سمعت ولم أصدق، لم أستطع التخيل، بل إن مجرد التفكير في حصول شيء كهذا يُعد فوق الاحتمال.. وتزايدت الأنباء وتعزز الخبر، وكثر متناقلوه وبدأ الشك يدخل إلى نفسي ليصارع يقيني بقداسة الطب ورحمة ملائكته، فرحتُ أسأل وأتحرى الحقيقة وأستقي الأمر من مصادره.. وفي تلك القرية الصغيرة في منطقة الجند بمديرية التعزية في ذلك البيت المتواضع البسيط وجدتها “بدرية صالح” ذات العشرين ربيعاً من عمرها تنام مجهدة على فراش بسيط وإلى جوارها ينام ملاكان صغيران لم يكونا يعلمان أن العالم الذي وصلا إليه سيستقبلهما بأسوأ ما لديه. أخبرتنا بدرية أنها شعرت بآلام المخاض وتم إسعافها إلى مستشفى التعاون ومنه إلى المستشفى الجمهوري ودخلت إلى قسم الولادة.. وما إن رقدت على السرير وشعرت بالاطمئنان لبعض الوقت حتى جاءت الطبيبة والأخصائية بقسم الولادة وهي المناوبة لتلك الليلة وهي تصرخ وتصيح في وجهها وفي وجه مرافقاتها وأم زوجها وأخته، وتقول من أدخل هذه؟! وتأمر بإخراجها من قسم الولادة وبرغم محاولة بدرية ومن يرافقها إقناع الطبيبة بالعدول عن قرارها إلا أن الطبيبة أصرت على طردها واستدعت العاملات في القسم ثم استدعت العسكر وأخرجوها من القسم قسرياً. رحلة قصيرة وواصلت حديثها قائلة: إنها نزلت من السلم واتجهت إلى قسم الإسعاف كون الوقت متأخرا من الليل ولا يمكن الخروج إلى الشارع خصوصاً في مثل حالتها ولكنها ما إن وصلت إلى الإسعاف حتى شعرت بحاجة إلى الحمام، ودخلته وتفاجأت أنها تلد أول مولودة لها في الحمام وتعرضت بخدش في رأسها بسبب ارتطامها بالبلاط وتعلقت بالحبل السري والذي كان ملتوياً على عنقها وأوضحت بأن أم زوجها دخلت عليها الحمام وتفاجأت بها وصرخت طالبة النجدة وجاءت ممرضة تدعى “خيرية” وقطعت الحبل السري ونقلتها إلى غرفة قريبة وهناك لم تشعر بأي شيء آخر وذهبت بعيداً عن الوعي.. أما نجيب سلطان زوج بدرية فبعد سماحه لنا بلقاء زوجته وإجراء حديث معها وتصويرها مع توأمها أكد ما قالته زوجته.. وزاد بأنه كان يسمع الطبيبة وهي تصيح عندما كان في السلم قائلة: “خلوها تروح تموت عند أهلها ولا تحملناش ذنبها” هكذا قالها بالعامية. وأكد: ولدت أول توأمها في الحمام أنثى وأسماها “آية” وأفاد أن ممرضة من قسم الإسعاف تدعى خيرية ساعدتها ونقلتها إلى غرفة قريبة حيث فقدت الوعي وأنجبت المولود الثاني، وأن الممرضة خيرية نقلت لزوجته دما بالقدر اللازم واستدعت الطبيبة مرتين ولكنها رفضت التدخل وقامت الممرضة بالتدخل لإيقاف النزيف وعملية خياط المهبل، واختتم قوله: كانوا يقولون تحتاج لعملية قيصرية وحالتنا المادية ما تسمح وربي ينزل البرد على قدر الدفأ والحمدلله زوجتي بخير وعيالي بخير برغم أن البنت معورة والله يجزي الدكتورة خيرية كل خير يقصد الممرضة خيرية. خيرية الملاك وبعد سماعنا لحديث بدرية وزوجها اتجهنا للبحث عن الممرضة الإنسانة “ خيرية الخليدي” وسألناها فقالت: يوم الخميس صباح الجمعة 13/4/2012م تقريباً قبل الفجر بلغوني أن واحدة تلد في الحمام فذهبت بسرعة فوجدت المرأة غارقة بدمها وشبه مغمي عليها والطفلة معلقة بالحبل السري ورأسها أصيب؛ نظراً لارتطامه بالبلاط، وبسرعة قطعت الحبل السري. ووجدت أن هناك مشاكل أخرى، المرأة حامل بتوأم خرج واحد وما زال الثاني والمشيمة محتبسة والطفل الآخر مقعد وخروجه صعب، والنزيف شديد، والمرأة بكر فهذه أول ولادة لها وحالتها متعبة فنقلناها بسرعة إلى غرفة الإسعاف وعملنا لها اللازم.. فذهبت إلى عند الطبيبة الأخصائية المناوبة لتلك الليلة وأخبرتها أن ترى الحالة كونها خطرة فرفضت وقالت: لن تستقبل الحالة.. وقالت: قولوا له يروح مريضته.. رجعنا الفقير والغني وتعدت مرحلة الخطر وأنجبت المولود الثاني وبقي مسألة النزيف والحمدلله عوضنا لها دم بالقدر اللازم، لكن لازم خياط تقول خيرية الممرضة وتضيف: ذهبت إلى الطبيبة للمرة الثانية، وكانت على وشك الخروج كون الصباح قد أطل والنوبة على وشك الانتهاء، وأخبرتها أن تلقي نظرة أو حتى على الأقل تشرف ولكنها رفضت فلم أجد من وسيلة إلا أن أقوم أنا بالخياط والحمدلله، على سلامة بدرية وطفليها، برغم أن الطفلة أصيبت بفتق سري نتيجة تعلقها من الحبل السري. من هنا وهناك تواردت أنباء من هنا وهناك عن حالات عديدة ولدت فوق السيارات وفي الطريق بعد إخراجهن من قسم الولادة.. ومن قسم الجراحة ومن قسم القلب وهلم جراً..! لكن السؤال الذي طرح نفسه هل الآمر بهذه البشاعة وهل فعلاً وصل التعامل إلى هذا الحد وهذه القسوة، أم أن هناك زاوية أخرى للرؤية ووجها آخر للحقيقة.. هذا ما ذهبنا إلى معرفته عبر الالتقاء بالطبيبة الاختصاصية المناوبة لتلك الليلة كونها المعنية بالأمر. نفي الطبيبة التقينا الطبيبة الأخصائية المناوبة لتلك الدكتورة إيمان وسألناها عما حصل ولماذا طردت بدرية من قسم الولادة: فأجابت بأنها لم تطرد بدرية ولكن لم تستقبلها في قسم الولادة وأخرجتها من القسم لكونه كان ممتلئا بالحالات ولا يوجد سرير شاغر لترقد عليه أي حالة أخرى.. وأن القسم مغلق ولم يعد يستقبل أي حالة من قبل وصول بدرية بوقت طويل وتم إبلاغ الجهات المعنية بذلك.. ورجعت حالات كثيرة ولم يتم استقبالها وأما عن بدرية بحسب قول الطبيبة، أنها دخلت إلى القسم بواسطة موظف زميل ولا يوجد لديها ملف ولا تعلم من أين أحيلت إلى قسم الولادة ولا ما هي الأدوية التي أعطوها لها، وبالتحديد، وحالتها لا تنبئ بولادة قريبة ولديها الوقت الكافي لتذهب إلى مرفق صحي آخر. وأضافت أنه مثلها مثل الحالات الأخرى التي جاءت بعد إغلاق القسم الممتلئ بالحالات وأما عن كون الحالة وضعت مولودها في الحمام قالت: إنها مسئولة عن الحالات التي تستقبلها في القسم، وقالت: إن بدرية خرجت من قسم الولادة حوالي الساعة الرابعة فجراً وتركها من احضرها إلى قسم الإسعاف، ووضعت مولودة بعد ساعتين.. وأكدت الطبيبة أنه لو كانت على وشك الولادة أو حالتها حرجة فمهما كانت العوائق فلن يتم إخراجها أبداً ولا يفعل هذا إلا من كان مجرماً. وقالت: إن الحالات التي كانت في القسم كانت مهمة ومنها أربع حالات خضعت لعمليات قيصرية تلك الليلة. مداخلات تواجد أثناء الحديث مع الدكتورة إيمان عدد من طبيبات القسم واللائي قمن بمداخلات في الحديث يؤكدن ما قالته وبعد إنهاء الحديث عن موضوع بدرية صالح تكلمن عن حالات أخرى وعن معوقات العمل واحتياجاته والصعوبات التي يلاقينها في العمل، وهذا ما سنأتي إلى ذكره في زاوية أخرى من هذا التحقيق. التحقيق يأخذ مساره وعند لقائنا بالأخ مدير المستشفى الدكتور عبدالواحد الشرعبي سألناه عن تلك القضية، لكنه اعتذر مكتفياً بالقول بأنه في أي موضوع يتعلق بشكوى مريض يتم إحالتها إلى الشئون القانونية ويأخذ التحقيق مساره ولا يمكن الإدلاء بأي تصريح بهذا الخصوص إلا على ضوء نتائج التحقيق. أس الخلل تركنا مكتب مدير عام المستشفى الجمهوري بتعز ليمضي حد قوله في إجراءات التحقيق “الموعود”.. وإن كان الأهم من ذلك عليه وعلى المعنيين في الشأن الصحي والمحلي بتعز عموماً معالجة أس القصور في الكادر والنفقات التشغيلية والطاقة السريرية وكذا فتح تلك الأقسام المغلقة في المستشفيات والمرافق الأخرى واستعادة العمالة الطبية، المقنعة والمشفرة في المراكز والمستوصفات الريفية، طالما ولم تقم بما عليها لتخفيف العبء على مستشفيات المدن..حتى لا توصد أبوابها المزدحمة بالمرضى، وتغدو ولادة “بدرية صالح” في حمام المستشفى الجمهورية أوفر حظاً وأستر حالاً من غيرها اللائي حتما إن لم يكن حاصلا بالفعل ينتظرن الولادة في رصيف المستشفى أو في فنائه وتحت أشجاره الوارفة!, طبعاً باستثناء الأمهات الميسورات، فحقائبهن كفيلة بالإتيان بالجن “مربطين”، أما أمثال بدرية بكر التوأم ثنائية الحرمان فلن تنال أكثر مما نالته.