثم أردف يقول: وأعلم أنك حجازي في أصلك وأن في فرعك «النهاوند» فهو الذي أعطاك الطلاوة التي زعمت ،فإن كان لنا فرع نهاوند مثلك فذلك لا يسلب من شموخنا قيد أنملة نحن معاشر أنغام ومقامات المشرق فنحن تزيننا «الأرباع» ويجملنا «الإيقاع» فهل سوانا أحق بأن تُشنف به الأسماع؟!! قال الراوي: فبهت الحجاز من مقالة البياتي فلم تقم له بعد ذلك الحين في مجلس الأنغام قائمة، بل تتابعت عليه الحوادث ما سيرد ذكرها في هذا الكتاب بالإجمال وليس التفصيل!! وذكرواأن النهوند كان حاضراً في ذلك المجلس وقد سمع مقالة البياتي فلم يشأ أن يتكلم بل آثر الصمت وكتمان الشهادة فكان أن سلط الله عليه «الحسيني» ذي الأرباع فاتخذ له فرعاً فيه فذلك ما سموه «حسيني البوسيليك» وبعثرته «التصاوير» على وتري النوا والدوكاه فأصبح اسمه «فرحفزا»!! قال المصمودي فبينما هم كذلك من لغط وجدل ونزاع إذ أقبل إثنان من أكابر الحي قد زادهما الكبر جلالاً يقود كلاً منهما صاحبه لايبرح البشر مطلعهما ولا يفارق العطر أنفاسهما، لهما شموخ كشموخ الجبال وألحان تسلب أفئدة النساء والرجال، في «فكروني» أو «حديث الروح» أو «الأطلال» أو غيرهم على سبيل المثال ألا وهما «الرصد» و«السيكا» فلما توسطا القوم تكلم الرصد فقال: قد بلغنا ما كان من اختلافكم ونزاعكم وما حملكم على ذلك إلا ماقاله مقام الحجاز وأنا والله لانريد إلا أن نكون أمة واحدة يجمعنا الإخلاص في تزيين الشعر والقصيد لايبغي أحد على أحد إلا من إعتدى فإننا نقاتله قتال رجل واحد!!أما أنت ياحجاز فلا ننكر فضلك وشرفك فينا إلا أنك أردت أن تتبرأ من شرقيتك فهجرتنا حيناً ثم عدت إلينا وقد رميت أرباعك واتخذت أنصافاً فصرت مسخاً من حجاز آبائك وأجدادك، أما كفاك أن تكون أطولنا بُعداً نغمياً في درجة وربع كي تعود وقد أصبحت من درجة ونصف ؟!!أما الأطلال فلكل واحد منا فيها نصيباً فللسيكا مذهبها وقفلتها وهو مقامها الذي أنُشئت به: يافؤادي لاتسل أين الهوى كان صرحاً من خيال فهوى أسقني واشرب على أطلاله وارو عني طالما الدمع روى كيف ذاك الحب أمسى خبراً وحديثاً من أحاديث الجوى!! أما «الصبا» فله منها: ياحبيباً زرت يوماً أيكه طائر الشوق أغني ألمي لك إبطاء المذل المنعم وتجني القادر المحتكم وحنيني لك يكوي أضلعي والثواني جمرات في فمي!! وأما النهوند فكان له نصيب كذلك: أعطني حريتي أطلق يديا إنني أعطيت ما استبقيت شيا آه من قيدك أدمى معصمي.... ثم جئت أنا الرصد «الراست» فأكملت مما انتهى اليه النهاوند وزدت في موضع آخر: لم ابقيه وما أبقى عليا؟! ما احتفاظي بعهود لم تصنها والام الأسر والدنيا لديّا؟! أين من عيني حبيب ساحر فيه عز وجلال وحياء واثق الخطوة يمشي ملكاً ظالم الحسن شهي الكبرياء عبق السحر كأنفاس الربا ساهم الطرف كأحلام المساء ولمقام «الكرد» فيها ماجاء في هذا المثال: أين مني مجلس أنت به فتنة تمت سناء وسنا وأنا حب وقلب نابض وفراش حائر منك دنا فلا يجعلنك الغرور تنكر فضل معاشر المقامات ممن عداك فإن ذلك من نواقض المروءة وأعلم أننا إن شئنا هجرناك أو قتلناك وألقينا بك عارياً على قارعة الطريق فلا تجد إلا أهل الأهازيج والطقاطيق وقد فعلوا بك ما فعلوا إذ قالوا: محبوب قلبي هجرني ياناس وين اشتكي به!! فلما أنهى الرصد مقالته أطرق الحجاز مليا ثم أنه أسف لصنيعه وأراد أن يعتذر ولكن أنى لأسفه أن يفيد فقد اجمعوا أمرهم فيه وقد سبقت كلمتهم ليكيدن له كيدا... وهو ماسنأتي على ذكره في العدد القادم بمشيئة الله.. والسلام. الهامش: الحصار والنهفت مقامان والمصمودي إيقاع شرقي شهير.. مابين الأقواس مقامات أيضاً. الأطلال أغنية لأم كلثوم من كلمات الدكتور ابراهيم ناجي وألحان الموسيقار رياض السنباطي من انتاج عام 6691م أما «حديث الروح» فمن كلمات محمد إقبال وترجمة الصاوي شعلان وألحان السنباطي انتاج عام 7691م أما «فكروني» فمن كلمات عبدالوهاب محمد والحان الموسيقار محمد عبدالوهاب وانتاج عام 6691م الجنس المقامي: تسلسل نغمي من أربع نغمات يعطي طابعاً لحنياً معيناً يميزه عن غيره مثل جنس الراست ،البياتي، الصبا...الخ لا أقصد توبيخ مقام الحجاز هنا بل بالعكس فهو مقام رفيع المستوى ولكن الحبكة الدرامية تقتضي ذلك!!