تقول الحكاية العائلية، التي احتفظ بطلها الصغير بتفاصيلها دائماً اعتزازاً بدلالتها المعنوية وتوثيقاً لهذه الدلالة، أن رب الأسرة الفلسطينية كان يعمل ضابطاً في قوة حدود شرق الأردن. وكانت أسرته الصغيرة تقيم معه، لكن الجميع اضطر للعودة إلى فلسطين تحت وطأة الظروف غير الطبيعية التي كانت تعصف بالمنطقة العربية بأكملها في سياق الحرب العالمية الثانية وأحداثها وتداعياتها على الدول والبشر وفي طريق العودة المتكتمة لتلك الأسرة عبر القطار بكى الطفل الصغير، فشعر جميع الركاب بالخوف من أن تهتدي إليهم القوات الألمانية وتمنعهم من السفر، كما يحدث عادة في ذلك الوقت، فحاول جميع الركاب المذعورين إسكات الطفل الصغير ولو بالقوة، مما اضطر والده إلى إشهار سلاحه الشخصي دفاعاً عن صغيره، وكبر الطفل الصغير ليعرف تفاصيل الحكاية القديمة، ويستعيد ذكرياتها البعيدة، ليؤكد لنفسه قبل أن يؤكد للجميع درسه الأول المستخلص من وجوده الفلسطيني قائلاً: “حسناً.. لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم سأتكلم متى أشاء وفي أي وقت وبأعلى صوت، لن يقوى أحد على إسكاتي”. لقد كان البطل الصغير لهذه الحكاية هو الشاعر سميح القاسم الذي بقي محافظاً على وعده دائماً، وفي سبيل ذلك أعتقل مرات كثيرة وسجن ووضع رهن الإقامة الجبرية من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، لكن قصائده ظلت صامدة في وجه الأعداء ومتنامية في حديقة ديوان الشعر العربي بشكل أصيل وجميل.. ولد سميح القاسم في العام 1939م في مدينة الزرقاء الأردنية لعائلة فلسطينية، لكن العائلة عادت إلى فلسطين ليتعلم سميح في مدارس مدينة الناصرة، وما أن أتم رحلة التعليم حتى عمل مدرساً في بعض مدارس المدينة المختلفة، لكنه سرعان ماترك هذه المهنة لينضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي ويعمل في الصحافة محرراً في عدة مطبوعات، ولم يلبث أن ساهم في تأسيس عدة صحف ومجلات أشهرها صحيفة “كل العرب” واستمر في العمل الصحفي إلى أن تفرغ أخيراً لعشقه الأبدي المتمثل في الشعر موزعاً على أكثر من تجلّ إبداعي. وعلى الرغم من أن سميح القاسم يعتبر أحد أعمدة القصيدة المقاومة وخصوصاً في فترات احتدام النضال الفلسطيني ضد العدو المحتل، فإن ذلك لم يسلم قصيدته للتقليدية أو المباشرة، فقد ظل عاشقاً للمغامرة الإبداعية وممارساً للتجريب الشعري الذي تعامل معه باقتدار فني يعتمد على حرفية عالية، تصاعدت على مدى أكثر من خمسين كتاباً هي حصيلة الشاعر المكثر من إصداراته الشعرية وغير الشعرية، من دون أن يستسلم للسهولة أو المجانية في التعاطي مع الكلمة، وعلى مغامراته التجريبية ابتكر سميح القاسم شكلاً شعرياً يعتمد على المطولات أسماه بالسربيات، وقد بدأ الشاعر ذلك المشروع بسربية “إرم” التي صار شكلها العام مدماكاً من مداميكه الشعرية في العقدين الأخيرين من الزمن، وهو في سربياته تلك يتداعى بشكل حر وتصاعدي دون أن يهتم كثيراً بوحدة في الشكل بل يحاول الاستفادة من كل مايجده في طريقه الإبداعي من حالات وأشكال وصور ومعطيات فنية وموسيقية. ومع أن سميح القاسم أكد دائماً على الجذر القومي لمشروعه الشعري وهو تأكيد له شواهده الكثيرة في ديوان سميح القاسم الشعري، إلا أن خصوصيته الفلسطينية تجاوزت حدود الملامح المرسومة له كأحد رموز لوحة المقاومة الشعرية في فلسطين لتكون مقاومة له ملامح إنسانية عامة وخصوصاً في قصائده الأخيرة والتي بلغ فيها مزاجه الشعري الحد الأقصى له. بقي سميح القاسم ذلك الشاعر الحالم بفلسطين، هو الذي ظل يعيش على أرضها حتى وهو يواجه تلك الإشكالية التي عانى تبعاتها كل من تمسك بأرضه وبقي فيها بعد سيطرة الاحتلال الصهيوني، وإن عبر جواز سفر يحمل شعار نجمة داود، وظلت فلسطين نجمته المضيئة في سماء عربية سوداء غالباً، ولذلك كان القاسم كثيراً مايستعين بحكمة التاريخ وحكاياته وأساطيره ليكون أكثر قدرة على التعامل مع حقائق الجغرافيا المؤلمة، وأكثر قوة في مواجهة الواقع المريب، وأكثر إمكانية على الحلم بالمستقبل الفلسطيني أو ربما خلق هذا المستقبل ولو عبر قصيدة موشاة بالأمل والموسيقى وحدهما.. للشاعر عدد كبير من المجموعات الشعرية التي بدأ رحلة إصدارها في العام 1958م بكتاب: «مواكب الشمس» وتوالى بعدها صدور تلك المجموعات بوتيرة ثابتة وسريعة، ومن عناوينه اللافتة، «أغاني الدروب»، و«دمي على كتفي»، و«دخان البراكين»، و«سقوط الأقنعة»، و«ويكون أن يأتي طائر الرعد»، و«رحلة ةالسراديب الموحشة»، و«طلب انتساب للحزب»، و«قرآن الموت والياسمين»، و«الموت الكبير»، و«وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم»، و«أحبك كما يشتهي الموت»، و«الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب»، و«جهات الروح»، و«الكتب السبعة»، وغيرها من المجموعات الشعرية التي مازالت تتوالى في الصدور حتى الآن، بالإضافة إلى عدد كبير من “السربيات”، وعدد آخر من الأعمال المسرحية والحكايات والكتب النثرية والبحثية. وتبقى رسائله المتبادلة مع صديقه في الشعر والنضال والحياة الشاعر محمود درويش أحد أجمل مشاريعهما الإبداعية على الإطلاق. قصائد سميح القاسم 1 رسالة من المعتقل ليس لدي ورق، ولا قلم لكنني.. من شدة الحر، ومن مرارة الألم يا أصدقائي.. لم أنم فقلت: ماذا لو تسامرت مع الأشعار وزارني من كوة الزنزانة السوداء لا تستخفّوا.. زارني وطواط وراح، في نشاط يقبل الجدران في زنزانتي السوداء وقلت: يا الجريء في الزوار حدث!.. أما لديك عن عالمنا أخبار؟..؟! فإنني ياسيدي، من مدة لم أقرأ الصحف هنا.. لم أسمع الأخبار حدّث عن الدنيا، عن الأهل، عن الأحباب لكنه بلا جواب! صفق بالأجنحة السوداء عبر كوتي.. وطار! وصحت: يا الغريب في الزوار مهلاً! ألا تحمل أنبائي إلى الأصحاب؟.. من شدة الحر، من البقّ، من الألم يا أصدقائي.. لم أنم والحارس المسكين، مازال وراء الباب مازال.. في رتابةٍ ينقّل القدم مثلي لم ينم كأنه مثلي، محكوم بلا أسباب! أسندت ظهري للجدار مهدماً.. وغصت في دوامة بلا قرار والتهبت في جبهتي الأفكار ....................... أماه! كم يحزنني! أنك، من أجلي في ليل من العذاب تبكين في صمت متى يعود من شغلهم إخوتي الأحباب وتعجزين عن تناول الطعام ومقعدي خالٍ.. فلا ضحكٌ.. ولا كلام أماه! كم يؤلمني! أنك تجهشين بالبكاء إذا أتى يسألكم عني أصدقاء لكنني.. أؤمن يا أماه أؤمن.. أن روعة الحياة تولد في معتقلي أؤمن أن زائري الأخير.. لن يكون خفاش ليلٍ.. مدلجاً، بلا عيون لابد.. أن يزورني النهار وينحني السجان في انبهار ويرتمي.. ويرتمي معتقلي مهدماً.. لهيبهُ النهار!! 2 تعالي لنرسم معاً قوس قزح نازلاً كنت: على سلم أحزان الهزيمة نازلاً.. يمتصني موت بطيء صارخاً في وجه أحزاني القديمة: أحرقيني! أحرقيني.. لأضيء! لم أكن وحدي، ووحدي كنت، في العتمة وحدي راكعاً.. أبكي، أصلي، أتطهر جبهتي قطعة شمع فوق زندي وفمي.. ناي مكسّر.. كان صدري ردهة، كانت ملايين مئة سُجّداً في ردهتي.. كانت عيوناً مطفأة! واستوى المارق والقديس في الجرح الجديد واستوى المارق والقديس في العار الجديد واستوى المارق والقديس يا أرض.. فميدي وأغفري لي، نازلاً يمتصني الموت البطيء وأغفري لي صرختي للنار في ذل سجودي: أحرقيني.. أحرقيني لأضيء نازلاً كنت، وكان الحزن مرساتي الوحيدة يوم ناديت من الشط البعيد يوم ضمدت جبيني بقصيدة عن مزاميري وأسواق العبيد من تكونين؟ أأختاً نسيتها ليلة الهجرة أمي، في السرير ثم باعوها لريح، حملتها عبر باب الليل.. للمنفى الكبير؟ من تكونين؟ أجيبيني.. أجيبي! أي أخت، بين آلاف السبايا عرفت وجهي، ونادت: يا حبيبي! فتلقتها يدايا؟ أغمضي عينيك من عار الهزيمة أغمضي عينيك.. وابكي، واحضنيني ودعيني أشرب الدمع.. دعيني يبست حنجرتي ريح الهزيمة وكأنا منذ عشرين التقينا وكأنا ما افترقنا وكأنا ما احترقنا شبك الحب يديه بيدينا.. وتحدثنا عن الغربة والسجن الكبير عن أغانينا لفجر في الزمن وانحسار الليل عن وجه الوطن وتحدثنا عن الكوخ الصغير بين أحراج الجبل.. وستأتين بطفلة ونسميها “طلل” وستأتيني بدوريّ وفلّه وبديوان غزل! قلت لي أذكر من أي قرار صوتك المشحون حزناً وغضب قلت يا حبي، من زحف التتار وانكسارات العرب! قلت لي: في أي أرض حجرية بذرتك الريح من عشرين عام قلت: في ظل دواليك السبيه وعلى أنقاض أبراج الحمام! قلت: في صوتك نار وثنيه قلت: حتى تلد الريح الغمام جعلوا جرحي دواة، ولذا فأنا أكتب شعري بشظية وأغني للسلام! وبكينا مثل طفلين غريبين، بكينا الحمام الزاجل الناطر في الأقفاص، يبكي.. والحمام الزاجل العائد في الأقفاص .. يبكي ارفعي عينيك أحزان الهزيمة غيمة تنثرها هبة الريح أرفعي عينيك، فالأم الرحيمة لم تزل تنجب، والأفق فسيح ارفعي عينيك، من عشرين عام وأنا أرسم عينيك، على جدران سجني وإذا حال الظلام بين عينيّ وعينيك، على جدران سجني يتراءى وجهك المعبود في وهمي، فأبكي.. وأغني نحن يا غاليتي من واديين كل واد يتبناه شبح فتعالي.. لنحيل الشبحين غيمة يشربها قوس قزح! وسآتيك بطفلة ونسميها “طلل” وسآتيك بدوريّ وفلّه وبديوان غزل!!