في الحارة القديمة بتعز في زقاق ضيق يصل ما بين سوق شارع عصيفرة وشارع التحرير يوجد مخبز يمني تقليدي بتنوره المبني على الطريقة التقليدية الذي كان لا يخلو منه مطبخ أي بيت تقليدي بالمدينة؛ لأنه كان الوسيلة التي به يتم طبخ الوجبات الغذائية وما تبقي به من جمر الحطب يتم رفدها ل(مداعة التنباك) والتبخر بجمراتها الحمراء الملتهبة.. المخبز الذي جمع ما بين القديم في طريقة إعداده الخبز البلدي من مادة القمح الأسمر والأبيض وبالسمن وحبة البركة، وبالحطب الذي يتم جلبه عادة من منطقة شرعب عبر الحطاب المعروف بمهنته هذه من زمان كل أسبوع مرة، بينما كان قبل عشر سنوات يأتي بالحطب كل يومين وثلاثة لكثرة الطلب عليه بسبب إقبال الناس على شراء الخبز البلدي الذي صغر حجمه اليوم كثيرا عن الأمس القريب، ليحل الروتي بدلا عنه لذا الناس كثيرو العدد في الأسرة الذين يريدون إشباع أسرهم بفلوس أقل من سعر الخبز البلدي الذي ارتفع سعره بسبب ارتفاع سعر الكيس القمح والمواد الداخلة في صنعه. أضف إلى ذلك قيمة الحطب وأجرة العاملين بالمخبز. ومع ذلك مازال المخبز يعمل والذي ورثته أربع سيدات يسكن جوار المخبز مع والدتهن المعروفة؛ لذا عمال المخبز بالحاجة، ليس كل العمال بل القدامى منهم الذين كانوا يعملون معها عندما كانت هي بنفسها تدير المخبز وتشرف على العمل فيه ومازال مجلسها في ركن المخبز موجودا يجلس عليه ومنذ سنوات المشرف على المخبز ربيب الحاجة (حسن بن علي محمد ملهي) بزيه القديم وطريقة مظهره التي لم تتأثر كثيرا بمدنية اليوم. هو من العدين دخل إلى تعز في أيام الإمام يحيىوهو لا يزال صبيا تلقفته الحاجة وربته وصار يعمل لديها في المخبز وظل رفيقها حتى توفيت ثم علمت بعدها ابنة عمها كمشرفة على المخبز حتى أصبحت البنات ورثة أمهن ومسؤولات عن المخبز، وحسن المشرف اليومي كلما باع رغيف خبز رمى الفلوس إلى الشنطة التي يعطيها آخر الدوام للبنات لكي يعطين العمال أجورهم حسب عملية البيع من الخبز في كل يوم، الذي ومنذ سنوات قريبة لم تعد كما كانت.. فقد تناقص الطلب على الخبز البلدي بحبة البركة والسمن وأكثر زبائن المخبز هم من تجار سوق الجملة، وبعد أن كان المخبز يخبز أكثر من كيس قمح في اليوم الواحد أصبح لا يخبز إلا نصف كيس. وعودة إلى حسن ملهي الذي وصل راتبه مع الأيام إلى عشرين ألف ريال، بينما يصل أجر العمال الآخرين حسب المدخول اليومي من البيع للخبز. يقول حسن ملهي: الخبز اليوم ليس كما كان قبل سنوات مضت تشم رائحته من رائحة القمح الذي لم يعد زى زمان وحجمه كبير الناس كانوا يتزاحمون على المخبز لشرائه كنا نعمل منذ الصباح الباكر حتى المساء أما اليوم نكتفي للساعة الثانية والطلب ليس كثير، ولكن البنات رفضن هجر مهنة أمهن واعتبرن أنفسهن ورثن الصنعة عن أمهن ولن يتخلين عنها. وتابع حسن بقوله: في تعز وفي الأسواق القديمة يوجد فقط ثمانية مخابز بلدية تقليدية هذا واحد منها هنا لا نكتفي بصنع الخبز وبيعه، بل نساعد الجيران الذين يريدون أن نخبز لهم عجينهم بالتنور. هذا المخبز عمل فيها الكثير من العمال الذين مكثوا فيه فترة من الزمن حتى تمكنوا من إيجاد أبواب عمل أخرى فتركوه لأن معظم العمال كانوا يأتون صغار السن من القرى ويجدون في المخبز فرصة للعيش، اليوم منهم من فتح محلات ذهب وآخرون فتحوا مخابز خاصة بهم ومنهم من سافر إلى خارج اليمن للعمل وهكذا تستمر الحياة ولا تتوقف عند المخبز.. ويتابع حسن كلامه: عندما دخلت أعمل في هذا المخبز كانت أجرتي بقشة تسوى الدنيا بقشة في ذلك الوقت كانت تعني الكثير لي تزوجت أربع مرات، ولم أنجب والآن أعيش لوحدي حياتي كلها للمخبز ولا أنسى الحاجة التي ربتني مثل ولدها.. وعن المضايقات التي يتعرض لها المخبز قال حسن: قبل السنة الماضية كل أسبوع يتردد على المحل مندوبون من الضرائب والواجبات والبلدية إذا لم ندفع لهم المعلوم يعملون لنا مخالفة واستدعاء للمكاتب وهناك ندفع أكثر؛ ولذلك نضطر ندفع لهم في المخبز حتى يذهبوا ويسكتوا عنا والآن يأتون كل أسبوع ويأخذون القليل المهم يريحونا منهم.. وهو يتابع حديثه يقاطعه متدخلا بالحديث رفيقه القديم العامل معه في المخبز رزاز سعيد الذي يتذكر أيام زمان فيتحسر للوضع الذي آل إليه الخبز البلدي الذي كان لا يجد معه وقتا للراحة أثناء العمل عندما كان الطلب عليه كثيرا. بالنسبة لمواسم الأعياد يصبح العمل غير مطلوب؛ لأن الناس تحتفل بالأعياد في قراها خاصة تجار الجملة ولم يعد هناك طلب للخبز وهكذا تمضي رحلة خبز بلدي شهي قد يأتي يوم ويصبح بحجم الرغيف العادي ويكف عنه الطلب.. ومع ذلك مازال المخبز يصنع الخبز ومازالت البنات الأربع حريصات على مهنة والدتهن، ولكن إلى متى والحياة في ارتفاع وأسعار الأشياء في ارتفاع والناس يريدون أكل ما يسد الرمق وبأقل الأسعار؟ إلى متى سيظل المخبز يعتمد على تنوره القديم التقليدي والحطب في صناعة الخبز وكثير من البيوت القديمة بالمدينة هجرت التنور القديم إلى الكهربائي، إلى البتوجاز؟! سنرى الى متى سيصمد، وهل سيأتي يوم يصبح هذا المخبز وأمثاله رموزا من رموز التراث الشعبي للمدينة تحكي قصة خبز وأناس وأحداث رافقت حياة أناس ومدينة كانت تأكل الخبز البلدي الذي كان الإمام يحيى يخصص القمح المستورد للمخابز والبلدي للبيوت. في البلدان المتقدمة بالعلم تحاول صنع حضارة لها، حضارة حديثة من خلال بناء المتاحف وبناء الرموز الحضارية للفترة الزمنية التي تعيش فيها كل مرحلة بمراحلها فهل سنجد في بلادنا ومحافظتنا المليئة بالفلكلور الشعبي من يؤرخ زمنا منسيا من حياتنا لنصنع منه قصة وحكاية لأناس عاشوا بطريقتهم حتى يأتي جيل آخر يدرك ذلك ولا يردد فقط حضارات قبل الإسلام وبعد الإسلام ليتوقف الزمن عندها..إنها مجرد أمنية!!