كنت وما زلت أحكي مرة وأشكي مرات أخرى لنعمان(ابي) النتائج السيئة التي تمخضت في النهاية عن نقاش أو حوار جاد وساخن جمعني بأحدهم، حمل اختلاف القطبين اللذين يمسكان بطرفي الكرة الأرضية، يفصل بينهما كل تلك المسافة البعيدة روحًا وقياسًا، حرارته تقترب من درجة حرارة مركز الأرض، لن أقول أن الطرف الآخر لا يفهم شيئاً، حتى لا أظهر بكبرياء «مكارح» من يملك الحقيقة المطلقة، فلا أحد يملك الحقيقة كاملة في هذا العالم الإنساني، بل جزءاً منها، وتتفاوت النسب زيادة ونقصاناً حسب التراكمات الداخلية في كل منا.... وعلى الأقل ومن باب الذكاء مني أن أجعل نعمان يعتقد ولو ضمنيًا مع القليل من شكه بأني على حق، طبعًا هو لا يكاشفني بذلك حتى نهاية حديثنا، بعد أن استمع لكل الحيثيات والتبعات لتلك الموقعة(النقاش أو الحوار)، يصمت لبرهة ويبتلع ريقه، ومن بعدها تتسع عيناه قليلًا، ويوجه صوب وجهي كف يده مادًا ذراعه المشدودة قدر استطاعته، على حسب ما أتذكر يده اليسرى، ويقول -باسمًا- مع ضحكة خفيفة عبارته التي أحفظها عن ظهر قلب “يا حمااااااااارررر؟!..”، أحب جدًا لفظه لكلمة حمار، والطريقة التي يتحرك بها فمه حين يلفظها، وحده يملك حق إنتاجها، وخصوصًا حين يتكئ عليها، حسب ما أستفزه من كلامي، وطبعًا تقال لمجرد المزاح بيننا، بحكم علاقة الأب بالابن التي قفزت إلى مرحلة الصداقة بينهما، نادرًا ما أستاء منها لا منه، ولكنه يؤكد بأن الحمار حيوان ذكي، لا حسب ما يتهمه البشر بالغباء، والدليل اختياره من قبل الحزب الجمهوري الأمريكي رمزًا له، بينما أنتظره يقول الجزء الثاني من عباراته المعهودة “بدل ما تقول للواحد يا حمار؟!.. إسأله فين تعلّم؟!”.. في الجزء الثاني من العباراة، يضمن نعمان لشخصي عدم جرح الطرف المقابل لي، وفي ذات الوقت لا يحب أن أكون فضًا مع الناس في المجتمع، ويتوارد له من قبل أصدقائه أني لست مؤدبًا في الحديث مع الذين أختلف معهم، بتساؤل نعمان “فين تعلمت؟!..” أظهر وكأني أوجه صفعة غير مباشرة للذي أعقم الحوار معي، وكان غبيًا لأجل الغباء، وليس لأجل الفوز، وتمسكه بحقيقته التي يؤمن بأنها الحقيقة المطلقة، يبادلني الإبتسامة الصفراء من تلقى الصفعة التي لا يعتبرها صفعة، واعتبرها بين نفسي وأنا صفعة حسب إقناع نعمان لي، هنا آخذ حقي بارتياح كبير وبطريقة سهلة ودون خسائر فادحة، وينصرف كل في طريقه، وليس في قلب أحد منا أي حقد ظهر وقتها، على الرغم من بعض الملامح الخبيثة لكلينا، ونعود لنلتقي مرة أخرى دون مراعاة للفارق الزمني منذ ذلك اللقاء والأخير، ونتبادل ذات الإبتسامات الصفراء، وفي النفسين ما فيهما، يبدو وكأننا لم نختلف قط، أو حتى أنه أغاضني بسبب حقيقته التي لا تناسب حقيقتي وجزءاً من الحقيقة المطلقة. أعترف بأن آلية نعمان رائعة وناجحة جدًا على الصعيد الإجتماعي، التي فيها الكثير من النفاق، حفاظًا على الشكل الاجتماعي والتماسك المجتمعي، ولكن لم أجربها على بقية الأصعدة، إلا أن نعمان يؤكد بأن ما سبق هو سياسة، وأن كل شيء قد ارتبط بالسياسة، حتى أبرئها جزئية في الحياة، فكل شيء قد تغلف بالسياسة، شئنا أم أبينا، أصدقه جدًا ما ذهب إليه، ليس لأنه يملك براءة حداثة اختراعها، فقد عُرفت منذ قديم الزمان، حتى تستمر الحياة بسلام بين العالمين في أفضل أحوالها، لما لها من جدوى، وفي أسوأ أحوالها يعرف نتائجها البشعة أيضًا العالمين، شاهد على ذلك الحروب العالمية، وأبقى قدر المستطاع جاهزاً لأن أستحضر نصيحة نعمان “كن فناناً، وتعامل مع الناس بسياسة”، الأخيرة التي أصفها بأحقر ما تعلمت، وأسوأ ما مارست، وتبقى هي بالنسبة لنعمان حاجة ماسة، أعتنقها منذ شبابه، بحكم مجالي دراسته ومهنته. من وجهة نظري أحمل نفوس الأشخاص الجزء الكبير من المسئولية والأكبر من اللوم، فقد تربينا ونمونا على إلصاق الخطأ غالبًا -إن لم يكن دائمًا- بالآخرين، ونمنح الآخر رقمًا ثابتًا، هو قيمته التي سُيتعامل معها إلى الأبد، حتى يموت الرقم وحامله معه، تلك الأرقام التي نوزعها، نجمت عن مواقف أولية، وكأن الأشخاص كانوا هم(الحقيقيون) حينها، دون مراعاة لظروفهم الخفية، ونعول بكل رضا أنهم لن يتغيروا مطلقًا مهما تغيرت الظروف، وكأن الحياة ليست كفيلة بأن تصنع المعجزات بنظر المرقمين لتغير وتبدل بدورها القناعات والمواقف وتصنع الجديد الذي قد يرضينا ولو اليسير. ب (المسايسة يا أهبل).. حتى جدتي لأمي(مريم) الأمية –الله يرحمها ويبشبش الطوبة التي تحت رأسها-، التي غادرت مضطرة المدرسة في السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية، نتيجة لسياسة والدها بأن المكان المناسب للبنت في القرية هو الدار والحقل عوضًا عن المدرسة، كانت ترى أن السياسة هي طريقة فضلى في كسب المواقف مهما كان ذكاء من أتعامل معه، تلك هي نصيحة مريم لي، عندما كنت أعود إلى البيت لأشكي لها حنق ومغالطة أصدقاء حارتي، أغلبهم هم جيران بيت جدي، الذين كنت ألعب معهم ألعاباً مختلفة، تناسب الطفولة، أنظف من لعبة السياسة بكثير، ولأسبابنا كنا نلجأ للسياسة في النهاية، حتى ونحن صغار كنا نمارس السياسة، على الأقل بشكل أنظف مما يمارسه الكبار. في يوم تلم شعرها السلس الأصفر وتربطه ذيل الحصان، وفي اليوم التالي تغير التسريحة، بأن تجعل الشعر حراً دون ماسكة شعر(قباضة)، هكذا وعلى الطريقة الأمريكية تبدل بين التسريحات بشكل بسيط وسهل، هذه هي سياسة المنسقة الأمريكية لمشروع ذلك المعهد الذي يمول من أمريكا ويعنى بالتعددية السياسية والحزبية في البلاد، تبدو رشيقة مثل حرف الألف، أنيقة مرتدية بدلة رجال الأعمال السوداء المكوية بعناية فائقة دون ظهور تكسرات في القماش، ومن تحت الكوت ترتدي الشميز(القميص) الأبيض المكرمش، جميعها صممت بذوق نسائي رفيع، تجلس بهدوء مخيف على الكرسي في نهاية القاعة، تمسك أدبياتها السياسية التي تخص المعهد، صنعت حولها هالة من عدم الاقتراب، تراقب بذكاء أمريكي خبيث ليس بسهل -تشبه نظرة الرئيس الوسيم الأسبق كلينتون- عملية نقاش المتدربين المختارين بسياسة خطيرة من ساحات التغيير وميادين الحرية مع المدرب الدولي المنتقى من قبل لجنة متخصصة، ليتمكنوا من الإطلاع على سياساتهم وطريقة تفكيرهم وتعاطيهم مع الثورة ومواقفهم من أطراف النزاع السياسي في البلاد، تجري مجموعة من المتدربين واقترب منها، ليناقشها بموضوع المستحقات المالية القليلة بنظرهم مقابل حضورهم ومشاركتهم، فما كان منها غير أن قالت جملة وحيدة “This is our Policy” بما يعني بالعربية “هذه هي سياستنا”، رددتها مرتين وعادت لتمارس وتلعب سياستها. أسترجع ذلك المشهد التمثيلي لميمي جمال(ممثلة مصرية) في فيلم(خلي بالك من جيرانك)، قدمت خلاله دور الجارة(مدام عنايات) التي تحب أن تخرب بيوت الجيران مباشرة بعد أقرب زيارة قامت بها لهم، والدليل أصوات الخناق التي تتعالى من بيوتهم، زارت مدام عنايات جارتها الجديدة، الدور الذي أدته الممثلة لبلبة بخفة دم وسذاجة من تزوجت مؤخرًا، تجاذبتا أطراف الحديث المنزلي وعلاقة كل منهما بزوجها، وجلستا على سوفا الصالون، وهمست بشكل شيطاني بالقرب من أذن لبلبة “يا عبيطة.. بالمسايسة.. سيبي له الأمور الخارجية.. وإنت وزير الداخلية”، مجموعة من النصائح القيمة قدمتها مدام عنايات على طبق من ذهب للبلبة، سياسة لا تفقهها الكثير من حكومات العالم الثالث، أخلت ذمتها من ذلك الحمل الثقيل عليها وغادرت شقة العرسان الجدد، وكأنها لم تفعل شيئاً، انتظرت لبلبة عودة زوجها(الممثل-عادل إمام) من العمل بفارغ الصبر حتى تسمعه سياستها الجديدة(سياسة مدام عنايات)، والتي على ضوئها ستسير حياتهما الزوجية إلى الأبد، صُدم الزوج مما سمعه من زوجته، والتقسيم الجديد للمهام بينهما، وما كان منه بعد أن فرغ من الصياح مع زوجته، وتشكيكه بأنه ليس كلامها، بل أنها ليست زوجته التي يعرفها، إلا أنه نزل مهرولًا إلى شقة مدام عنايات، ليفتح له الباب زوجها، أخبره بسياسة زوجته التي توزعها على الجيران، وعن مدى تطبيقها في بيته؟!، أغلق زوج مدام عنايات باب شقتهم مغتاظًا من زوجته التي أظهرته بسياستها نصف رجل، وتفاهم مع زوجته بطريقته الخاصة على سياسة جديدة، مفادها أن الوزارتين(الداخلية والخارجية) هما بيده (بيد الزوج)، بعد أن نالت مدام عنايات علقة محترمة من يده الغليظة بسبب سياستها. قبل أن يفتتح المدرب الدولي الجلسة الثانية من الدورة التدريبية لإحدى منظمات المجتمع المدني، بعد أن تناول المتدربين طعام ال Break بما يُعرف لدى العامة البسطاء ب (القراع أو الصبوح)، طلب منهم أن يخرجوا من تشكيلة التدريب الحرف الإنجليزي (U) ليتوجهوا إلى تلك المساحة القريبة من قاعة التدريب الخالية من الكراسي، لأداء تمرين تنشيطي وفي ذات الوقت يخدم الأهداف التي من أجلها كان مشروع (التمكين السياسي للشباب)، وما الدورة التدريبية إلا خطوة نحو تمكين ما يقارب 30 شاباً من عملية إنتاج السياسة وصناعة القرار والتواصل مع الكبار الذين ينتجون السياسة الحالية، على أمل أن يكونوا كبار المستقبل القادم وساسة من الطراز الرفيع وفي ذات الوقت متمكنون ومحترمون، شكل المتدربون الشباب حلقة كبيرة، أمسك المدرب كرة قدم خفيفة -بالكاد يحملها طفل السنتين- ورماها، بينما هي تطير في الهواء برشاقة نحو أحد المتدربين، سأل سؤاله المفاجئ “ما هو تعريفك أو مفهومك للسياسة؟!”، كان الإمساك الأول للكرة بعد طرح السؤال ثقيلاً ثقل السؤال الذي رُمي مع الكرة، فهو لا يتذكر حتى ولو على سبيل المصادفة أن ناقش مع أفراد عائلته أو أساتذته أو أصدقائه في الحارة أو المدرسة أو الجامعة .. مفهوم السياسة لديه ولكل منهم، غير أنه يعرف جيدًا أنه صار باستطاعته أن يكون سياسيًا منذ سنة ونصف تقريبًا -وما يزيد قليلًا-، هو عمر الثورة الجديدة في البلاد، إن كان قد شارك فيها، أو حتى تجرأ وطرح فعلًا رأيه السياسي بكل شفافية ومصداقية دون أن يلقى من يعترض بصيص ضوء مولد حياته السياسية البكر.. توالى رمي الكرة بين الشباب المتدربين وتوالت إجاباتهم التي حملت مفاهيم وتعريفات مختلفة ومتنوعة عن السياسة، السياسة هي.. السياسة، خبث، دهاء، وساخة، الساحات والميادين، الأحزاب، لعبة الكبار، صناعة القرار، أساس كل شيء، مستقبل البلاد،.. وبحكم أني الميسر لتلك الدورة التدريبية، كان علي أن أتابع بحرص تنقلات الكرة بين المتدربين، على أن لا تخرج من تلك الحلقة المغلقة بهم، ومنشغل أيضًا بكتابة تعريفاتهم ومفاهيمهم عن السياسة بقلم ال Marker الأحمر على أوراق ال Flip Chart البيضاء، وبعد أن استنفد المدرب مخزون المتدربين من السياسة، استقرت الكرة في الأخير بين يديه، وبخفة سياسي متمرس رماها صوبي، وقال –مبتسمًا- بخبث “والآن دورك، ما هو تعريفك أو مفهومك للسياسة؟!”