ذهبت إليه وهو من كان لا يفارقها روحاً، ذهبت إليه والشوق يحمل مزن الدهشة، كيف التقيا؟ وكيف انطوت السنون والدهور في كفيهما فأنبتت سنبلة اللقاء الأول في ذاك الكتاب "البحث عن امرأة مفقودة". ترجت عينيه أن يفك طلاسم عبثها بخيالاته، أن يلون لوحاتها القاتمة في أركان قصيدتها المنهوبة. قبلت ذاك الرداء الأبيض الذي كان يرتديه أن يرحم الخراب الذي أحدثه همسه القاتل: "آه أي حياة هذه التي تجعلنا نرى مالا يقع عليه بصرنا؟ وأي أعين تلك التي تتحدث بما نحاول دفنه في ذواتنا؟ أسئلة وشكوك تمزق براءتها عند بوابة مكتبة. آمال ووعود تشتت أحزانها على كرسي كان قاعداً عليه وكتاب عزيز بين كفيه. أريد ذاك الكتاب "البحث عن امرأة مفقودة". هل وجدته؟! لم يلفظ بأية كلمة تسكن شغفها الصموت، لم يهمس لها كالمرة السابقة تثبت فكلانا صرعا الحب الصامت. كانت عيناه تجيبان وكل كتاب من حوله يصرخ بما في داخله، حتى ذاك الغبار كان يحاول أن يتفوه بتلك النيران التي تتسرب في الأوراق ولا تحرقها، بل تزيدها رونقاً. مد لها الكتاب، وخرج متلعثماً دونما أي حرف، ليشتم هواء نقياً كما زعم هروبه، فهي تدرك أن نسمات الكتاب وحضورها يكفيان لملء سبع رئات بالسكينة، فقد كانت تسمع صرخته في داخلها، كانت غائرة في ذلك الندب الذي يزين وجهه القمري، تندب صمتها بين حاجبيه المعقوفين دهشة وألماً وعجزاً. أخذت الكتاب وتوجهت خارجة من ذلك المكان الذي قاسمها عذاباً في أعماقها، تاركة أشلاء وبقايا ماضٍ ومستقبل ينتحب. كيف يكون اللقاء دون لقاء؟ كيف الدموع تذرف دون عيون؟ وأين الجنون من ذلك الذي أقض المضجع وابتلع السنا وبعثر الرجاء؟ خرجت كسيرة الأمن، منزوعة الأمل، والغربة تمد ذراعيها إليها من جديد. ابتسمت كالعادة والسؤال الأول يراودها "اتحدث الأرواح منذ آلاف السنين، فمتى ياترى تؤمن الأجساد بأقدارها؟" كانت عيناه تحوطان هيكلها الملتحف بالليل وهي تغادر حتى غابت عن ناظريه.