مرّت القصيدة العربية أثناء مسيرتها الطويلة بتحولات كبيرة، و بزغت في سمائها نجوم كثيرة ،أضافت لفضائها أنواراً جديدة غطَّت على ما تحول من أنجمها السابقة إلى ثقوب سوداء، وملأتها أشعة برَّاقة، وتلاوين ساحرة، وكان ذلك على يد شعراء مبدعين، وموهوبين كبار، فكان أبو نؤاس صاحب الخطوة الأولى في التغيير حين قاد عملية التحديث في المطالع، و استعمل الألفاظ المدنية الرقيقة بدلاً من الألفاظ الوحشية البدوية، ثم تبعه أبو تمام بنقلة كبرى، حين ملأ أبياته بالاستعارات، والمجازات المكثفة، وصار الشعر على يديه مليئاً بالفكرة، والصورة، بعد أن كان لا يعدو التشبيه الساذج، و التقريرية المباشرة. مروراً بالإحيائيين، ثم مدارس الديوان، والمهجر، وأبوللو، إلى أن جاء الحدث الكبير، الذي خرج بالقصيدة العربية من تحت عباءة شكلها التقليدي الكلاسيكي، إلى آفاق الحرية، و الحركة، بجهود السياب ونازك الملائكة، و أخذت شكلاً جديداً يعبر عن مضامين جديدة، ويتسع لمطالب كبرى ((لكي تحقق للشاعر من نفسه، وذبذبات مشاعره و أعصابه، ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه، و القضية لا تقف عند مزاج الشاعر، و إنما تتعداه إلى أكثر من ذلك، فلم يكن الأمر استجابة لتطور شكلي، و إنما كان كذلك استجابة لبنية مضمونية تبحث عن متسع لها...في ظل انتشار ثقافات متعددة، فلم يعد الشعر موقوفاً على أغراض الغزل و المديح والهجاء، و إنما انفتح على قضايا العالم الجديد، لم يكن باستطاعة الشكل القديم استيعابها )) ([1]). لقد كان هذا المولود الجديد فتحاً كبيراً في الشعرية العربية، وقف بصلابة و جرأة كبيرة، وتحدّى مصاعب الرفض؛ إلى أن وقف على رجليه شامخاً، و كان يحمل في بطنه تحولاً ((من تحولات الشعر أوجدته الحداثة، ومحاولات التجريب الشعري، و التطور الحتمي للأدب ذلك هو ما أطلق علية قصيدة النثر ))([2])، ولم تقف المحاولات التجديدية عند هذا الحد بل لا زالت مستمرة و متدفقة، تأتي كل يوم برافد جديد يصب في نهر الشعرية العربية، و العالمية، و لازال التجريب ضرورة ملحّة من ضرورات الحياة التي غدت تنطلق في كل ميادينها، انطلاقات صاروخية، يضاف إلى ذلك أن التجريب صار مظهراً من مظاهر التمرد على التقاليد، والأعراف القديمة في الأدب، وتحول إلى هاجس يحثُّ الأديب على استغلال مادة جديدة، ومجهولة وذات صمود أمامه مما يثير فضوله، وانفعاله ويغريه بالتجريب، أن يرغمه على أن يرفض باستمرار كل الأعراف و المعايير والطرائق التي تحول بينه وبين هذه المادة، مانعة إيّاه عن إدراك كنهها، ويدفعه كذلك التصور الجمالي الذي يقول بالتمرد ضد القواعد القائمة، فيتحرك باتجاه ما يتطلبه الفن العظيم، فلا يختلف الباحثون في أن الفن العظيم كان دائما وعبر كل العصور هو ذاك الذي يمثل خرقا للعادي اليومي من مألوف القيم ،والأشكال الجمالية المضمونية ،أو اللغوية، بل يمكن أن تنسب إلى الخرق للمألوف، والمستقر من القيم كل التطورات والإبداعات التي تشمل حقول الثقافة والأدب والفنون والعلوم([3]) ، لقد رافق هذه التطورات في الأدب و الشعر، وعلى مستوى العالم كله ،وليس فقط في الأدب العربي تنظيرات نقدية، و قراءات علمية، وصفت ما يحدث، و درسته بتركيز وأثرت وتوسَّعت بتوسعه، فطالعتنا إنجازات كبرى، حجمها بحجم المنجزات الجديدة، تقف على دقائق الأمور، وتضيء الزوايا البعيدة، وتطالع الأشياء بعيون فاحصة، و كان من بين إنجازات هذه الحركة النقدية، الوعي بتداخل الأجناس، و المناداة بموت الأنواع الأدبية، فتوصَّل النقد الحديث إلى إن الكتابة:(( نص قبل أن تكون جنسا أدبيا محدداً، و أنَّ كل نص يعد جيولوجيا كتابات، أي انه يتكون من مجموعة من النصوص التقت فيما بينها بكيفيات مختلفة )) ([4]). إذ ترى جوليا كريستيفا: إن النصوص تتفاعل فيما بينها، فالنص عندها عبارة عن تشكيلة فسيفسائية ممتصة، أو متحولة تنقل النص من نظام دلالي قديم إلى نظام دلالي جديد ([5])، فكان لمثل هذه الحركات الرصديِّة الواعية أثره في الكشف عن تداخل ما هو نثري بما هو شعري، إذ بدأت الحواجز تذوب بشكل كبير، وصار لتطور الرواية، و الإقبال عليها وكذلك لشيوع القصة القصيرة وغيرها من أشكال السرد، إسهام في مثل هذا التداخل، وترسخ للفهم بأن (( النثر والشعر وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يعمل على إيصال الأفكار، وكلاهما يكتب بطريقة جميلة )) ([6]). وبما أن القصيدة العربية خطت خطوات كبيرة إلى أن وصلت إلى حلقة القصيدة النثرية، أصبح من الطبيعي جداً أن يكون((الطريق ممهداً لتداخل الشعري والسردي))([7]). على الرغم من أن الشعر العربي كان قد أنطوى على ذاتية غنائية لم يخرج منها إلى الآن إلاّ بشكل ضئيل، (( كان الشعر العربي منصرفاً منذ الأزل في الأعم الأغلب من حالاته إلى التفكير في نفسه، في همومه، في أفراحه و أتراحه الشخصية، مما جعل الغنائية تطغى، فقلَّ فيه بسبب من ذلك القصص، وخلا الحوار، فافتقدنا فيه الملحمة الطويلة التي تضاهي الياذة هوميروس، أو تحاكي المهبارتا الهندية، أو تضارع الشاهنامة الفارسية، وذلك لأن مناخ الحضارة العربية ضلَّ موضوعي النزعة، وموضوعيته هذه كانت تصدُّ أبناءه عن الإغراق في الخيال، والوهم المبتدع))([8]) . كان هذا حال الشعر العربي في القديم أما بعد الفتوحات الكبيرة التي بدأت على أيدي رواد الحداثة من شعراء التفعيلة وقصيدة النثر، واستجابة للتطورات الكبيرة في التكنولوجيا، والتغيرات الممتدة في كل زوايا الكون، وتماهيا مع الهزّات الفكرية المترتبة على الأحداث الكبرى في العالم أخذت الشعرية العربية يحثّها هاجسها في الانفتاح على الأدب العالمي، تتمظهر بتمظهرات جديدة، متأثرة بما جاورها، و نابعة من أصالة مبدعيها الذين وعوا تراثهم العظيم، وطوعوا لغتهم الخالدة في تكوينات إبداعية جديدة تعبِّر عن روح وثابة للانصهار في بوتقة التغيرات المتلاحقة، فكان (( النص المفتوح )) واحداً من هذه التكوينات التي يمكن أن يقال عنها إلى حد هذه اللحظة بأنها لا تزال في طور الجنينية الساعية نحو تكوين الملامح الواضحة، فلا يزال هذا النمط الإبداعي محدود الانتشار، عصيّاً على التعريفات الدقيقة، مع الاعتراف بأنه ضرورة مرحلية لا بد منها بحكم هذا التداخل الإنساني على جميع المستويات. وللتعرف على هذا الكائن الجديد، نحاول أن نستقصي مجموعة من الدراسات التي سلَّطت الضوء عليه، ولعل من بين أهم الذين تكلموا عن النص المفتوح الدكتور( خزعل الماجدي)، فهو يقدم لنا رؤية جديرة بالعناية، إذ كتب تحت عنوان (قصيدة النثر العراقية وجذورها القديمة): إن الشعر السومري كان قصائد نثر استعاض عن الموسيقى العروضية بتقنيات التكرار، و المقابلة، و الوصف، والتشبيه([9])، وحين جاء الشعر البابلي فإنه كان (( موزوناً، وتنتظمه تفعيلات مفتوحة، أو حرة، و لكنه لا يلتزم القافية في نظام ثابت، فالقافية مرة فيه معدومة تماماً، ومرة كما في الشعر الحر، ومرة عمودية، فهو مثل ما أطلقنا علية في عصرنا الحاضر بقصيدة الشعر الحر ))([10]) ، وبعد ذلك ظهر في العراق الشعر العمودي، وقد رجح الماجدي كونه ناشئا من احتمال انتظام الشعر البابلي في قافية صدر وعجز. أو قافية بيت كامل تتكرر بانتظام، ثم أصبح العراق موطن الشعر العربي العمودي في العصر العباسي، وهكذا تبدأ العودة إلى صميم التراث([11]) (( بتحطيم بنية الشعر العمودي، ونشر تفعيلاته مع ترك الحرية لترتيب القوافي حسب مقتضيات القصيدة، وحاجة الشاعر إلى ذلك، وبعد هذه الثورة الشعرية بدأ التفكير بالتخلي عن الوزن والقافية))([12]). إن هذه العودة كما يراها الماجدي، (( تعني عودة الحرية، فبعد أن تعسفت الموسيقى كجنس فني خارج الشعر في تكبيل الشعر، وحولته إلى شعر تفعيلة، وبعد أن تعسفت الهندسة عن طريق التناظر، فخلقت من شعر التفعيلة شعراً عمودياً جاءت ثورة الشعر الحديث؛ لتزيل تعسف الهندسة أولاً، ثم تعسف الموسيقى ))([13]) . إن هذه الدورة تعني (( رحلة الشعر خارج ذاته، وعودته إليها مخصباً )) ([14]) ،لقد مارس الماجدي (النص المفتوح)، كتابة وتنظيراً، ومن تنظيراته فيه بعد أن يؤكد: (( بأن النص المفتوح لا يزال غير قاد على منافسة قصيدتي التفعيلة و النثر، وهو نمط ذوقي تكتبه نخبة خاصة تتصف بقدر كبير من المثابرة و الصبر )) ([15])، ثم يستمر واصفاً شخصية القادر على ممارسة هذا النمط من الكتابة (( إن النص المفتوح يحتاج إلى قدر كبير من شخصية السارد الملحمي والمعرفي، إنّه جنس شعري يتخذ من الكتابة فعلا شعريا مغامرا يقف بوجه متون السرد، والدراما والمعرفة الحديثة، منافسا لها قدر انطلاقه من أرض الشعر أنه مصالحة الشعر مع المتون، ثم تطويقها أو تفخيخها بنيران الشعر ))([16]). ويمرُّ الماجدي بإيجاز كبير على المسيرة التاريخية للنص المفتوح في الغرب، وعند العرب والذي يهمّنا من هذه المسيرة البدايات العربية، إذ يقرر الماجدي أن” مفرد بصيغة الجمع “ لأدو نيس 1977 تمثل بداية أولية لهذا النمط([17])، ومن أهم النقاط التي يترسمها الماجدي في النص المفتوح.