من المعروف أن حروف الجر لا دلالة لها خارج السياق، وإنما تتأتى دلالتها من خلال السياق، ومن خلال التراكيب التي تصاحبها، أضف إلى ذلك أن هذه الحروف تساهم في تنويع دلالة الفعل، فقد يكون للفعل مع حرف الجر(في) دلالة تختلف عن وروده مع حرف الجر(على) وهكذا يزداد هذا التنوع الدلالي للفعل كلما ازدادت التراكيب المصاحبة له. واللغة العربية تستخدم حروف الجر كأداة تنجز العلاقة بين الأفعال والأسماء، ولتقييد تلك العلاقة وتحديدها، والكشف عن المعاني الكامنة في الأفعال، والفعل أحياناً يتعدى بحروف الجر على مقدار المعنى المراد من وقوع الفعل؛ لأن هذه المعاني كامنة في الفعل، وإنما يثيرها ويظهرها حرف الجر.وهناك فروق في المعاني عند تبادل حروف الجر فيما بينها، وقد أشار إلى هذه القضية الزمخشري وهو يتحدث عن تضام الفعل (يجري) مع حرفين متقاربين في الدلالة وهما(إلى،اللام) وأنكر تناوب الحرفين فيما بينها، وأكد أن كل ضميمة تؤدي دلالة معينة، فالتركيب (يجري إلى أجل مسمى) معناه: يبلغه وينتهي إليه، و(يجري لأجل مسمى) معناه يجري لإدراك أجل مسمى. والناظر إلى كتب النحو يجد أن النحاة قد خصصوا لكل حرف معنى خاصاً به ومعاني أخرى مجازية عثروا عليها من خلال نظرهم في سياق الحرف الذي يرد فيه، فالسياق له دور كبير إضافة إلى التركيب في تحديد دلالة الفعل، فالفعل(صلب) الذي حقه أن يتعدى بحرف الجر(على) وجدناه في النص القرآني متعدياً بالحرف (في) في قوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل)؛ ليوحي هذا التركيب بشدة التصليب وتوغله في المصلوب، فكأنه قد تم التصليب في داخل النخل، بعكس التركيب (صلب على) فإنه لا يؤدي نفس الدلالة السابقة، كذلك الفعل (شرب) في قوله تعالى: (فشربوا منها)، وقوله تعالى: (عيناً يشرب بها عباد الله) له دلالة معينة في كل سياق، ففي السياق الأول (من) تبين مصدر الحدث، وفي السياق الثاني تبين صحبة المسلمين والتصاقهم بالعين فهي ملازمة لهم، وليس هذا من باب تناوب حرف الجر(الباء) مكان حرف الجر(من)، وهذا أبلغ في النعيم من أن يقول (يشرب منها)، وأحياناً يتقارب معنى الأدوات فيعسر الفرق، نحو قصدت له وقصدت إليه، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وبعض النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، وهذا ما نراه في السياقات التي نحن بصددها، وأحياناً نجد الحرف يحمل دلالة معينة من خلال السياق، وهذا بدوره يؤثر على دلالة الفعل، فحرف اللام مثلاً يحمل دلالة النفع، والحرف (على) يحمل دلالة الضرر، وهذا ما نجده واضحاً في السياقات الآتية: (حكم له،حكم عليه)، (قضى له، قضى عليه)، (شهد له، شهد عليه). ومادام الحرف يتغير معناه من سياق إلى آخر يجب علينا أن ننظر إلى الحروف في سياقاتها التي ترد فيها، وعندئذ نعطي الحروف معانيها التي تؤديها في السياق، وهي معان وظيفية لامعجمية، فالسياق إذاً هو الذي يحدد المعنى الوظيفي للحرف الداخل مع علاقات سياقية مع العناصر الأخرى المكونة للسياق، والذي يبدو معقولاً أن الحرف ربما كانت له دلالته الخاصة، لكنها لا تبرز إلا بالتفاعل مع العناصر التي يتوسطها إلى جانب دلالته الخاصة به التي لا تتحدد إلا ضمن هذا التفاعل. وكشاهد على ما قلنا ننظر في سياق الفعل الذي تتغير دلالته تبعاً لتغير حرف الجر وتغير السياق، ومن ذلك استخدام الفعل مع حروف متنوعة، ظهرت على الأمر بمعنى اطلعت عليه وعرفته، وظهرت على العدو بمعنى غلبته، وظهرت بالحاجة، بمعنى الاستخفاف بها، وظهرت المكان، بمعنى علوته. كذلك الفعل (ضحك) الذي تتغير دلالته مع تنوع الحروف التي تصاحبه ف(ضحك من) تبين مصدر الحدث والضحك قد يكون استهزاءً وقد لا يكون، ونشم فيها رائحة السببية لحصول الضحك، و(ضحك بالشيء) اتخذه سخرية وهزئ به، و(ضحك على) فيه معنى المخادعة، والمخادعة غالباً سخرية. وهذه السياقات التي أشرنا إليها هي في الفعل اللازم الذي يتعدى إلى مفعوله بحرف الجر، ونجد التنوع الدلالي للفعل المتعدي أيضاً والذي يسلك أحياناً سلوك الفعل اللازم، فالفعل(سمع) تحدد دلالته من خلال السياقات التي يرد فيها كما يحدد مكانه من حيث اللزوم والتعدي من خلال ذلك، فإذا كان بمعنى الإصغاء،عُديَ باللام أو بإلى، كأن أقول سمعت لك، فمعناه أصغيت، وإذا كان بمعنى الإجابة عُدي باللام أو بنفسه، ومن ذلك قولهم: (سمع الله لمن حمده) أي أجاب حمده وتقبله، ويقال: اسمع دعائي: أي أجب. و(سمع بالشيء) أخبر به، ويقود التأمل لموقع هذا الفعل في النص القرآني إلى إدراك سر تعدية الفعل بنفسه تارة، وبالحرف تارة أخرى، فمتى ما أريد تعلقه بالشيء المراد سماعه عُدي بنفسه، ومتى ما كان المسموع ذا تأثير وكان ما بعده تعليلاً له خفياً أو ظاهراً فإنه يعدى باللام. وهكذا يجب علينا أن نتمعن في كل السياقات التي لا يكتشف فيها دلالة الأفعال والحروف إلا من عرف دقائق اللغة.