ذات صباح مطعون أفاقت على صور ضبابية تتحشرج في الأفق وصقيع الغربة يعصفُ بالقلب، تضم لصدرها طفليها وترضعهما خلاصة القهر والوجل، تسرح بها الذاكرة إلى أوقات تعطلت فيها رائحة الشجن. * * * حين قادته الخطوات الضالة نحو قريتها الصغيرة كان شاحباً وظمآناً، بلا أرصفة أو عناوين، صادف الكثير من الخيبات في شوارع عمره ولم يزل قادراً على البقاء بشبقه! أما هي فكانت لاتزال بعمر أزهار الربيع يطفو على ملامحها الحزن لكنها تجهل حدود الألم، ترشقك بتداعياتها البريئة والعاشقة وهي تجهل ماهية الحب! * * * حين ركضت إليه كان المطر يهطل بغزارة، والنسوة مُسرعات يختبئن تحت سقوف المنازل، لكنها ببساطتها وبراءتها هرعت تختبئ في ظل صدره.. تدس وجهها بين يديه وتبتسم «كم أنت دافئ.؟ كأنك ابن الشمس». ضمها إليه وهو يحدق في تفاصيلها يبحث عن أسرار الروعة فيها، كان يطفو عالياً وهي تتسرب في دمه: كم أنت حنونة، وشقية كهرة صغيرة «كم أحبك». وذات فرح رمادي.. أخبرها أنه سيحملها معه ذات يوم إلى مدن لا يزورها الظلام وأغاني لا تموت، وأحلام بلا خيبات، إنها ستكون رفيقة دربه، وبأنه سيدشن معها أكواناً أخرى، سيغسل كل أخطائه ويتطهر بها! أحبها حد الموت، لأنها كانت تُدهشه على الدوام كان يباهي بها جرحه، نجمة تشرق في فوضى حُبه. عرف معها كيف يكون العشق موسوماً بالدم والموت، كيف يعلق على خاصرة قلبه تمائم الحب كي تقطنه الورد! وما كان لها إلا أن تحب، بعد أن احترف التوهج في أوردتها، وأن تعتلي فيه عرش الجنون. لملمت ما تبقى من طفولتها الهشة ووارت في صدرها بعض صور أصدقائها ودفاترها المهترئة، شطبت بقايا أحلامها المؤجلة ورحلت معه. رحلا معاً بحنين حلم تعاهدا بالعشق أن يرعياه فكان لهُ في محاجرهم دربٌ وعنوان. * * * ودون أن يشعر كان يزحف بثلوجة على فرحها ويحاصر أغانيها، استباح حياتها وطفولتها، وصهيلها، ولم يتح لها أن تتفتح معه كوردة يتيمة الفرح! وقبل أن بمضي وقت طويل كان قد استنزف الكثير من أسرار ألقها.. وخلّف فيها الذبول ثم بدأ بالصلاة عليها «صلاة الخائن». كان الوجع عالياً، لهيب الفاجعة يسري في أوردتها، لتنغرز كالطعنة في خاصرة جنونه وغدره، تواريهما الخيبة والدموع.. حاصرت خطواته، وجردته من زيفه، فقرر أن يقتل فيها لغة الرفض أو يتركها خلفه. * * * وما كان لامرأة مسكونة بزهر الحب إلا أن تغفر وإن تلاشت في أوجاعها. كلهم أرادوا الدمع في أعيننا نافر.. فإلى أين تشرد بغواياتك عنا، والعمر بحجم الموت؟! مازلت أفتش في فضاء قلبك عن عُمرٍ ضاع ولست تدري، مازلت تفتش في أنفاس الشوارع؟ لا تبحثي عن إجابات منطقية لكل الأشياء، ستفقدين استمتاعك بالواقع إن أردت امتطاء صهوة الريح وارحلي أنت أيضاً! ليتني أستطيع دراية أننا ما عدنا رفاقاً وما عدنا أحبة، لكن التراجع الآن هو المستحيل، لماذا تدعني أنحني؟ إنني أقتل!! إنني متعب، غير أني!! وداعاً.. تذكر «قد تعود لي يوماً ما حينها لن أكون أنا»، ستفاجئك اللحظات الغادرة، ولن تنجيك كل هذه الكؤوس من تلك الوجوه التي خلفت فيها البؤس. تركها ورحل..