كانت خطواته الرشيقة حول مكتبها كفيلة بإلقاء التحية على قلبها الذي شاخ وهو ينام في كهف صدرها وحيداً منذ مات والدها وهي لم تتجاوز التاسعة من العمر..ثم زادتها الدنيا هماً حين تزوجت والدتها برجل آخر لم يكن لها إلا سوطاً..«مرام» باعت الحلوى طويلاً ولم تذقها..اشترت السكر ولم تطعمه..حملت على رأسها سلة السكاكر ولسانها يشتهي أن يفهم لغة الحلو بعد ما استمرأ سنين لهجة المر. كثيراً سرحت بسلتها بين الأزقة..على أرصفة الحارات أمام أبواب الولائم. سارت حافية..جائعة ..عطشى..مراراً تمنت أن تهطل الأمطار فتبلل جفاف حلقها وهي تطوف حول بيوت البشر...وحين تكون أنت بضاعة الفقر..وأنت مادة الكتاب المختوم بالأسى..وأنت الطعام الذي تسويه الأيام على نار الحاجة والعوز..تكبر سنين في عام واحد تصبح فيلسوفاً في أمور الحياة. يشيب رأسك وأنت صبي أو صبية لم يبلغ بعد نصاب النضج والاستواء...فلا ترى أمامك العالم وردياً..لا ترى عيناك إلا أشواك الأزهار..صواعق السماء..خفافيش الظلام...صقيع الأفئدة التي لم تجلس إلى مدفئة الأسرة...ولم يغفلها حنان الوالدين..تعلمت «مرام» أن تقنع بالقليل من الخبز لتجد مكاناً تأوي إليه كل ليلة مضت أيامها عصيبة بين مدرسة تصنع البؤساء وتزيد الحيارى حيرة وبيت لا يشكل لها إلا مأوى يحميها من ذئاب البشر الجائعة..كانت ترى فرقاً في معاملة زوج الأم لأبنائه من والدتها..اعتادت أو عودت أن تأكل بقايا إخوتها...ترتدي ثيابهم الرثة..تنتعل أحذيتهم الممزقة لكنها عاشت ولم تمت لم تكن وليمة شهية لليأس لم تعرفه ولم يعرفها حين دلفت إلى منزلها وهي تصرخ نجحت نجحت..أكملت المرحلة الاعدادية ياأمي كانت أمها بانتظارها لتبلغها أن عليها أن تغادر البيت لتعيش لدى جدتها في مدينة أخرى..بكت مرام طويلاً وهي تهز خاصرة والدتها..لماذا أرحل ؟!! وبغصةٍ حائرة.. ابلغتها أن عملها لم يعد يستطيع تحمل مسئوليتها فالحالة المادية صعبة وجدتها وحيدة وهناك تستطيع أن تكمل دراستها دون أن تكون عبئاً على أحد..ولملمت «مرام» بقايا ثيابها الممزقة ورحلت إلى قدرٍ مجهول خافته دائماً دون أن تراه..عاشته وهي لم تشعر به ..لكنها الحياة لا بد أن تضيف على مصائرنا رشات الملح مهما أذاقتنا طعم السكر. وفي أحضان الجدة..أكملت «مرام» مشوارها فوق الأشواك كان الفقر يسرحها نهاراً والأمل يمسكها ليلاً على مائدة الأوراق ،الأقلام...الجمل المبعثرة هنا وهناك مهما كان بعضها يفتقد المعنى..لكنه الأمل الذي يجعلنا سحاباً معلقة بين السماء والأرض نجوماً تحتضن الليل وتتوسد النهار..الأمل الذي يدفعك لتكون بحاراً وأنت في صحراء...تخوض غمار البحار تتجاوز الموج تعتلي عباب الطوفان...تعيش في بطن الحوت بين يدي الأخطبوط..على فك القرش لديك ماهو أقوى من هذا الزخم..إنه الأمل العصا التي توكأت عليها «مرام» وهي تحاول البلوغ إلى قمة حياتها...لتشعر بطعم السكر الذي حرمته منه الأيام..واليوم وهي خلف مكتبها الأنيق كمهندسة آن الآوان لتبحث بين دهاليز القدر على فرصة لإثبات حقها في نقش حروف اسمها على جدار الكفاح الطويل الذي مزق حذاءها..ورقع ثيابها.. وهدل جفنيها بالحزن وأذاب معالم الابتسامة على شفتيها بحرارة التعب والخوف والجوع والعطش..لا شيء يستطيع أن يرسم معالمه على وجهك مثل الجوع..له جيش من الآلات والإمكانات التي ترديك بين يديه صريعاً خائر القوى. لم تصل «مرام» إلى هنا إلا بعد أن كانت إحدى رعايا الحاجة المرة...وما أسوأ أن تجد من الحياة ما لا يملأ قلبك بالرضا..أو ما يسلبك اليقين..وكعادتها جلست على مكتبها بهدوء وحذر وكأنها تربت في قصر ملكي على يدي مربية ناجحة قبل أن تبدأه بالتحية..بادرها بإلقائها وفي برهةٍ من الوقت كان القدر قد أعاد إلى «مرام» شريطاً مضى بين تفاهات الحياة والموت وحقائق الصمود والخلود..إذ لا تمنح الإرادة بالحياة ألقاً إلا لأولئك الذين يمنحونها حقها من الصمود...وانحدرت حزناً مع دمعة أرسلتها والدتها يوماً وهي تربت على كتفيها فإذا استطاعت الحياة أن تُنسي إنساناً كل شيء فإنها لاتفلح فى أن تنسيه شخصين اثنين ابنه ووالدته..لم ينس نوح ابنه وهو يركب الموج...ولم تنس أم موسى ابنها وهو في رعاية الله وكذلك لم تنس «مرام» امرأة تشبثت بالحياة عندما أوت إلى ركن حسبته شديد...لكنه لم يكن كذلك...فبعد أن تمنحك غريزتك الجائعة الأمان فرصة الانقضاض عليه بلا رحمة.. تبدأ رغبة الخوف بالظهور ولا تغادر أبراج رأسك إلا وقد أسكنت فيك ما كنت تخشى أن تجده يوماً الهروب من نفسك تذكرت «مرام» كيف كانت تهرب من عيون نساء الحي وهن يتغامزن حولها عن صراخ والدتها الذي يتعالى كلما أقبل ركنها المتصدع يتهاوى ثملاً كل مساء...احترقت بدموع والدتها المتساقطة كحمم بركانٍ ثائر...وهي تترنح كجسد مصلوب تتوارى عن الناس خلف جدران منزلٍ متهالك لا تكاد تتركه اشباح الرعب ساعة ومرت «مرام» سريعاً على أسطر طويلة من قصة حياتها في كل عام كانت تقف أمام قبر والدها تتلو عليه صلوات الشكر والثناء أن كان سبباً في وجودها على هذه الأرض لتتعلم كيف تصبح خالية من أمراض الغرور والكبرياء..كيف تعطي ومتى تأخذ..كيف تتكلم مع كل إنسان لغة مختلفة عن تلك التي تتحدث بها مع آخر ..ويقطع الشريط الحافل بالذكريات قامته الرشيقة أمامها وهو يحاول البعث بدفتر مذكراتها الذي استودعته قلبها..وحرصت أن تكتب كل حرف فيه من دمع عينيها...لكن فضول الآخرين أحياناً يحول بين بقائنا مع قلوبنا في تواؤم صادق آخاذ ..إنما «مرام» اليوم ليست هي مرام الأمس..فقد أدارت ظهرها للأحزان وتزوجت الأمل...أغلقت كل منافذ العودة إلى الماضي وتناولت وجبة دسمة من النسيان حتى تعيد السعادة إلى قلب والدتها وأخويها من أمها..وقد فعلت ذلك فلم يعد الظلام سكن الأم ولم يبق الحرمان ديدنها..فقد تعلمت كيف يصبح دواء الروح من دائها وبداية الحياة من انتهائها..تعلمت كيف تلعب بينها وبين قلبها لعبة الاختباء خارج أسوار الذات...تلهو طويلاً بنا العواصف لكننا لا نلبث أن نتقاسم وإياها تمزيق الأشرعة لأننا مهما اعترفنا بذنب لم نقترفه يكن لنا منه نصيب مادامت الحياة باقية.. تقف «مرام» كطفلة أمام سلة الحلوى التي حملتها على رأسها يوماً ما..ما ألذ طعم النجاح حين يكون صبرنا هو سبب وجوده..اليوم تتذوق مرام طعم السكر الذي حُرمت منه وهي تتجرع مرارة السير على خط القدر..الخط الذي لا يحمل إشارة مرور واحدة تدفعك للتوقف..اليوم ترسم مرام لوحة حياتها ووالدتها بيديها دون أن تحمل على رأسها شيئاً يذكر..لا تغيب عنها وهي تسير حافية القدمين..ممزقة الثياب أمام الكبار والصغار مثل لعبة جميلة ألبست ثياب الفقر...غير أن ثياب الفقر المرقعة تلك علمتها كيف تستر سوأة الأيام بشيء من الصبر.