كان شاباً أسمر اللون قصير البنية، قوي العضلات، ويداه قويتان وخشنتان وعليهما بقع عميقة اللون مما يترسب عليها أثناء عمله كميكانيكي لإصلاح السيارات، وقد تجاوز عمره الثلاثين بقليل، ومتزوج ولديه خمسة من الأبناء والبنات. كان مظهره متجهماً، ووجهه مقطباً،وجبينه معقداً بعدد من التجعيدات، وقلت في نفسي هل هذه علامات الاكتئاب ظاهرة على وجهه بكل هذا الوضوح؟ أم أن هذا هو مظهره العادي الطبيعي لا غير؟ ولكنه بمجرد جلوسه أمام مكتبي بعد ترحيبي به مبتسماً ومتهللاً، لاحظت أنه لا يقدر على أن يرد على مجاملاتي أو حتى أن يغتصب ابتسامة، بل إن تقطيبات وجهه قد ازدادت حدة، وزاد وجهه جهامة. بادرته بدعوة مفتوحة للحديث، قائلاً: “إن شاء الله !؟ فأجاب بجفاء : أيش من خير؟...ما في ولا خير!..من فين بايجي الخير؟!.. وأنا لي ثلاثة شهور من دكتور لا دكتور...ولا في أي فائدة..كانت كلماته تنضح بالضيق والضجر، ورأسه يتهدل قليلاً على صدره، ونظراته خابية منكسة، وجو الاكتئاب الذي يشعه حوله يكاد يحاصر أنفاسي ويجرني معه إلى هوته العميقة التي لها قرار. طيب..قل لي ما هي المشكلة؟ المشكلة أني ما عدت قادر أشتغل ولا أجلس مع الناس ..ولا أروح البلاد عند المرة والجهال ..أنا جالس وحدي في مكان صغير وراء الورشة ولا أقدر أعمل حاجة ..وفتور شديد وإرهاق ..ولا أقدر أتحرك. ها..ها..يعني أنك مصاب بفتور شديد وإرهاق يمنعك من العمل ؟ لا..لا.. الفتور والتعب عاده من ذلحين قريب..أما المشكلة قد لها أكثر من ثلاثة شهور ..يمكن ستة شهور. أيوه بس أنت ما قلت ليش أيش المشكلة؟ قد قلت لك ..! ما قدرش اشتغل ..ولا أكلم زبون..ولا أجلس مع أي حد أنت عارف..الناس بيتضايقوا..ويهربوا من جنبي..قد قلت لك أني ما عاد أجزمش أروح البلاد..لأني ما أقدرش أجلس مع المرة أو الجهال..وأنا كذه..مين بيحملني !! بدأت أحس بأن لديه شيئاً يريد أن يقوله، ولكنه محرج بشكل شديد، فقمت من وراء مجلسي وراء المكتب، وسحبت مقعداً، وجلست عليه إلى جواره وقريباً منه، وقلت له بصوت هادئ يقترب من الهمس، رغم أننا كنا وحدنا في الغرفة: لكن ما قلتليش..أيش اللي يخلي الناس يتضايقوا منك..ويهربوا من جنبك. فأجاب بصوت يشبه الفحيح، وهو يخفض نظراته نحو قدميه: الرائحة..يا دكتور ..أنت عارف الناس ..وحتى أنا أصبحت أتضايق ولا أقدر أتحمل نفسي ..كيف با يكونوا الناس ! أيش من رائحة ؟ ..من أين تطلع الرائحة ؟ نكس رأسه بضيق شديد، وأخذ يزفر أنفاسه متبرماً، ولم يشأ أن ينظر نحوي، فوضعت يدي على ظاهر يده الممدودة على ركبته وقلت له مشجعاً: ما تخافش ..ولا تتحرج أبداً ..بس أشتيك تقول لي عن الرائحة..هل هي من الفم مع النفس، أو من عرق الإبطين، أو الجسم ..أو أي شيء آخر. أخيراً رفع رأسه نحوي مغضباً، وهو يقول: لا يا دكتور..من تحت ! قال هذه الكلمات وكأنه ينفض حملاً ثقيلاً عن كاهله، أو كمن ينفث من حلقه بصقة لزجة. آه..آه..ها..ها فهمت ..فهمت الآن هل هناك ألم في الدبر..أو قيح يخرج من فتحة الشرج ..أو من المنطقة..أو حبوب أو حكة أو أي شيء آخر ؟ لا..لا.. بس الروائح تخرج ..بشكل مستمر..ودائماً تكون حارة..حتى أني أصبحت أحس أن المنطقة كلها محروقة من شدة حرارة الروائح الخارجة. طيب..تقصد انك لا تقدر على أن تتحكم في إخراج هذه الروائح..وهي تفلت غصباً عنك ..! أيوه ..طبعاً..هي تخرج باستمرار.. ولا تتوقف أبداً ...!! طيب أنت نفسك تشم الرائحة..أو الآخرين فقط الذين بجوارك يشمونها وحدهم ؟ فأجاب بضيق شديد..وقد بدا له أن إلحاحي في الأسئلة والتدقيق أمر لا يطاق وليس له مبرر..وكأنني أعرضه لتعذيب متعمد: يا دكتور قد أنا أقول لك ..الروائح تخرج باستمرار ..وأنا أحسها وأشمها..وكل الناس من حولي ينزعجون..ويتضايقون..وينفرون من حولي ..أيش عاد أقول لك ثاني؟!! خلاص..خلاص..بس عاد أنا أشتي منك تقول لي حاجة واحدة ..هل في أحد من أصدقائك .., حتى زوجتك مثلاً قد تحدثت معك بصراحة عن الموضوع ؟ لا..لا..ما حدش قال لي بصراحة..لكن أنا أعرف من خلال نظراتهم وما يبدو عليهم من انزعاج ونفور ..أيش ما أفهمش ..والا عادنا انتظر أن حد يقول لي ..أنا خلاص تجنبت كل الناس..ولم أعد أجلس مع أحد ولا أقترب من أحد ..صرت أهرب منهم أنا ..بدل ما يهربوا هم مني ..! طيب أنت بينك وبين نفسك ..أيش تقول السبب في مشكلتك؟ أنا ما عرفش ..بس أقول يمكن باسور ..والا أي حاجة ثاني ..أنا قد رحت عند أكثر من عشرة دكاترة ..ولا حد افتهم له..لكن أكثر من واحد منهم قال لي أنه مش باسور، وأنا قد طلبت منهم يعملوا لي عملية للباسور..ما رضوش. وأضاف بعد قليل من التردد والتمتمة: واحد دكتور قال با يحولني عند طبيب أمراض نفسية ..ما رضيتش ..أيش أنا مجنون! ..أنا عندي رائحة تخرج وأحسها وأشمها ..ويشمها كل الناس ..ويهربون مني ..أيش الناس كلهم مجانين!! طيب سأجري لك فحص شرجي وسوف استخدم منظاراً صغيراً للتحقق من كل شيء وسوف نرى. أجريت له الفحص والتنظير الشرجي وكان كل شيء طبيعياً داخل وخارج المنطقة الشرجية، وكان المنعكس العصبي الشرجي قوياً، والعضلة المعصرة الشرجية التي تقفل وتفتح الشرج قوية، مما يدل على عدم وجود أي اختلال عصبي يسمح بانفلات التحكم الإرادي في فتحة الشرج. شرحت له النتيجة وبدا مندهشاً وغير مصدق، ولكنني أسرعت بالقول له أن هذا الذي يحس به ناتج عن اختلال التوازن العصبي الذي يتحكم في المنطقة الشرجية، وأن مكمن ذلك الاختلال في المراكز العصبية العليا للدماغ. لم يظهر عليه أنه فهم، ولكنني وصفت له الأدوية المضادة للاكتئاب والفصام وطلبت منه العودة بعد شهر، فخرج ولم يعد.