عندما ينجز المبدع باكورة أعماله فإنه يحرص أشد الحرص على أن يهديه إلى أعز المخلوقات إلى نفسه وأحبهم إلى قلبه وأقربهم إلى وجدانه، إلى من ألهمه ذلك العمل وكان له الفضل في تهيئة المناخ لإنجازه وإخراجه إلى النور.والشاعر والأديب محمد عقيل الإرياني عندما أنجز عمله الإبداعي الأول"في رحاب الثقافة" استهله بلوحة فنية نثرية إبداعية رائعة الإهداء ودوناً عن كل المخلوقات وكافة المناطق اختار الشاعر الكبير أن يهدي ذلك العمل الإبداعي الرائع" إلى مدينة تعز الحبيبة العاصمة الثقافية لليمن ..إلى مدينة تعز المتوهجة التي تتشح بالأغنيات وتبتهج بالكلمات وتسجد فيها آيات من البينات ..المدينة التي يحتضنها جبل صبر الأشم بين ذراعيه، إلى تعز اللؤلؤة التي عجز عن خلق مثلها محار البحر، والقطرة التي لن تجود بمثلها السماء ذات الحب والدفء والشمس الضاحكة. ولكن ما الذي جعل الشاعر محمد عقيل الارياني يختص تعز بهذا الإهداء البديع وبكل هذا الحب الجارف والمنزلة المتميزة والمكانة الخاصة؟ كان الجواب هو: في تعز عاش الشاعر أجمل سنوات عمره وأخصبها وقدم أفضل إبداعاته وصقل تجربته الشعرية والنثرية، وفي تعز مارس أدواره النضالية ضد الجور والظلم ومارس هواياته الإبداعية وأعماله النقابية. وفي تعز جسد قناعاته وأفكاره في مجال عمله القضائي وأقام العدل وساوى كفتي الميزان. وفي تعز ساهم في إحداث ثورة ثقافية متميزة أهلت تعز لنيل لقب عاصمة الثقافة اليمنية. وفي تعز شيد فناره البارز(مجلة المعرفة) ليهدي الشباب المبدع إلى شواطئ الأمان. وفي تعز نضجت تجاربه وتوسعت مداركه وذاعت شهرته وأخرج ما في جعبته واكتسب الصداقات الواسعة والعلاقات المتعددة والمكانة الرفيعة والمنزل المرموقة. ولكن هل لهذه الأسباب وحدها أحب الشاعر محمد عقيل الإرياني تعز كل هذا الحب المفرط الذي جعله لا يسمح لأية منطقة أخرى أن تشاركها ذلك الحب أو تنافسها على تلك المنزلة بما في ذلك قريته ومسقط رأسه وموطن صباه الأول ولهو شبابه إريان. فبعدما تيمته تعز وتملكت شغاف قلبه وكل حواسه صار لايرى في الوجود أجمل منها ولا مثيل لها، فعندما عاد إلى قريته إريان بعدما ذاق حب تعز ووقع في شراكها لم يجد في قريته أية لذة، وجدها قرية أخرى تفتقر لكل مقومات الجمال الطبيعي بعدما هاجرت طيورها وجنى عليها ومشى الزمان /ومعول الجاهل الإنسان / وأسماؤها ضاعت من الأذهان. فقال الشاعر محمد عقيل الإرياني في قصيدته عدت لقريتي: عدت لقريتي ماذا رأيت؟ضاع ربيع عطرها ضاع نسيم فجرها، ضاع بريق سحرها، عدت لأرشف الهوى فلم أجد إلا السراب، لا قطرات الطل في الأعشاب لا لؤلؤاً مذاب، ولا حقول البن حمراء وخضراء الإهاب، لا بلبل الوادي يناجي إلفه يدعو الصحاب، لا سجع أسراب الحمام لا هدير لا عُقاب. عدت لقريتي/ عدت ليعصر الأسى روحي ويضنيني العذاب. أما تعز فقد كانت عاطفة الشاعر نحوها دفاقة وجياشة وحبه جارفاً حتى أن المتجول في ديوانه(وثيقة حُب) سيجد أن الشاعر قد كرر كلمة(تعز) في ذلك الديوان عشرات المرات(8 مرات في 8أبيات متتالية في قصيدته أقوى من الطغيان شعب مؤمن و4 مرات في أربعة أبيات متتالية في قصيدته يوم المعلم بالإضافة إلى تكرار كلمة (تعز) في عدد كبير من قصائده فيما لم يذكر إريان إلا لماما. ترى ما الذي جعل الشاعر محمد عقيل الارياني يضع تعز في تلك المنزلة الخاصة والمرتبة العالية التي لا ينافسها عليها أحد؟!. إن المتأمل فيما قاله الشاعر في وصف تعز شعراً سيتبين له أن الشاعر قد وجد في تعز كل الصفات الحسنة والميزات العظيمة التي قلما توجد في سواها. فهي الحضن الدافئ لكل أبناء اليمن التي احتضنت الجميع ورحبت بالكل بدون تململ فرحة بهذا الدور مزهوة به: تعز تحتضن الجمع الكبير بها مزهوة شع في أرجائها النور وهي المدينة ذات الإرث الحضاري الممتد إلى أعماق التاريخ حين كانت حاضرة اليمن وعاصمة الدولة الرسولية وهي المدينة التي ألقت بالعادات القبلية وكل أشكال العصبيات خلف ظهرها واختارت العلاقات المتحضرة المتمدنة: تعز نبع الحضارات منها لا عشير يعوقها أو قبيل وهي ملهمة الشعراء والأدباء وما من أديب ومثقف إلا وكان لتعز بصمة على صوته وتجربته ونتاجه وفكره ابتداءً بالزبيري والحضراني والشامي وذي يزن وزيد مطيع دماج إلى عبد الله هادي سبيت وهاشم علي: وتعز مجد زاخر متدفق نهر الحياة بأرضها موار وتعز فكر نير متفوق تبنى شعوب العلم والأفكار حتى ثورة سبتمبر وأكتوبر انطلقوا من تعز وخططوا هناك صحيح أنهم ينتمون إلى كل المحافظات لكن تعز احتضنتهم وأثرت عليهم ووقفت إلى جانبهم وأيدتهم ودعمتهم: أو ننسى تعز مفخرة الشعب وتاريخها عريضٌ طويلُ ولأن تعز كانت السباقة إلى العلم والتعليم فقد كانت من أوائل رفض ظلم الإمامة ومقاومته وحرضت عليه وعندما جاءت الثورة في سبتمبر 62م كان استقبالها له بشكل مختلف: أنفاس سبتمبر في جوها عبق كأنما الورد في الأنحاء منثور وتعز تمتلك جيلاً مشبعاً بالثقافة الثورية المتأصلة يمتلك الخبرة الكافية للتفريق بينما يضره ما ينفعه: وجيل أيلول فيها نابه يقظ حر فلا الدس يغويه ولا الزور وكان ذلك نتيجة طبيعية لارتفاع نسبة التعليم بين سكانها وانتشارهم في كل مديريات الجمهورية: وشعاع العلوم يسطع فيها تتغذى به النهى والعقول وتعز مدينة الجمال الطبيعي والهواء النقي والمناخ المعتدل والسماء الممطرة والجبال الخضراء والموقع المتفرد وتعز حسن دائم متألق كل الفصول بساحها آذار وتعز مدينة استثنائية لا مثيل لها ولا نظير: صاغها الله من جمال وحسن لا نظير لحسنها أو مثيل وفي تعز يجد المبدع والأديب والرسام مبتغاه والبيئة الأنسب للتأمل والإبداع: تعز يهوى تعز كل ذي أدب حُب الجميلة للعشاق مغفور ولكل تلك المزايا كانت تعز مركز جذب الكل يهفو إلى زيارتها ويتمنى أن يسمح له الوقت أن يستمتع بجمالها الساحر وهوائها العليل ومناظرها الخلابة ومتنفساتها الرائعة: تهفو القلوب إلى تعز مثلما تهفوا إلى أشجارها الأطيار ومن قدر له أن يبارح رباها يعجز تماماً عن الانشغال عنها فتبقى تداعب خياله ولا تفارق ذهنه وكل من نأى عنها وفارقها فقلبه في رباها الخضر مأسور وكان الشاعر محمد عقيل الإرياني محباً لتعز غيوراً عليها لا يقبل في هذا الحب شريكاً ولا منافساً فهو يريدها له وحده ويغار عليها من كل من يحاول التقرب إليها والاقتراب منها والتغزل بها فقال: نظمت شعري في تعز قلادة والشعر منه قلادة وسوار أنا إن عشقتك يا تعز فإن لي قلباً ومالي عن هواك خيار وإذا تغزل فيك غيري لمته إن المحب على الحبيب يغار وبالرغم من هذا الهيام في حب تعز فإن الشاعر محمد عقيل الإرياني يعتقد أن تعز تستحق أكثر من ذلك بكثير وإن ما قدمه لتعز لا يتناسب مع ما يحمله لها من حب وإعجاب وتقدير وإعزاز فقال: واعذريني إن كان شعري قليلاً فكثير من المحب القليل