أول ما تُنطق كلمة جسر يتبادر إلى الذهن تلك الجسور الإسمنتية المحشوة بأطنان الحديد ، وقد يتبادر إلى الذهن تلك الجسور الصناعية التي يزرعها أطباء الأسنان في أفواه مرضاهم لتثبيت الأسنان أو ما شابه ، وكلها جسور مادية ، لكن الجسر الذي أتحدث عنه اليوم لا علاقة له بالماديات ،ولا يكلف صاحبه قرشا واحدا ، لكنه يبني علاقات اجتماعية أكبر بكثير من أي جسر يمكن أن نتخيله. الجسر الذي أتحدث عنه هو جسر المحبة والود والألفة ، وهذا الجسر له رسول واحد ، و وسيلة واحدة ليظل ثابتاً ومتماسكاً، هذه الوسيلة هي الابتسامة ، ولكن ليست أي ابتسامة ، لا بد أن تكون ابتسامة صادقة ، تحمل معنى الحب والتواصل ، وليست ابتسامة ساخرة يقصد بها التقليل أو التحقير ، وليست ابتسامة فاترة توحي للآخر بعدم أهميته عندك . الابتسامة التي اقصدها وصفها سيد البشرية عليه السلام بأنها صدقة ، ولكن في هذه الأيام المباركة التي نحن فيها بحاجة إلى نتصدق تجد بعضنا يذهب إلى الدوام ، وكأن في رأسه هموم الدنيا ، وعلى ملامحه رُسمت أخاديد الغضب ، فالحواجب مقطبة والعيون مشدودة إلى الداخل ، والشفاه مقلوبة، والويل والثبور لمن يلاقيه في الطريق، ويبتسم في وجهه ، لأن الذي يبتسم في وجهه في هذه الحالة يعني أنه يعلّق على شكله ، وبالتالي تتحول الابتسامة إلى عراك لفظي ، فيه ما فيه من الشتائم ، ولماذا كل هذا التوتر والغضب ؟ طبعاً لأن الشخص الغاضب وحده صائم في هذه الدنيا . ولو لم يكن ساهرا على أنواع المسلسلات ، وأمامه وريقات القات يتسلى بمضغها حتى وقت السحور ، لما استيقظ صباحاً مكفهر الوجه ، يوزع نظراته الشرسة على كل المحيطين به ، بداية من أولاده في المنزل منتهياً بزملائه في العمل إلى أن يصل إلى صاحب البقالة الذي يمر عليه قبل الدخول إلى البيت حين العودة . لا أدري ما الذي يختلف في شهر رمضان عن غيره حتى يصبح ليله نهارا بهذا الشكل ، وليت هذا الليل المتحول إلى نهار يُستغل بالعبادة وبناء جسور تواصل للمحبة والتراحم ، وليس لإرساء قاعدة الهدم- إن جاز التعبير- إذ تأتي فاعليتها في اليوم التالي من كل سهرة صيام ، فلا تجد موظفاً يبتسم في وجه زميله أو في وجه أصحاب المعاملات ، والمدير ناقم على موظفيه ، وتتحول الابتسامة إلى عملة نادرة جدا عند الصائمين ، مع أن الجميع لو نظروا للصيام أنه تربية روحية قبل أن يكون إمساكاً عن الطعام والشراب ، لعرفوا أن ابتسامة فقط تزيل كل تلك التوترات ، والويلات المتبادلة بين الزملاء فيما بينهم ، ومع من حولهم ، ومع رؤسائهم في العمل .