تُشكّل الأغنية الشعبية الزراعية بمنطقة المحويت جزءاً مهماً جداً من ذلك التراث الغنائي الشعبي الأصيل الذي تمتاز به عموم مناطق ومديريات محافظة المحويت الزاخرة بكل أنواع الإبداع والفنون الغنائية الشعبية المتنوعة بإيقاعاتها ونغماتها ولغاتها العامية ومسمياتها المختلفة.مثل”المغارد, الزوامل, والمهاجل, والبالة” وغيرها من الأهازيج والترانيم الشعبية المعروفة والتي لاتزال مختلف مناطق وقرى المحويت تحتفظ بها حتى الآن, حيث تشكل كل واحدة من هذه المسميات فناً وتراثاً إبداعياً زاخراً بكل ماهو جميل وراق وبديع من غنائي وايقاعي مستمد من إيقاعات الحركة والنشاط الإنساني والتفاعل مع الطبيعة والشعور الذاتي والوجداني للفرد ومن تلك الترانيم والأهازيج و”المغارد” المتنوعة يلتمس الترويح عما في نفسه من الهموم والمعاناة اليومية ومشاق العمل إضافة إلى البوح عما بداخله من الحنين والشوق إلى الأهل والأحبة أو العشق والاشتياق إلى الحبيبة وغير ذلك.. ولعل هذا التنوع الحاصل في جميع الأغاني والأناشيد الشعبية المختلفة سواء من حيث طريقة الأداء أو الترديد أو الإيقاع والنغمات وكذا التسمية لكلٍ منها على حده قد نتج بفعل ارتباطها جميعاً بالعمل الزراعي والذي يعتبر النشاط الأهم والحرفة الأولى التي يحترفها سكان محافظة المحويت عموماً بما جعل التعدد في نوعيات ومسميات هذه الأغاني. ومثل هذا القول هو ماأكده الدكتور/مصطفى أبو العلاء في كتابه«الأدب الشعبي اليمني» ص 40, حين تحدث عن الأغنية الشعبية الزراعية وأن التسمية الأمثل والجامعة لهذا الموضوع هو الأغاني الشعبية الزراعية, وذلك لأن هذا النوع يعد واحد من ثلاثة: الأولى: ترتبط بالعمل الزراعي في أحد فصول السنة. والثانية: بصلتها بالعمل الزراعي في أحد المواسم الزراعية. والثالثة: تقترن بالعمل الزراعي في أحد أوقات اليوم ليلاً أو نهاراً أو فجراً أو صباحاً أو ظهراً , ومن ثم تتدرج تحت هذه التسمية مسميات عدة لفنون قولية متعددة كبالة الخريف وتعد بالة”الخريف” إحدى أهم وأجمل هذه الفنون القولية أو الغنائية الشعبية الزراعية المتناقلة في منطقة”جبل المحويت” بالذات وتتميز هذه البالة بالكثير من المسميات والمعاني التي تميزها عن أية أغانٍ شعبية زراعية أخرى, رغم كونها في مضمونها عبارة عن مساجلة شعرية غنائية يتبادلها الأشخاص مع بعضهم البعض في فصل الخريف, وذلك أثناء فترات الراحة والعمل في الأرض أو أثناء تجولهم في المزارع في هذا الموسم من السنة والذي تكون فيه الطبيعة عادة في أبهى حلل لها مكسية بالزرع والخضرة والشلالات التي تخلفها سيول أمطار الخريف الغزيرة بما يضيف على هذا النوع من الاغاني الزراعية مايجعل لها مذاقاً وميزة خاصة. ومما يقال من مقتطفات غنائية في هذه البالة«بالة الخريف» مثلاً قولهم: قلت نهج الخريف جانا من الخير بتعريف قلت كاتب دحيف والحب روس العلاكيف ومن الملاحظ كذلك من المقتطفات الغنائية التي يجري تداولها عند الترنيم بهذه البالة إنها لم تقتصر على وصف الطبيعة والتغني بجمالها أو التفاعل بموسم زراعي مبارك العطاء ووفير الحصاد, وإنما تشمل كذلك التغني بالحبيبة والوصف للوعات العشق والغرام والحنين إلى الأهل والأحبة, وكذا التعبير عن الهموم والمعاناة المعايشة, وغير ذلك كما سنلاحظه في بعض هذه المقتطفات الغنائية. مثل: قلت حالي اليدين ماللدماج يسوجين قلت هو كثير دين وإلا مفارق حبيبين وقولهم كذلك: قلت عود البنوس يالي على الحيد مغروس لاقطفوك النجوس وأنا مقيد ومحبوس وأيضاً: قلت ياهمتي للخل كم قد تنهد لارضى يعلم الجيران ولايخبر أحد وماأكثر هذه المقتطفات الغنائية المتداولة في هذا الجانب على أنه يبقى إضافة لمثل هذه المقاطع الغرامية المعبرة عن الفخر والفروسية وغيرها من الأشياء الأخرى مثل قولهم: قلت ياطير شاتخبرك عالقوم ذي حطت على الوادي قلت سبعين ذي شلت وسبعين عادها باقي وبشروا من كان محبوس بالاطلاقي ومما يقال عن معاني هذه الترانيم ماحكاه أحد الآباء المسنين في قرية بني الصليحي بالمحويت, حيث أفاد هذا المسن أن هذه الأبيات كانت تقال كرموز يقصد بها المردد إيصال رسالة معينة إلى المستمع المقصود إيصال تلك الرسالة إليه لأي سبب من الأسباب فيروي مثلاً أن سبب قول هذا المقطع من البالة”بالة الخريف” وهو من الأقوال المشهور هنا ونصه كما يلي: قلت فرخ العقب يالي على الجو سكب قلت قوتك حطب وإلا من الريح إذا هب قلت سبعة لصوص والثامن العبد الأسود حيث يروي أن قائل هذا النص فتاة حسناء كان والدها ثرياً يمتلك الكثير من الأرض والمال وذا جاه ونفوذ كبيرين في المنطقة وكانت هذه الفتاة مغرمة بأحد الشباب, وكانت تلتقي به في مكان قصي من القرية حتى علم والدها بالأمر وفوض أبناءه السبعة ومعهم العبد الذي يملكه بتتبع أختهم, لكن الفتاة علمت بالمكيدة, وذهبت إلى نفس المكان, وعندما لمحت محبوبها قادماً رددت هذه الأبيات التي فهمها المحبوب وترك المكان ففشلت الخطة التي كانت تستهدف قتلهما معاً إذا صحت الحكاية. ومن ذلك أيضاً مايحكى عن علاقة حب جمعت بين شاب من شباب إحدى القرى وفتاة من فتيات قرية أخرى كان لكل من أسرة الشاب والفتاة أرض زراعية في منطقة تقع بين القريتين, في أحد وديان المحويت, ولأجل ذلك كانا في أيام المواسم الزراعية وغيرها من مناسبات العمل الزراعي وفترات الحصاد يلتقيان معاً فيتبادلان أحاديث الود, حتى أصبحت مواسم العمل الزراعية مناسبة رائعة للقاء هذين المحبين, وذات مرة جاء الشاب إلى الأرض التي اعتاد أن يلقى محبوبته فيها فلم يجدها, وكرر الزيارة حتى شعر باليأس, وذات مرة لمح الشاب فتاة تشبه محبوبته, ولم تكن في الواقع سوى أختها فأخذ يردد هذه الكلمات من أغاني البالة: قلت ياأهل الجباء كم للجباء عندك كم قلت شوال والقعدة وهذا محرم ويقصد بكلمة«الجباء» أي «الحظ» أو بمعنى«البخت» أو«النصيب» كما هو مفهوم في هذه المناطق وحين سمعته أختها عرفت صوته وفهمت معنى رسالته لأنها كانت على علم سابق بما يكنه لأختها المتوفية من حب فأدركت أنه لم يكن حتى تلك اللحظة يعلم بوفاة أختها فما كان منها إلا أن ردت عليه بالقول: قلت ياعاشقين من كان عاشق «تحكم» قلت ذاك”المليح” إلى رحمة الله تقدم والمقصود بكلمة«تحكم» أي يرضى بقضاء الله وقدره ويقتنع بمشيئته الإلهية في خلقه, وما إن سمع صوتها عرف أنها ليست المقصودة وإنما أختها فأدرك بذلك سر انقطاعها عنه وغيابها الطويل عن لقائه لأنه قد فهم حقيقة ماحدث لمحبوبته وبأنها قد انتقلت إلى رحمة الله تعالى.. فما كان منه إلا أن عاد باكياً, حزين القلب يصارع لوعة الشوق والحسرة والحنين على حبيبته المتوفية- وماأكثر هذه الروايات والقصص المتداولة إن جمعت.