الألفاظ نموذجاً البلاغة فن قائم على الذوق وليست علماً محضاً بمعنى أنها تخضع لعملية التذوق الفني والإحساس المحض، وليس لقواعد العلم وقوانينه المعيارية الصارمة، ومتى ما خضعت لهذه الصرامة التي هي أخص خصائص العلم، فإنها تخرج من طبيعتها إلى ميدان آخر غير سبيلها.. وقدرها. هذه هي البلاغة منذ عرفت على عهد المتذوقين الكبار في القرون الأولى، إحساس محض، وإعجاب قائم على الذوق وتقدير للكلام والجمال الفني، دون تقسيم أو تفريع، أو تفسير أو تعليل فلسفي وكانت القيم الجمالية والتعبيرية تستنبط من النصوص الجيدة والممتازة، وليست عبارة عن قوالب جاهزة جامدة ومعايير صارمة تحاكم بها النصوص وأصحابها. يقف الجاحظ على بيت لأبي العتاهية الشاعر العباسي يقول: يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب فيعجب به ويقول: هذا لا قدرة لنا على تفسيره، أو الإحاطة به، ولا سيما في قوله: روائح الجنة في الشباب!! إنه الإحساس الخالص والتذوق الرفيع، لذا ربما كانت اللفظة جميلة في مكان مستقبحة في مكان آخر، لا سيما إذا أخضعناها للنحو التوليدي أو التركيبي، أي بالنظر إلى ما يجاورها سابقاً ولاحقاً وما يتفق معها رأسياً من مدلولات والجو النفسي الذي يحيط بها والمعنى الذي يريده المتحدث، فليس هناك لفظ جميل وآخر قبيح حتى يرد في سياق معين، حتى وإن قال البلاغيون: "يكون اللفظ جميلاً إذا كان سمحاً، سهل مخارج الحروف، عليه رونق الفصاحة مع خلوه من البشاعة، فأي لفظ يأتي على تلك النعوت يجب أن يكون حسناً، حسناً في كل موضع وفي كل صياغة وفي كل مقام". ونقرأ قوله تعالى: {يا أيهال الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم، والله لا يستحيي من الحق}. ونقرأ قول المتنبي: تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلذ له الغرام فنجد أن لفظ “تؤذي” حسن في الآية، قبيح في البيت، وتنهدم تلك القاعدة التي ذكرناها في حسن اللفظ، ويرفضها العلماء الذين يقولون إن اللفظ في ذاته لا يوصف بالحسن ولا بالقبح، وإنما يعرض له ذلك بانسجامه مع ما حوله من الألفاظ في تضاعيف النظم والتركيب”1”. ومن هنا يتبين لنا خطأ بعض البلاغيين الذين صبوا جام غضبهم على بيت أو لفظ، ورد في بيت لامرىء القيس في معلقته الشهيرة، ونحن هنا سنذكر البيت والذي قبله لمعرفة سياق اللفظ وصورته ومعناه، ثم نحكم عليه فيما بعد يقول امرؤ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلى تضِل المدارى في مثنى ومرسل ومجمل نقد البلاغيين ينصب على لفظ “مستشزرات” فهذه الكلمة ذات المقاطع العروضية الأربعة حسب قواعدهم ومعاييرهم الصارمة التي ارتضوها سبيلاً للحكم على الكلمة فصاحة ليست فصيحة.. لتقارب مخارج حروفها، فالسين حرف أسلي يخرج من رأس اللسان والشين حرف شجري يخرج من شجر الفم ما بين وسط اللسان، وما يقابله من الحنك الأعلى والتاء حرف نطعي يخرج من سقف غار الحنك الأعلى والراء حرف ذلقي يخرج من طرف اللسان. ولقد سار في هذا الاتجاه معظم الذين تعرضوا لهذا البيت من البلاغيين، أمثال السكاكي والسبكي..”2”. والباقلاني على جلالة قدره وتقديره للجمال الفني حمل على امرىء القيس حملة شعواء بسبب هذا البيت وبالأخص لفظة “مستشزرات” وهذا الذي قرره هؤلاء البلاغيون صحيح بشرط أن نلتقط اللفظة، ونفصلها عن السياق الذي وردت فيه، فلا ننظر إلى ما سبقها من كلام، ولا إلى ما لحقها ولا نلتفت إلى الجو الذي يريد الشاعر أن يصوره. ولكن هذا الحكم لا يصح في الدراسة الأدبية، والنقد، وفي تقرير فصاحة الكلمة أو عدم فصاحتها، ذلك أن الكلمة تحمل إلى جانب جرسها ووقعها في الأذن وحركة اللسان بها... إيحاء بالمعنى وظلالاً، وموسيقا، وما يسميه علماء الصوتيات ب”الأونوماتوبيا” “Onomatopee” ويعنون بها موافقة الصوت للصورة لنعد إلى معلقة امرىء القيس، والبيتين اللذين صور بهما فتاته. أراد أن يقول لنا: إن فتاته السمراء ممشوقة القد، شعرها غزير كث، متجعد طويل حاولت تنظيمه، فلففته غدائر، ورفعته إلى أعلى، وكأن الريح ضربته فانفلت جزء منه، وظل جزء آخر مرفوعاً.. وحاولت تسريحه فضلت المشط طريقها وبقي الشعر في اضطراب. هذه الصورة الخاصة المتميزة تتفق كل الاتفاق وكلمة “مستشزرات” بما فيها من حركة لسان مضطربة؛ لأن في شعر الفتاة ومحاولة تنظيمه اضطراباً، وتنظيمه لا يكون إلا في حركة صغيرة خفيفة سريعة.. ولقد نجح امرؤ القيس في كلمة “مستشزرات” وجار عليه البلاغيون والنقاد”3”. إننا إن أخذنا شروط فصاحة الكلمة عن بعض البلاغيين بمعزل عن سياقها الذي وردت فيه نكون قد جنينا على الكثير من الكلام الجميل، وربما وصل هذا الحكم حتى على القرآن الكريم، فكلمة مثل “اثاقلتم” ربما كانت بمعزل عن سياقها ثقيلة على اللسان ولكنها في سياق الآية الكريمة في موقعها الصحيح والمعبر عن المعنى، وتعالوا نتلو الآية ثم نتبين موقعها والجو النفسي العام لها والمعنى المراد، يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض..} الآية، تتحدث عن قوم يدعون إلى الجهاد في سبيل الله فيخلدون إلى الأرض وتشدهم إليها، وقد جاء الاستفهام فيها لغرض التعجب والإنكار لأولئك المثاقلين والقاعدين عن النفير في سبيل الله... لنتأمل لفظ “اثاقلتم” بجرسه القوي والثقيل ألا يوحي لنا بمجرد ما تسمعه الأذن ب”الجسم المثاقل يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل!؟ إن في هذه الكلمة “طناً” على الأقل من الأثقال. ولو أنك قلت: “تثاقلتم” لخف الجرس، ولضاع الأثر المنشود، وتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ واستقل برسمها”4”. ونتلو حكاية قول نوح: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون{ فتحس أن كلمة “أنلزمكموها” تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ويشدون إليه وهم منه نافرون “5” على أننا إذا عزلنا الكلمة عن هذا السياق ما أدت غرضها ولكانت لفظة غير فصيحة في عرف البلاغيين. وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية، وأوقع من الفصاحة اللفظية، اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن أعظم مزايا القرآن! “6” لنعود مرة أخرى إلى الشعر ونردد مع الأعشى هذا البيت: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاوٍ مشل شلول شلشل شول هذا البيت لم يعجب النقاد والبلاغيين، وقد وصفوه بالبعد عن الفصاحة لكثرة الشينات في شطره الثاني. على أن الألفاظ الأخيرة “الشطر الثاني” جاءت متسقة مع الجو العام والحالة النفسية للشاعر، وينقل بكري شيخ أمين كلاماً جميلاً لمحمد النويهي في هذا البيت يقول فيه: إن هذا الشعر من نوع الدعابة والسخرية، وإن المراد منه الإضحاك. وهذا البيت يمثل الصورة الواضحة لمرح شاعر فرحان وشباب خفيفين، منطلقين إلى الحانة، يتراقصون في طريقهم إليها، يميلون يمنة ويسرة.. وغلامهم الرشيق الظريف يلحقهم، ويرقص كرقصهم في خطواته، وكأن الجميع منتشون بالخمرة قبل أن يصلوا إلى الحانة، أو كأنهم جرعوا كؤوساً قبل أن ينطلقوا إليها، فهم يترنحون، ويتمايلون ويتراقصون، وهم إذا حاولوا النشيد فلن يستطيعوه؛ لأن الشارب السكران يتلعثم في كلماته، ويتعثر في نشيده، ولقد فضحت الشينات الست التي توالت وتلاحقت في الشطر الثاني عند الشاعر الأعشى، وكان في تواليها تصوير لهذا السكر المؤدي إلى التلعثم، واضطراب اللسان عند من لا يعقلون”7”. ونخلص من هذا كله أن اللفظة وحدها، وخارج سياقها قد تكون غير فصيحة، ولكنها في سياق معين وجو معين تكون فصيحة لا بالنظر لها منفردة ولكن بالنظر إلى ما جاورها سابقاً ولاحقاً والجو النفسي العام الذي يحيط بها ويكتنفها، وأن البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، كما أن اللفظ منفرداً قد يكون فصيحاً ولكنه في سياق آخر، قد يكون غير مناسب ولا يتلاءم مع الجو العام، كما رأينا من لفظة تؤذي في بيت المتنبي وكما في لفظ غلام في قول ليلى الأخيلية: إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة ثناها “8” فلفظ غلام منفرداً لا مأخذ عليه، ولكنه في هذا التركيب، وهذا السياق غير مناسب؛ لأنه يشعر بالصبوة والنزق والجهل؛ ولذلك لم يقبله الحجاج، والأمثلة على ذلك كثيرة. يقول القزويني: ...وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف، فإن مقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير ومقام الذكر يباين مقام الحذف...وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسميه الشيخ عبدالقاهر بالنظم حيث يقول: النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلام حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام. فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب، وكثيراً ما يسمى فصاحة أيضاً وهو مراد الشيخ عبدالقاهر بما يكرر في دلائل الإعجاز من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ"9". واضح أن الخطيب القزويني يشترط في بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته إلا أن فصاحة الكلام ترجع إلى المعنى دون اللفظ؛ إذ قد يكون اللفظ غير فصيح منفرداً، ولكنه في سياق معين أو تركيب معين قد يكون فصيحاً بالنظر للمعنى هو عين ما نريده هنا !. (1)تاريخ النقد الأدبي عند العرب طه إبراهيم. (2)نفسه (3)البلاغة العربية في ثوبها الجديد بكري شيخ أمين. (4)نفسه (5)النقد الأدبي أصوله ومناهجه سيد قطب. (6)نفسه (7)البلاغة العربية.. المرجع السابق. (8)تاريخ النقد.. المرجع السابق. (9)الإيضاح في علوم البلاغة . الخطيب القزويني.