يخفى على الكثيرين من الناس - بقصد أو دون قصد- المفهوم الحقيقي للحياة وما يدور فيها من حولنا، والبعض الآخر يدرك أن الدنيا شرعها واحد في تعاملها مع الناس، وفي هذا الكلام رد واضح على أولئك الذين انكفأوا على أنفسهم فهمدوا وركبوا الخمول، وتسلّحوا بالدعة والكسل، وبنوا لأنفسهم سقف الطموح الأدنى، بحجة حظوظهم السيئة فيها، معللين ذلك بمشيئة الله التي كتبت عليهم دون أن يكلفوا أنفسهم فهم حقيقة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء أن الإنسان هو من يسيّر حياته من تلقاء نفسه، والآخرون هم من يحكمون عليه على ضوء ما يشاهدونه من أفعال وأفكار. يحكى أنه كان هناك مدرس مجتهد يُقدّر التعليم حق قدره، يريد أن يختبر تلاميذُه اختبارهم الدوري عندما حان موعده؛ ولكنه أقدم على فكرة غريبة وجديدة لهذا الاختبار؛ فهو لم يُجرِ اختباراً عادياً وتقليدياً بالطرق التحريرية المتعارف عليها، ولا بالأساليب الشفهية المألوفة؛ فقد قال لطلبته: إنه أعد ثلاثة نماذج للامتحان، يناسب كل نموذج منها مستوى معيناً للطلبة، النموذج الأول للطلاب المتميزين الذين يظنون في أنفسهم أنهم أصحاب مستوى رفيع، وهو عبارة عن أسئلة صعبة، والنموذج الثاني للطلاب متوسطي المستوى الذين يعتقدون أنهم غير قادرين إلا على حلّ الأسئلة العادية التي لا تطلّب مقدرة خاصة، أو مذاكرة مكثّفة، والنموذج الثالث يخصّ ضعاف المستوى ممن يرون أنهم محدودو الذكاء، أو غير مستعدين للأسئلة الصعبة، أو حتى العادية نتيجة إهمالهم وانشغالهم عن الدراسة. وبعد أن تعجّب التلاميذ من أسلوب هذا الاختبار الفريد من نوعه، والذي لم يتعودوا عليه طوال مراحل دراستهم المختلفة، راح كل منهم يختار ما يناسبه من ورقات الأسئلة، وتباينت الاختيارات، وعدد محدود منهم اختار النماذج التي تحتوي على الأسئلة الصعبة، فيما عدد أكبر منهم بقليل تناول الورقة الخاصة بالطالب العادي، وبقية الطلاب تسابقوا للحصول على الوريقات المصممة للطلاب الضعاف، وقبل أن نعرف معاً ما حدث في هذا الاختبار العجيب أسألك أخي القارئ: تُرى أي نموذج كنت ستختار لو كنت أحد طلاب ذلك الفصل؟!. وبدأ الطلبة حل الاختبار؛ ولكنهم كانوا في حيرة من أمرهم، فبعض الطلاب الذين اختاروا الأسئلة الصعبة، شعروا أن الكثير من الأسئلة ليست بالصعوبة التي توقعوها! أما الطلاب العاديين؛ فقد رأوها بالفعل أسئلة عادية قادرون على حلّ أغلبها، وتمنّوا من داخلهم لو أنهم طلبوا الأسئلة الأصعب؛ فربما نجحوا في حلها هي الأخرى، أما الصدمة الحقيقية؛ فكانت من نصيب أولئك الذين اختاروا الأسئلة الأسهل؛ فقد كانت هناك أسئلة لا يظنون أبداً أنها سهلة. وقف المدرس يراقبهم، ويرصد ردود أفعالهم، وبعد أن انتهى الوقت المحدد للاختبار، جمع أوراقهم، ووضعها أمامه، وأخبرهم بأنه سيُحصي درجاتهم أمامهم الآن. دُهش التلاميذ من ذلك التصريح؛ فالوقت المتبقي من الحصة لا يكفي لتصحيح ثلاث أو أربع ورقات؛ فما بالك بأوراق الفصل كله؟! واشتدت دهشتهم وهم يرون معلّمهم ينظر إلى اسم الطالب على الورقة وفئة الأسئلة، هل هي للمستوى الأول أو الثاني أو الثالث، ثم يكتب الدرجة التي يستحقها ولم يفهم الطلبة ما يفعل المعلم، وبقوا صامتين متعجبين، ولم يطُل عجبهم؛ فسرعان ما انتهى الأستاذ من عمله، ثم التفت إليهم ليخبرهم بعدد من المفاجآت غير المتوقعة. أفشى لهم الأستاذ أسرار ذلك الاختبار - فأول سرّ أو مفاجأة، تمثّلت في أن نماذج هذا الاختبار كلها متشابهة، ولا يوجد اختلاف في الأسئلة، أما ثاني الأسرار أو المفاجآت؛ فكانت في منح مَن اختاروا الأوراق التي اعتقدوا أنها تحتوي على أسئلة أصعب من غيرها درجة الامتياز، وأعطى من تناول ما ظنوا أنها أسئلة عادية الدرجة المتوسطة، أما من حصل على الأسئلة التي فكروا في كونها سهلة وبسيطة فقد حصل على درجة ضعيف، وبعد أن فَغَر أغلب الطلاب أفواههم دهشة واعتراضاً، وعلى وجه الخصوص أصحاب الأسئلة العادية والسهلة، راحوا يتأملون كلام الأستاذ وتبيّن لهم مقصده.. وأكّد هذا المدرس هذا المقصد، عندما أعلن لهم بأنه لم يظلم أحداً منهم؛ ولكنه أعطاهم ما اختاروا هم لأنفسهم؛ فمن كان واثقاً في نفسه وفي استذكاره طلب الأسئلة الصعبة؛ فاستحق العلامات النهائية، ومن كان يشكّ في إمكانياته ويعرف أنه لم يذاكر طويلاً؛ فقد اختار لنفسه الأسئلة العادية؛ فحصل على العلامة المتوسطة، أما الطلاب الضعاف المهملون الذين يرون في أنفسهم التشتت نتيجة لهروبهم من التركيز في المحاضرة أو الحصة، ثم تجاهل مذاكرة الدروس؛ فهؤلاء فرحوا بالأسئلة السهلة؛ فلم يستحقوا أكثر من درجة ضعيف. وهكذا هي اختبارات الحياة؛ فكما تعلّم هؤلاء الطلبة درساً صعباً، من هذا الاختبار العجيب، عليك أنت أيضاً أن تعلم أن الحياة تُعطيك على قدر ما تستعد لها، وترى في نفسك قدرات حقيقية على النجاح، وأن الآخرين لن يعطوك أبداً أكثر مما تعتقد أنك تستحق، فإذا أردت أن تحصل على أعلى الدرجات في سباق الحياة؛ فعليك أن تكون مستعداً لطلب أصعب الاختبارات دون خوف أو اهتزاز للثقة، فهل أنت جاهز للاختبارات الصعبة، أم أنك ستُفضّل أن تحصل على درجة ضعيف؟. متى يدرك الكثيرون منا أن الطموح متى ما كان ذا سقف مرتفع وصادف إرادة فولاذية لا تعرف المستحيل فإن الواقع لا محالة سيصدق هذا الحلم الذي راود صاحبه وسعى سعياً حثيثاً لتسلقه واعتلائه. [email protected]