أحد أعلام الإسلام وأئمة الفقه المشهورين مؤسس مدرسة الرأي الفقهية في العراق ولد عام 80ه وتوفي عام 150ه في سجن المنصور كما سنرى. كان صاحب تعمل وتهذيب وغوص في مسائله، كما كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن في كل ليلة، وقد قيل عنه إنه(صلى الصبح أربعين سنة بوضوء العشاء، وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين ألف مرة)(1). وكان – رحمه الله – قد درس علم الكلام حتى فاق فيه كثيراً، وتأثر بعلوم عصره من الفلسفات الشائعة في بغداد في ذلك العصر فاتسعت آفاقه، وتعددت معارفه ، فكان لهذا الاتساع والتعدد انعكاس مباشر على مسائله الفقهية وآرائه. (وكان أبوحنيفة يأخذ بالرأي عند فقدان النص، إذ النصوص متناهية، بينما الوقائع غير متناهية، ومالايتناهى لايضبطه مايتناهى، وذلك لايعني أنه كان يقدم القياس النظري على الحديث الصحيح، فما من ريب أنه كجميع أصحاب المذاهب المشهورة كان يعمل بالسنة متى ظفر بها وصحت لديه، إلا أن أصحاب الحديث أفرطوا في ذمه وتجاوزوا الحد في ذلك، وكان أولى بهم أن يذموا مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام، فالإمام معذور، وأتباعه غير معذورين..)(2). كما هو معروف فقد رد أبوحنيفة أخبار الآحاد التي كانت تصله وله الحق في ذلك، ذلك أن موجة النحل والكذب والافتراء قد شاعت عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) كثيراً واختلط الصحيح بالسقيم، فكان الحديث يخرج من المدينة شبراً فيصل العراق ذراعا، كما أثر عنه. ولقد تبنى هذا الافتراء بعض الخلفاء المستبدين الذين جعلوا من الحديث النبوي مطية ومبرراً لسلوكياتهم وطغيانهم كما تبناه أيضاً بعض من ضعاف النفوس، وحتى أن مسألة رد خبر الآحاد كانت شائعة قبل ذلك فقد ردت عائشة(رضي الله عنها) خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله)(3). وكان لأبي حنيفة (رحمه الله) قول مسموع عند الناس وكلام مقبول، كما كان له هيبته واحترامه، وهذا ماجعل الخليفة المنصور يتحسسُ منه ويتوجس، خاصة وأنه أبوحنيفة ذو ميل علوي، وقد وشى به خصومه إلى المأمون أنه يساعد إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب في خروجه على المنصور بالبصرة. ولما كان ذا حال واسعة من التجارة، وذا علم واسع، ولعلم المنصور من تبرم أبي حنيفة من القضاء ورفضه له سلفاً وذلك لتدخل الخلفاء في شئون القضاء، وإثناء بعض القضاة عن الأحكام الشرعية الصحيحة لصالح دنياهم، فلقد أراد المنصور أن يقضي عليه وينتقم منه ليستقر عرشه، وتأمن نفسه فطلب منه أن يكون قاضياً، وهو يعرف سلفاً موقفه من القضاء، وأنه سيرفض هذا العرض(وأن أبا حنيفة لايفعل ذلك، ويأبى كل الإباء أن يلي القضاء فتوصل المنصور بهذا السبب إلى قتل الإمام، فأنت ترى من هذا أن السببب الحقيقي في موت الإمام هو السياسة قاتلها الله، فإنها مادخلت في شيء إلا أفسدته)(4) . وقد حلف المنصور على أبي حنيفة بيمين قاطعة إلا أن يلي القضاء، وإن لم يفعل ليحبسنه ويضربه ويعذبه فتوالى الرفض تماماً، ومن ثم أمر المنصور جنوده أن يخرجوا أبا حنيفة ويطوفوا به في الأسواق بين الناس، ويضربوه ضرباً موجعاً، ففعلوا وضربوه كل يوم عشرة أسواط في السوق حتى سال الدم من جسده، وتشققت بشرته، وتفطر جلده، وأثر عليه الضرب تأثيراً كبيراً كما منعوه الطعام والشراب حتى هزل جسمه واصفر لونه. ولما اشتد عليه الألم وتورم جلده من الضرب بكى من شدة الألم، ودعا الله (عزوجل) أن ينقذه من محنته وهو في السجن، وقد أحضر له السم في كأس الماء، وأكرهه جنود المنصور على شربه بعد معرفته بالسم الذي في الكأس، ولما شربه قام مبادراً فقال له المنصور إلى أين؟ فقال إلى حيث بعثت بي، ومضى إلى زاوية من زوايا السجن فمات فيها وهو ساجد يدعو الله، وأخرجت جثته وصلي عليه ست مرات لكثرة المشيعين وشدة الزحام التي امتلأت بها شوارع بغداد، وكان عمره سبعين عاماً. الهوامش 1 - البداية والنهاية لابن كثير 87/8 2 - النظم الاسلامية د.صبحي الصالح 210. 3 - المصدر نفسه 211 4 - أبوحنيفة محمد أبوزهرة 221