تجيئين نحوي ؟ أهاربة أنت من جمرة الانتظار ! وماذا وراء العيون اللواتي رقصن لعيني ماذا تخبئ لي وردة الانبهار ؟ أعوذ بوجهك يا رشقة الضوء من وجع في الغياب إذا امتد بيني وبينكِ هذا المساءُ سأُقفل كل الأغاني وأَرتاد صوتك أقطف حورية الكستناء هو الوعد مرتعش بيننا والأماني مهيأة للقاء رويداً رويداً بقلبي الجريح فإني أعض على شجرات التمني وما زلت أوقن أن الليالي تأتي وأن البكاءات تأتي وأن الحبيبة .. تنأى وأن دماً..شارد في العراء. مقدمة عن القصيدة لأن النص ينتمي إلى الشعر الحر فهو متعدد القراءات، ولأن وسائل الاستقراء للنص تتأسس وفق علائق المنهج البنيوي بالنص، وحتى يتم تأسيس رؤية تحليلية وفق وسائط المنهج المتقدم، فإن المنهج البنيوي يحيل القارئ إلى الحرية في اكتشاف عوالم النص الذي يتسم بأنه نص مفتوح . وفي البدء نتجه نحو عنوان القصيدة الذي نراه متعدد الدلالات مستوعب المعاني مختزل الألفاظ،من خلال الاستعارة الجميلة للحبيبة، أو الوحدة، أو الوطن .. أو أي شيء آخر يحتمله العنوان ويجتهد فيه القارئ. وهذه الرمزية في العنوان هي إحدى إفرازات الشعر الحديث وعلى وجه الخصوص (الشعر الحر). وأرى أن وردة الانبهار تعد معادلا موضوعيا للشاعر، إذ أن هناك شيئا يبحث عنه فلم يجده فاستدعاه من العقل الباطن وأسس له معادلة رمزية في العنوان. وأحسب أن الشاعر تأثر بقصيدة عمر الجاوي (زهرة الانتقام) في عنوانها بيد أنه قد طور عنوان قصيدته دلاليا في بناه العميقة فجعله (وردة الانبهار) ليوحي بالاكتمال والنضوج الذي قصده الشاعر في مشروع الدلالة العميقة للعنوان الذي أثبت مراحل نمو الزهرة حتى غدت وردة مستعدة للقطف لاكتمال بنائها ونضوجها حتى أنه أطلق عليها وصف الإبهار لمن رآها كناية عن قيمتها الجمالية التي ينبهر أمامها كل من يراها. الثنائيات في القصيدة ترتبط الثنائيات عند الشاعر بالبحث عن شيء قد ضاع على حين يتخذ البحث مسارا دائريا في (الضوء - المساء، نحوي - عني، أقفل - أرتاد، تأتي - هاربة، تنأى - تجيء، البكاءات/ الليالي - الحبيبة). إن قصيدة (وردة الانبهار) توازي الداخل والخارج وتقاطعهما في نقطة لقاء وفراق موارة بالحركة مما يبلغ التوتر بين هذه الثنائيات حدته قبل انقطاع الوتر الأخير والإيغال حول الزمان والمكان ما يجعل القصيدة تدور في المسار اللانهائي. إن التوتر السائد يتصاعد في إثارة التقابلات بين المكان والزمن المعتم في المساء، شبه المغلق الذي يكون بالداخل والمكان المفتوح الظاهر الضوء، الشاسع الاتساع، المكشوف في وضوح وجلاء، وإذا كانت الليالي تمثل رعب الداخل فإن العراء يمثل رعب الخارج وقواه السلبية. والثنائية بين (نحوي - عني) أكدت قدرة الشاعر على تسليط الذات بشكل بارز ليلفت الأنظار نحوه بأنه محبوب مهم يتسم بالإغراء، وثنائية (تنأى - تجيء، الليالي - الحبيبة) يعبر بها الشاعر عن مدى التناقض الذي يعيشه في عدم الوصول إلى تحقيق حلمه الذي يراه يتبدد في النهاية ويبدو شاردا مقتولا دون إمكان الوصول إليه إلا في مخيلته فقط، وهذا يدلل على سكونية الأحداث وعدم تصاعدها على الشكل الذي كان يحلم به الشاعر . المستوى الصوتي للقصيدة يقوم النص في بنائه الصوتي على بروز نسقي لعدد من حروفه من خلال بروز الفاعلية الصوتية لبعض حروفه ولا سيما التي ترددت في النص كثيراً، و هذا البناء الصوتي يعكس عمقا دلاليا في استجابة الأصوات لموضوع القصيدة التي أسس لها الشاعر. ومن خلال استقراء النص تم وضع جدول إحصائي لبعض الحروف التي هيمنت على القصيدة ومدى استجابتها للعمق الدلالي في بناء النص والتواؤم بين حروفه وصفاته ومخارجه . الحرف و تكراره في النص على التوالي : (النون التاء الهمزة الباء الميم الواو العين الياء الراء) (25، 25، 20، 13، 14، 10، 9، 25، 18). تتوزع هذه الحروف من ناحية صفاتها إلى: التاء من صفات الهمس وبقية الحروف المبينة في ما سبق من حروف الجهر، وجميع الحروف السابقة يطلق عليها صفة الاستفال وهو: انحطاط اللسان عند خروج الحرف إلى قاع الفم وهو ضد الاستعلاء، و الحروف جميعها من ناحية صفاتها يطلق عليها صفة الانفتاح وهو: تجافي كل من طائفة اللسان والحنك الأعلى عن بعضهما حتى يخرج النفس من بينهما عند النطق بالحرف، وهي جميعها يطلق عليها صفة الإصمات وهو: منع انفراد حروفه في أصول الكلمات العربية الرباعية أو الخماسية، ماعدا حروف الراء والميم والنون فإنه يطلق عليها صفة الإذلاق وهي : خفة الحرف بخروجه من ذلق اللسان والشفة (وذلق اللسان: طرفه). وهناك حروف تتوسط بين الشدة والرخاوة تواجدت في القصيدة وهي (اللام، النون، العين، الميم، الراء). ومن ناحية مخارج الحروف التي جاءت عليها حروف القصيدة، فالواو والميم والباء مابين الشفتين، والعين من الحلق، والهمزة من أقصى الحلق، والميم والنون من أقصى الخيشوم، والتاء من غار الحنك الأعلى، والراء ما بين رأس اللسان مع ظهره مما يلي رأسه وما يحاذيهما ولثة الثنيتين العلويتين .والباء والتاء من الحروف التي توصف بأنها شديدة ينحبس عند نطقها جزء من الصوت فإذا أُزيل الغلْق المحكم فجأة أحدث النفَس صوتاً شديداً يسمونه انفجارياً. ولعل القصيدة في البناء الصوتي استجابت للسمات التعبيرية التي أبرزها الشاعر في تحقيق العاطفة لها، حتى أنك ترى الأصوات المهيمنة داخل القصيدة ماعدا الميم والعين والباء، قد تشكل منها العنوان (وردة الانبهار) وهي معادلة صوتية تستمد فاعليتها الصوتية من الحروف المهيمنة. ومع اختلاف مخارج الحروف فإن الغالب عليها أنها تتساوى في صفاتها .ولقد حققت هذه الحروف حضورا فاعلا أظهر الجو العاطفي من قبل الشاعر من خلال البنية الصوتية في الحروف المهيمنة على القصيدة وحضورها معا بشكل تناغمي يجذب الانتباه، والعنوان يأتي وردة الانبهار تقابلها أصوات انفجار لتعكس قيمة دلالية للأصوات في تأثيرها على المتلقي وتعكس الحضور الفاعل لصوت الشاعر في أسطر القصيدة، وهي تسيطر على نفس الشاعر، ويلجأ الشاعر إلى تكرار عناصر صوتية وإيقاعية معينة تصبح معادلا شكليا للمعنى المقصود. المستوى الصرفي للقصيدة لقد جاء النص مؤكدا لخصوصية الشاعر - التي يتميز بها في نتاجه الشعري - وما يكابده لتذهب الألفاظ إلى المنحى الذاتي راسمة المعادل الموضوعي في النص (وردة الانبهار) من خلال استخدام المصادر الخماسية(الانبهار، الانتظار) المأخوذة من الفعل الخماسي (انفعل) الذي يعمق أفكار الشاعر في تأسيس فكرته الرمزية. بعض الألفاظ وردت مكررة كالسؤال (لماذا، ماذا، ماذا) وهي تحمل دلالات ترسم أفقا لفظيا خاصا بالشاعر للتأكيد على ذاتيته التي عوض بها عن جمود الأحداث التي تحقق له بعدا في تحقيق أحلامه وأحلام غيره التي عبر عن (الأنا الفردي) بدلا عن (الشعور الجمعي) الذي تم استدعاؤه تعويضا عن الأخير وجاءت بعض المشتقات مثل اسم الفاعل (هاربة - مرتعش - شارد) لتؤكد قدرة الشاعر على تكييف الألفاظ والتلاعب في استخدام الاشتقاقات بما يحقق جوا ملائما للنص ينسجم مع البنية الدلالية له في أداء لفظي ينشد إلى موضوع النص. ولقد جاءت ألفاظ القصيدة (بوصفها دوال) من طاقات تعبيرية لتجسد المدلولات التي يتحرك النص ليتشكل فيها. وتداول النص مفردات واصلت ارتباطها باللفظة السيدة للنص وهي(وردة الانبهار) فأنشأت بيئة دلالية خاصة بها، و جاءت الكلمات من وسط البيئة المعيشة سهلة ليس فيها غموض تجنح إلى المعجم الرومانسي الذي ينسجم مع توجهات النص في العاطفة المستخدمة فيه. تبدو الجمل المؤكدة في النص أكثر من الجمل غير المؤكدة حتى تلتحم وتتقوى دلاليا من أجل إضفاء صفة التأكيد على السكونية للنص الأدبي الذي ينغلق على مفاهيم الإحباط المتكئة على جانب الحلم الذي يتعلق به الشاعر . دلالة الجملة الفعلية في حضورها وتراكيبها امتلك النص خمسة عشر فعلا واسم فعل أمر، ليصبح للماضي ثلاثة أفعال، وللمضارع اثنا عشر فعلاً، وواحد لاسم فعل الأمر . وكان واضحاً على حركية الجمل الفعلية ارتباطها بزمن الحضور أكثر من سواه، حتى الأفعال الماضية إنما جاءت من أجل معاضدة التشكل الزماني الحاضر، وتخفق الحركة في الوصول؛ لتضافر قوى السكون التي أحبطت استمرار الحركة المتعثرة التي تتخذ من الحلم مجالا لها، ومن ثم يكون الارتداد عقب ذلك إلى نفي الحركة إلى الثنائيات التي استخدمت في النص، ولكن الحركة إذ تنكسر كل مرة تعود لتنطلق من جديد في أجزاء القصيدة في مقطعها الأخير : وما زلت أوقن أن الليالي تأتي وأن البكاءات تأتي وأن الحبيبة .. تنأى ليجسد بهذه الحركة التطلع إلى واقع جديد قد يتغير رغم تناقضاته. ويلاحظ الغياب لفعل الأمر إلا ما كان من اسم فعل الأمر (رويدا رويدا بقلبي الجريح) وهذا تعبير طبيعي بهذه الصيغة عن عدم قدرة الشاعر على التحكم بالحدث وتغييره حالياً بسبب الجمود الكائن. ولقد جاء حرف الجر (على) (أعض على شجرات التمني) مدللاً على الاستعلاء والظهور للشاعر حتى يؤدي الوظيفة الدلالية له في هيمنة الرمز على تجربة الشاعر من خلال التوظيف المجازي الذي عبر فيه الشاعر في جملته السابقة.