الإهداء : للمثقف الموسوعي الدكتور عبدالباري طاهر على حافتي الورقة يسيطر على اللون الأبيض وما سواه سواد قاتم .تحترق في داخله أشياء وهو يعيد قراءة كلماته, ينهد كيانه في وقفات الألم والركود, ويقطب حاجبيه وتستعر همته عند منافذ الخروج . سواد هو لون الصفحة وكذا لون الكتاب وعتبته الأولى, غير أن اسم المؤلف يحمل لوناً آخر (فريد النخبي). (الدولة,الدين, المجتمع) هي محاور همه الكتابي. صاحب العمود الأسبوعي في صحيفة اليوم مقلق واجب احتواؤه هكذا قُرر . فكان كرسي البحوث العربي هو مكان عمله الصادر فيه قرار وزاري . جمد الكرسي أوتار همته, ومحا محاور همه. زائر وثان وثالث يذهبون ويجيئون ما هو تعريب كلمة “كمبيوتر “ وكلمة “سكرتارية” . سيطر الركود على عمله ثلاثة أشهر, بعد أن حركه قلمه إلى أقصى الهموم والمتاعب فآثر الذهاب إلى المتاعب؛ فودع كرسي البحوث الراكد . على شرفة الصباح يحمل فنجان القهوة ويقرأ جريدة الصباح فتقابله دعوات مشفقة مكان عموده معنونة ب”حق الرد” : • الدين قد تم يا أستاذ ونحن نقدر همك, ولكن السياسة هي من دمرت أمتنا وأنت تطالب بفكر وأفكار وكأنه ناقص . • لكني لم أتهم الدين بنقصه, وإنما من أخذوه على هواهم. • هم ورثة الأنبياء . اتق الله لحومهم مسمومة . • وحياة الناس مقدسة وحقوقهم أولى من حق ... • اتق الله ... الله أولى بحياتنا ودمائنا وأرواحنا ... يهديك الله ... ويرجعك إلى جادة الصواب بإذنه وحذار من دعوات القائمين المتقين ... آمين .. آمين . على أرصفة العامة المفترشة أحلامها لجلب (لقمة العيش) توزع إعلانات “ندوة ثقافية للأستاذ فريد النخبي في باب المدينة”. - حمود مالك ومال العالم والثقافة اطلب الله على رزقك ورزق أبنائك, والثقافة لأهلها. في كلمات مقدم الندوة استنهضت مكامن الأمل داخله. أخذ يتأمل بين ثنايا أسطر كتابه منافذ للخروج من الحالي بتأزماته, فيتلهف بناظره لرؤية الجموع الحاضرة, فرأى في الأفق سراباً يمتد يسلب الأمل بكارته, عاصفة غبارها رمادي يهب من ثلاث جهات يعمي ناظريه فيقوده المقدِم باتجاه الجهة الرابعة التي لا تهب منها العاصفة, يتفحص جواز سفره في جيبه ومع أول رحلة جوية يحجز عبر الجهة الوحيدة التي لا تعصف رياحها. على مدخل المطار تُمد إليه ورقة “أنت مطلوب إلى العمارة رقم(3) الطابق رقم (14) تحت الأرض . تساءل : • لماذا? وأي شارع تقع فيه هذه العمارة. يرد عليه بقسوة وهمجية: •ستعرف اسأل أي سائق (تاكسي) سيدلك. يشير لأول تاكسي قادمة, وأمام ذهول ذاكرته يمد الورقة للسائق: • هذا العنوان لو سمحت. ترجع عيني السائق الجواب مشفقة ويدعوه: • تفضل, تفضل الله يعينك ويفرج عنك .أنت (أش) عامل يا أخي. • لمَ أنت خائف, أنا لم أعمل ما يخيف . • هذه طريق ممرها طويل, لا يخرج منها إلا القليل. لازالت عيني الأستاذ متقدة بالأمل وكلماته تتراقص كأغصان سرو عتيدة. يشير السائق إليه : •فضل هذه هي العمارة . يمد الأستاذ يده - وقد شزر بناظره إلى عداد الأجرة – بمبلغ من المال للسائق, فيرد عليه السائق . • لا والله لا آخذ منك . ناس (رايحة) هذه الطريق آخذ منها ؟! محال . بعد شد وجذب رمى الطلاق بالثلاث أنه لن يأخذ منه أجرة المشوار. وودعه بدعوات تترتل. ولازال صوت يتردد في المطار بلكنة فرنسية المسافر رقم (21)(فريد النخبي) الرحلة ستقلع بعد دقيقتين .