كعادتها الدؤوبة في قهر المستحيل قامت المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان قطاع المرأة والطفل بتنظيم فعالية بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة السرطان الذي يصادف 4فبراير من كل عام وذلك تحت شعار ( لمسة حنان) بافتتاح مشروع (إسعاد) لصالح الأطفال المصابين بمرض السرطان والذي يأتي كحلقة في سلسلة طويلة من المشاريع التي تتبناها المؤسسة بهدف إحداث الشراكة الاجتماعية بين أفراد المجتمع والمرضى الذين اثقل كاهلهم المرض وهد سقف أمنياتهم وتراهم بين الموت والحياة يتأرجحون كأنهم على صراطٍ دينوي من فوقهم تهطل زخات الألم ومن تحت أرجلهم يقف الموت فاغراً فاه ليتلقاهم وجبة دسمة قد تشبع نهمه بالتهام الأرواح وقد تزيده جوعاً !.. وليس من يصف الألم في كلمات كمن يعيشه في لكمات مميتة وطعنات قاتلة..كانت هذه الفعالية من الرقة والسمو بحيث جعلتني اندهش لأمرين هامين: 1 كيف يصنع الحب والتراحم والإيمان كل هذه القوة التي رأيت؟! 2 هل يجب أن نعلن عن التراحم أم أننا كمسلمين يعيش هذا الشعور في قلوبنا كفطرة سامية؟! فقد تخيلت لبرهة وأنا أراقب فرحة الأطفال بألوان البالونات والألعاب الملونة ودفاتر الرسم والتلوين لو أننا فقط ودون أن ننتظر مواسم أو دعوات العطاء نعطي من عند أنفسنا دون أن ننتظر شكر الآخرين أو همهمات الثناء على شفاههم . عند الخامسة تماماً بدأت الفعالية في فندق السعيد بتعز.. بدأت الفعالية بكلمة ساحرة تصحبها موسيقى هادئة تناسب حال الأطفال الذين كان بعضهم قد حصل على جرعته الكيماوية في المؤسسة للتو منتقلاً مباشرةً إلى الفندق، كانت الكلمة التي ألقتها الأخت المدربة والمستشارة ابتهال الأغبري قد صورت المعاناة في كلمات لا تخدش السكون ولا تقتل روعة الإحساس بالعطاء في لحظات قد لا نعيشها في الحياة مرتين أبداً. الطفلة منار بدأت بقراءة سورة الفاتحة وكأنها حين فعلت ذلك فتحت أنبوبة دواء لنتجرعه نحن وليس هي الطفلة المصابة بالسرطان تفتتح الفعالية ب”الحمدلله رب العالمين”. وفي دعوة للتفاؤل والأمل وتجاوز المحن بمنح السماء التي لا تنتهي قدمت الأخت أروى الأغبري رئيس قطاع المرأة والطفل في المؤسسة كلمتها الفواحة بعبير التفاؤل وأن سطوة الأقدار قد تهدي البعض موتاً بلا سرطان وقد تمنح الآخرين عمراً مديداً رغم الإصابة به وأن المهم في النهاية هذا القدر الكبير من الشراكة الاجتماعية بين المرضى بهذا الداء والأصحاء الذين يستطيعون بالعطاء دفعه عنهم وعن ذويهم. حتى لا ننسى أن الصدقات تدفع البلاء وتقوي الرجاء وترزق الولاء لرب الأرض والسماء. وفي أثناء إلقاء كلمة التفاؤل تلك تم توزيع بطائق تحمل قطعة شوكولا وكلمة من ماء الذهب تقول “لا تمشي أمامي فزعاً لا استطيع اللحاق بك، ولا تمشي خلفي فربما لا استطيع القيادة، ولكن أمشي بجانبي وكن شريكي الدائم.. طفل يريد الحياة” هذه الكلمات لم تترك لي ولكثير من الحاضرات من الأمهات والداعمات فرصة تذوق الشوكولاته أبداً!! في فقرة تلاحمية عاطفية جداً اشتركت فيها الداعمات والأطفال من مرضى السرطان بتلوين دفاتر الرسم في عجالة لا تزيد عن عشر دقائق تم بعدها أخذ صورة جماعية للأطفال مع رسومهم الملونة بالأمل وهم يبتسمون فرحاً بتحقيق إنجاز صغير منحهم السعادة مع أصحاب الأيادي البيضاء ممن لا يرجون من عطائهم إلاَّ وجه الله واليوم الآخر. حرصاً على مشاعر الأطفال تم استبعادهم إلى مساحة مجاورة خارج نطاق صالة العرض مع إحدى المتطوعات التي ارتدت زياً مهرجاً وأخرى ارتدت زي نمر لإدخال روح البهجة والمغامرة على قلوب هؤلاء المرضى، ومن ثم تم عرض بعض حالات لمرضى السرطان من الأطفال بعضهم رحل وبعضهم لا يزال يعاني سكرات الموت والبعض يتجرع الألم رغماً عنه حتى يأتي الله بأمره. كان الأطفال قد زُوّدوا برسائل ملفوفة بعناية ورقة تحمل أزهاراً صغيرة في شكل سوارٍ أنيق حيث قدم كل طفل رسالة للحاضرات من الداعمات أو غيرهن من الحاضرات. الرسالة عبارة عن شهادة حب تقول “يتقدم قلبي الممتلئ أملاً في العودة للحياة إلى قلب أمي الطاهر الحنون بالشكر والتقدير والحب والامتنان بأخلاقك النبيلة التي دفعتك لاحتضاني وانتشالي من بحر الخوف وزرع الأمل في قلبي الصغير بأني سأشفى بإذن الله ما دمتم معي جزاك الله خيراً وجعل حياتي في ميزان حياتك.. توقيع مريض السرطان”. معاناة الأطفال المشتركة جعلت من مشهد وقوفهم حول مائدة الألعاب مثلاً حياً لاستثنائية الصحة والمرض ذكرني ذلك بحالة التشتت التي يعيشها الوطن وأن الموائد السياسية لا تقف حولها قضايا أو هموم مشتركة، وكان ركن “عالمي الممتع” خاصاً بألعاب وضعت لإمتاع الأطفال والترويح عنهم. قامت إحدى الصديقات بتوزيع شيلان باللون الأسود والأبيض وضعتها على أكتاف أمهات المرضى في إشارة إلى حسم الموضوع في مسألة العطاء!! وهذه اللغة لا يفهمها إلاَّ من امتلأ قلبه بقوة الحق قولاً وإدراكاً. إحدى الأخوات في قطاع المرأة والطفل قدمت كلمة مؤثرة جداً على لسان طفل يموت ألماً فحين تشعر أنك على وعدٍ مع هدايا القدر فهذا هو الألم بعينه، ومهما كانت مشاعرك متجمدة فإن منظر أطفال يُقادون إلى المرح دون أن ينبع المرح من قلوبهم سيهز وجدانك زافراً دون أن تشعر غير أننا بالرغم من ذلك لا نستطيع وصف الألم كما تستطيع وصف الفرح بكل ألوان الطيف.. لكنها قالت في النهاية على لسان الطفل: شكراً لأنك لم تتركيني لوحدي.. وفي رسالة شفهية من الطفلة منار: من سيدفع قيمة هذه الجرعة لي؟! رافعة بيدها لتلوح بعلبة دواء وكانت بهذا قد افتتحت مزاد العطاء دون شعور منها حيث استحوذت على المايكروفون بشطارة نسائية جادة وناعمة في نفس الوقت الأخت المستشارة ابتسام عبدالواسع النعمان وهي تعرض مكان العطاء عن صاحب الخزائن كلها مثيرة إلى بعض قصص الصحابة وما جنته أيديهم من قيض عطائهم وإيثارهم على أنفسهم، مصورة كرم الله الذي لا تحده حدود الدنيا كلها حين يعطي دون أخذ ويوهب دون منّ. قدمت بعض الأخوات الداعمات آراءهن المأخوذة بعين الاعتبار فيما يخص الأطفال المرضى وموقف الأهل من المرض وكيفية التعامل مع ظروف المرض الخاصة تلك. بعد ذلك عرض على الداتاشو فيلم عن إنجازات قطاع المرأة والطفل والمتمثل اقتباساً لا حصراً في “حملة أكتوبر الوردية لمكافحة سرطان الثدي أطباق خيرية لدعم مرضى السرطان من النساء والأطفال الملتقى الأول للداعيات زيارات للمرضى وتوزيع هدايا وكسوة عيد حضور المرضى كراميش فعالية شاركوني فرحتي...”. في هذه اللحظات تم توزيع تيشرتات تحمل صوراً الأطفال بحيث يحمل كل طفل صورته على تيشيرت خاص به وكان الأطفال سعداء به جداً بعدها توقف الجميع لمدة ربع ساعة لإقامة صلاة المغرب ومن ثم عادت الأخت ابتسام النعمان مذكرة الجميع بفضل العطاء وأجر السخاء وهنا وصل المزاد إلى كفالة ستة من مرضى السرطان من مالها الخاص وسواها من الداعمات أيضاً في سباق تجاري مع الله لا تنفذ بضائعه أبداً. بعدها اختتمت الفعالية بتوزيع هدايا للأطفال المرضى وكانوا سعداء بها غاية السعادة، ومن ثم توجه الجميع إلى بوفيه مفتوح أعدتهُ نساء من أصحاب الأيادي البيضاء هبة منهن للحضور والأطفال لا يرجون منه إلاَّ الله تعالى. بقي أن نتوجه بكلمتين إحداهما إلى أمهات الأطفال المرضى وهي أن الحالة النفسية المستقرة لمريض السرطان تدعم شفاءه بإذن الله إلى جانب نظام غذائي لا يخلو من التمر والعسل كدوائين ناجحين لأمراض الدم وعدم الاعتماد الكلي على الدواء الكيميائي ومحاولة إخراج حالة البؤس واليأس من المنزل وفي كل الأحوال أقدار الله سائرة إلى حيث لا ندري فزعاً يعيش مريض بالسرطان في منزلٍ ما ويتوفى آخر في نفس المنزل دون أن يعاني أي مرض، السرطان ليس نهاية العالم فلربما كان هو بداية حياة وليس نهايتها. الكلمة الثانية نوجهها لأصحاب الأيادي البيضاء الذين يقفون خلف ابتسامات المرضى وإن كانت ابتساماتهم لا تبقى إلاَ ثوانٍ معدودة لكن عسى أن تعود على الداعمات بصحة ومن فضل من الله كبير، لنكن جميعاً أصحاب أيادٍ بيضاء ولنتذكر قول الله تعالى “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً” المائدة. وبقي أن نقول أن العطاء لا يجب أن تقام له فعالية أو يدعى إليه الناس لأننا كمجتمع مسلم ينبغي أن يكون عطاؤنا نهراً جارياً لا ينقطع أبداً فهذا هو ديننا وهذه هي حياتنا في منهجنا الحقيق والطاهر والخالي من التعقيد.