عملية التوالد طبيعية لكل فروع الحياة على وجه الأرض، وما يحدث للكائنات الحية عموماً وللبشر خاصة، فمادام الإنسان موجوداً فهو منتج، ومادامت الحياة موجودة فعملية التوالد والتلاقح مستمرة.كما تتوالد اللغات الحية وتتجاذب، تتوالد ومن أرحام بعضها ينتج شيء جديد يتحد مع واقع الحياة أحياناً ويعمل على التغير فيها أحياناً أخرى، خرجت القصة القصيرة جداً كأحد نتائج هذا التغير وأحد هذه المواليد الأنيقة من جهة للأدب، فمن رحم القصة القصيرة خرجت، فهل ياترى الشعرالنثري هو أبوها؟! ربما هذا الذي ستدور حوله حكاية هذا المقال أو الاستطراد إن صحّ التعبير. القصة القصيرة جداً، إنتاج أدبي جديد، هي فتية غاوية، مراهقة تتدفق حياة وعذوبة، وهي تلك الغاوية المغوية، بسلاسة انطلاقها وسرعتها وصدقها، لا تحتمل (اللت والعجن) تضع أدوات زينتها البسيطة جداً أمام الكل غير عابئة بمن يقول أو لا يقول. وهي من شدة إغوائها، قد تجذب الكثيرين كما يجذب الضوء الفراشات. حيث يظن سهولتها، لكنها لا تفتح عباراتها ولغزها إلا لمن يتمكن من نيل قلبها بحسن صياغته لقلائد عباراتها البالغة الدقة والكثافة، والتي قد تذكر بذاك الذي يرسم على حبة رز مدناً وأنهاراً وجسوراً، لا يمكن رؤيتها إلا عبر المجاهر. فالقصة القصيرة جداً، أحياناً تحتاج أبعاد مجاهر عقلية وإبداعات تخيلية للوصول إليها وتحليلها. قد يقال إنها سهلة، بسيطة وواضحة، لكنها فاضحة ومعرية لمن تغريه ولا يحسن التصرف معها. وما سرها إلا فيما يُرى من سهولتها!! هي تغوينا ككتاب قصة قصيرة كما تغوي الشعراء، لكنها زلقة قد توقع الكثيرين ممن يظنون سهولتها.. تعانق كتاب الشعر المنثور وتلتصق بهم، لذا فهي تزوج نفسها بالشعر المنثور، فينتج جمال وخفة وتصل سالمة متأنقة لجمهورها. القصة القصيرة جداً تلك الغاوية، تحمل فكرتها على رأسها قبل كل شيء، وتوصلها بأقرب الطرق، وأشدها صدمة في أحيان كثيرة لقلب المتلقي. تكون تلك الومضة التي تقدح أمام المتلقي مثل البرق، يهطل عليه مطراً فكرياً، يؤجج في داخله صدامات عديدة أو يفجر به طاقات كبيرة، لكن هذه القصة القصيرة جداً التي قدلا تتجاوز بضع جمل قصيرة مكثفة توقع كاتبها في ورطة لم يحسب حسابها وقد تفقده توازن عباراته. وهذا أيضاً ما يوقع حتى دارسي هذا الفن القصصي الجديد. السؤال: هل يمكن أن نضع تعريفاً لها، عفوياً وبسيطاً، ممتنعاً وسهلاً في الوقت ذاته؟ كيف نأتي بتعريف يصف هذه القصة القصيرة جداً التي همها الموضوع والفكرة لا الأشخاص، فالشخصية تتحرك لصالح الفكرة وتمشي وتسير وفقها، أما زمنها ومكانها، فهما إما يبرقان بسرعة أو أنهما كامنان لا يظهران، الغموض متنحٍ عنها كلية فلا مجال له. فنانها صائغ متقن الصنعة عارف كيف يحبك ويوظف الحدث بحبكة بسيطة جداً لصالح الفكرة، الشخصية هي لصالح الحدث ويقيناً هي للفكرة وضوحاً ونضوجاً. وكل الأشياء الأخرى من أسلوب وفضاءات موجهة لوصول الفكرة سالمة، الاختزال الشديد فيها يوصل الفكرة سريعاً لكنه لا يخل بجمال الومضة الشاعرية لها. هل نعرّفها أنها: هي قصة (الومضة الخاطفة) أو (الصرخة المنبهة). حيث المكان والزمان لا يظهران والمتلقي يحل شفرة العبارات المكثفة القصيرة، ويأخذ الفكرة كومضة البرق في عقله. يقول د. جابر عصفور: «فن القصة القصيرة» فن صعب لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه. إنه يعتمد على سعة الخيال والسرد القصير جداً، والذي يعبر عن معاناة الإنسان رجلاً أو امرأة كيفما كان وأنى يكون وعلى وجه الخصوص التعبير عن حالة واقعنا المحكوم بعلاقات سلبية ومتناقضة أغلب الأحيان، بهذا تكون مهمة القاص رصد واقتناص اللحظة التي تشكل جوهر القصة القصيرة». هذا الفن له قدرة مذهلة على بلوغ نصوص تتزاوج بها الكوميديا الهادفة والتراجيديا في أحيان أخرى، إنها نصوص سريعة وصادمة وموقظة إن صح التعبير. الرمز ليس إلا غاية للفكرة وهدفاً.