على مبعدة ساعة ونصف الساعة من عتق العاصمة الخالدة لمحافظة شبوة ثمة مدينة تدعى الروضة، نسبة إلى جمالها ولون أشجارها الكثيفة التي تكتنز في أعماقها أصفى المياه والأنهار الصغيرة.. توجهت صحيفة الجمهورية إلى هذه الجنة الضائعة وذابت في نسائمها العليلة وتاريخها العتيق، تتعجب احتضان المكان للزمان والعكس، لعل الدهشة تذهب بالصخر والفولاذ والضجر العالقات بذاكرة الذاكرة. طبيعة خلابة صدفة اكتشفت أن الطبيعة الخلابة خير علاج ناجح لمن فقد نعمة الإحساس، وأحسب أن براءة هذا الاكتشاف ستحسب لي في ظل السخافات التي تكتنف عالمنا الراهن كان ذلك في صباح صيفي قائض غزت حرارته فضاءات الكون، و لفت انتباهي أعناق نخيل سامقة، وأعشاب كالإخطبوط على صدر الماء الجاري، وسيمفونيات تغني، وتمنيت أن نكون بني البشر كالعصافير بلا حقد ولا بغضاء، فقط نعزف ألحاننا الرقراقة على أوتار الحياة، وترجلت السيارة على عجل وأنا أردد كالمجنون «وجدتها» ليست كهرباء أديسون، وإنما مصباح السعادة التي »قضيت سنوات غربتي أبحث عنها "لؤلؤة الروضة جمال أخاذ الجمال الأخاذ أخرجني من كبسولة ذاتي الكئيبة ولأول مرة أجدني شخصاً آخر كلما تغلغلت في أعماق المكان، عاد إلي مرحي، وفراشات أفراحي المفقودة.. كانت الشمس تذوب سوائل من العرق المنعش، وكانت الأسئلة تدور في أفلاكي عن أسرار هذه المنطقة التي فك طلاسمها الباحث والمؤلف بدر بامحرز الذي أكد أن العديد من المصادر التاريخية المحلية ومنها كتاب «الكوكب المنير» للسيد سالم بن أحمد المحضار مؤرخ حبان، وكتاب الوقادة للشيخ عبد القادر بن أبي بكر الروضي، تبين أن تاريخ اختطاط مدينة الروضة يعود إلى مطلع القرن التاسع الهجري تقريباً، وقد كان اختطاطها على يد الشيخ والعالم الكبير إسرائيل بن إسماعيل بن محمد بن عمر الحباني الخولاني إثر انتقاله من مدينة حبان التاريخية المعروفة إلى وادي عمقين المشهور، وقد بنى أول مسجد في هذه المدينة والذي يحمل اسمه، ويستطرد بامحرز في سياق حديثه وعلى ملامحه أفكار متوهجة وتفكير عميق: إن سبب تسمية مديرية الروضة بهذا الاسم غير معروف على وجه الدقة، ولكن أغلب الظن يذهب إلى وقوع المنطقة على مشارف غيل حبان الذي يعد بحق روضة غناء في وجدانات الأماكن القاحلة النادرة المياه، حيث تكاد أن تشكل أشجاره السامقة المتعانقة غابة جميلة، بالإضافة إلى تعدد المحاصيل الزراعية فيه، وجريان مياهه طوال العام، وقد كان الشيخ إسرائيل وإخوانه وذرياتهم من أهم الملاك الزراعيين في منطقة الغيل وعلى علاقة وثيقة به حرف متنوعة إن أحلى وأغلى الابتسامات هي تلك التي تشق طريقها بين الدموع الحزينة، تلك التي تشبه دموعي التي يغليها الهم كالمرجل، وعلى وجه الماء رأيت وجهي قد ازدهر بالنضارة فجأة بعيونٍ جديدة مؤتلقة وخدودٍ خالية من مجاري الدموع المالحة أكثر من البحر وهناك أيقنت أن الأرض فيها من البركة والكرامات الغالية أكثر من الماس التي خلفها الشيخ اسرائيل الحباني، وآل عبدالصبور يقول الباحث بامحرز في هذا الصدد: إن ساكني الروضة هم بالدرجة الأولى آل اسرائيل وآل عبدالصبور الفقهاء وكلهم اخوة، بالإضافة إلى السادة آل البغدادي، والكثير من الفئات الحرفية التي وفدت على المدينة من مناطق أخرى لوجود الأمن والاستقرار بها والذي رسخه الشيخ الحباني، حيث منع القتال بموجب الدين والأعراف والتقاليد المتبعة في تلك النواحي، الأمر الذي أدى إلى ازدهار المدينة واتساع عمرانها فغدت من كبريات مناطق محافظة شبوة، ولم يقتصر الازدهار في هذا الجانب فحسب، بل تعداه ليشمل البراعة في مختلف الحرف الشعبية التي أجادها أبناؤها كالنسيج والتطريز، والحدادة والنجارة، والبناء وصناعة الملابس، وتعد المعاوز المنسوجة في مدينة الروضة من أفضل المعاوز اليمنية رواجاً في السوق المحلية، كما يمارس أبناء هذه المدينة الفاضلة رياضة القنص والصيد البري، وهي رياضة شعبية أصيلة أنشئت لها العديد من الفرق الشعبية، وتنظم مبارياتها في مواسم الصيد البري، وقد تحولت تلك المواسم الرياضية إلى موسم المهرجانات الشعبية والثقافية غناء ورقصاً واهازيج ومساجلات أثناء العودة من القنص وفق طرق وأساليب تقليدية معروفة.. والزائر للمدينة يشاهد الكثير من مبانيها القديمة مزدانة بقرون الوعول التي يتم صيدها، وهذه العادة نراها موجودة في العديد من مناطق ومدن حضرموت وديان وغيول شاخ النهار فدجاه الظلام، ورددت الوديان السحيقة والجبال النارية أصواتاً مرعبة.. ذئاب وقرود وبوم وثعالب، وانكمش البدن المرتجف حتى تنفس الفجر الملتهب بلا رحمة لعالم جديد أحاول تصديق بشرته الساحرة.. ومرت لحظات مدهشة اعتقدتها خداع البصر والبصيرة. كان وادي عمقين الذي خلده الشاعر يسلم باعلي بقوله «جنة الدنيا عمقين» وهو كما يقول عنه الأستاذ بدر: وادٍ شهير يضم العديد من المناطق والقرى والتجمعات السكانية الواقعة على ضفافه، منها قرى الشعيب والحلكة والظاهرة وريمة وثرة والجنح، وعمقين التي تحتوي آل فهيد من نهد، وباية وسر والعطفة ونحر ونسول، وشرج بن حاتم، وبريرة والجعدة، وقرى أخرى اندثرت بفعل الزمان السائل، ويعد وادي عمقين من أكبر وأطول الأودية في محافظة شبوة، فهو يمتد من مرتفعات جردان وجبال السيطان، وتذهب مياهه الدافقة إلى البحر العربي بعد مرورها بوادي ميفعة ملتقية بروافد أخرى لاعد لها ولا حصر.. ويضيف بامحرز: إن هناك وادياً آخر ضخماً هو وادي سلمون المعد من أودية الشق النهائي، ويقطن دفتيه قبائل نعمان بقراهم المتعددة كالحيرة والحنكة ونخل وسدة باكيلي وشروج نعمان وبالمناسبة فإن وادي عمقين قد ذكره الشاعر الغنائي يسلم بن علي باسعيد قائلاً: قال يسلم بن علي: قسمت قلبي على المحبين، ياعدن ماياحلالك جثة الدنيا عمقين. ويختتم بامحرز حديثه بالقول: ومثلما اشتهرت الروضة بوديانها اشتهرت أيضاً بغيولها الرائعة كغيل حيان وغيل الماطر وكلاهما جنة وارفة لاتذبل مدى الآباد والازمان ابتهال للرب أغمضت رموشي وفتحتهما كان ذلك امتحاناً لذاكراتي الخائنة في حفظ الاشياء، ونجحت بعد أن فرقتها الطبيعة الآسرة وعلى صهوة الوداع شربت الملامح البشرية المكتوب على جبينها شعب واحد ووطن واحد ودين واحد وأعراف وتقاليد واحدة، وروابط اخوية واحدة ومصير واحد، كذلك كان الحال عند الأشجار والأزهار والجمادات، فأطلقت زفرة ملتهبة، ثم بصقت بصقة طويلة على الشيطان الخبيث الذي يحاول تمزيق صفوف الأخوة ويزرع الفتن والفرقة، وتشتيت شملهم ليقود اليمن إلى مستقبل مجهول لايدرك سوى الحريصين مآله، ودعوت الله من قلبي ان يحفظ اليمن من كل مكروه.