عند السور المتهالك، في غمرة شروده، أحس بو عمر بإعياء فتهالك على عتبة كوخ الحارس الذي أمامه، وأسند ظهره إلى جذع شجرة ملقاة، وراح يلهو بحصى صغيرة في قبضته. ولم ينتبه إلا والشمس قد انحدرت ولامست أدنى الجبل، فاستدار وأفسح لعينيه ملامسة ما بداخل كوخ حارس الصهاريج، وفجأة .. أحس بالحارس يدنو من ورائه. اقترب العجوز منه حتى شعر بأنفاسه المحروقة تتسارع إلى أنفه وأسمعه ما كان ينوي سماعه: - بوعمر خليها على الله، كل وجع وله تلف! وواصل الكهل همسه بتلك النبرة الصادمة: – لا تبالي بشيء! ثم ساق قدميه إلى كوخه، تاركا بو عمر في حسرته يقطر عرقا وأسفا، وظهر له جليا أن لا أثر للدروب هنا. أزاح بيده مدخل الصهاريج الصدئ قليلا، ودخل مطرق الرأس، ولم يكترث لقطرات المطر الخفيف وهي توشوش أذنيه، لكن ما حصل بعد ذلك استرعى انتباهه، فقد اشتد طرق المطر فجأة وعلم أن شهر الخصب أتى لينزع عن كاهل هذه المدينة المتوجسة جفوة آذار. أسرع وأوكل لشجرة سيسبان كابية حمل القدر الأوفر من عبث نيسان على أغصانها، وتطلع عبر فرجة الباب الجانبي إلى المدينة التي برزت وكأنها هرم رمل على شاطئ يعبث به موج البحر. قبض على المسند الصدئ بيد رافعا مئزره المبلل باليد الأخرى، وأرجى ذلك الشحوب الغاضب في محياه من الظهور إلى بعد حين، وصعد درجات، وتقدم كأنه على موعد مع شيء ما، عزم أن يوقع نفسه في الصهريج الكبير، لكنه لمح وهو في غمرة ما أسر صبية ينسلون من الفتحة التي أحدثها ويندفعون بشدة نحو الصهريج، أرادوا أن يشهدوا مياه المزاريب وهي تأخذ طريقها، ثارت حفيظته، رمقهم بحنق، وعاوده ذلك الشعور بعدم الرضا، وانزوى في فج صخرة ناتئة، وأقسم أنه سيعاود الكرة متى سنحت له الفرصة. تعالت صيحات الوافدين التي لم تألف امتلاء بطون الباحات بالماء مما أثار ساكني ندوب القمم. شرعت الغربان تتطاير من الجبل المحيط المنفلق وملأت المكان نعيقا. ووصلت الضوضاء أوجها. واضطر كل من أراد أن يلتمس اللهو أن يلتقط ما أمامه وراح يداعبها به، مما أرغمها إلى الارتفاع عاليا والاختفاء لبرهة .. وأخيرا زال رجيع صداها. ساد سكون عميق المكان ، ودون سابق إشارة ظهر بوم أبيض، أخذ يدور من علٍ، فوق بئر مسيجة يتحاشاها كل من يرتاد الصهاريج. حلق حتى وصل إلى الهوة الجنوبية وربض فيها يراقب كل شيء، وسط ذهول الجميع . تشاءم كبار السن وترقبوا حادثا كبيرا ، ولم يدم ترقبهم للحادث ، إذ هوت فوق رؤؤسهم حجارة ضخمة ، كأن ماردا خفي يبصقهم بها من الأعلى، وارتجت الأرض من تحتهم فجأة، وتساوت نزعة الخوف والنجاة لدى الجميع ، وكان بو عمر بينهم مشدوها، وزاد ذهولا وهو يرى تساقط الناس وابتلاع الصهريج الكبير لهم ، تشبث بعضهم بالحافة لكن تصدعها وارتجاجها لم يسمح لهم بالنجاة، غاب الواحد تلو الأخر إلى الأعماق تباعا، وكاد ينزلق، لقد تيبست عروق جسده حين واتته نظرة إلى فوق، رأى حجرا كبيرا يهوي إليه، تخشب جسمه ولم يطاوعه على النجاة ، أحس ببرودة لذيذة تسري في لحمه وتوقف ذلك الارتعاش الذي تملك ساعديه ، قفز إلى الصهريج وحطت الصخرة في المكان الذي وقف فيه. عينان واسعتان تتحركان، ترقبان ما يدور من تحتهما ، كأنهما عينا بوم، وقبل أن يطوي الطمر بوعمر راح يتفحصها، وكاد يغيب وسط لج الماء الدائر ، خارت قواه وراح يلحظ بأمل تلك الشجرة التي اقتلعتها الهزة وانثنت صوب الصهريج، استدار نحوها واصدر صيحة قوية حتى جحظت عينيه ، وما لبث أن أظهر كفيه من الماء وتمسك بفرعها المائل نحوه . وظهرت مرة أخرى الغربان، وحلقت وراء البوم الغاضب، التي تهيأ للطيران ، دار فوق البئر ومثلما أتى اختفى دون أن يلحظ ذلك أحد . تسارعت خطى الناجين هاربة نحو الباب الكبير المقفل ، ركل بو عمر بقدمه القفل حتى طار من مكانه ، وساعده الآخرون على فتحه ، جلس يلهث برهة. كانت المدينة في تلك الأثناء هادئة ، تتصاعد من جوفها الحار أدخنة المخابز ، ومن أفواه أبنائها تسمع صلصلة الأسنان ، فهم لا يجرؤون على الجهر . استعاد أنفاسه وقام من فوره ودخل كوخ الحارس ، كان الحارس قد غفا، قبض على قميصه بعنف وأنهضه من سريره والنعاس يغالبه ، ثار بو عمر في وجهه ، قوس حاجبيه ، وبنبرة حادة قال: - نايم والأرض تهتز من تحتنا. تماسك الحارس والتفت يمنة ويسرة ، لم يفهم ما أصاب بو عمر ، ولم يمهله بو عمر إذ شده من ساعده ، وأوصله إلى حافة الكوخ ، وتطلع بو عمر إلى الصهاريج ومعه الحارس ، كان الباب الكبير مقفل ، والقفل في مكانه ، والصهريج الكبير لم تصله قطرة ماء ، وشجرة السيسبان في مكانها ، وبطون الباحات فارغة ، ولا أثر للغربان .