قد نتذكر الإنسان أحياناً بعد موته وربما نعطيه حقه بعد أن يرحل ويكون جسمه قد نخرته ديدان الأرض في قبره واليوم ونحن نتذكر حياة شاعر شعبي ولد في بيئة يمنية عام 1932م وفي قرية حالزة قريشة محافظة تعز القرية التي ولد فيها أيضاً الأديب القرشي عبد الرحيم سلام والمجاورة لقرية الشاعر د/سلطان الصريمي فسطورنا هذه تتحدث عن الأديب مقبل علي نعمان المشهور بشاعر الريف والمدينة ولنقف مع نبذة مختصرة عن سيرة حياته حيث تربى وترعرع في قريته الصغيرة مع بقية أسرته وكان فلاحاً صغيراً يحب زراعة الأرض وتربية الماشية. وكما هو حال الكثير من أبناء الريف تلقى تعليمه الأولي على أيدي فقهاء القرية ثم انتقل مع والده إلى مدينة عدن والذي كان يعمل بالتجارة وظهر التناقض بينه وبين والده فالأب يرغب أن يعلمه أصول البيع والشراء وهو يحب العلم ويبحث عنه منذ صغره وفعلاً أصر أن يدرس والتحق في مدرسة بازرعة بعدن ومن هناك بدأ حياته العلمية والتجارية معاً رغم الضغوط التي يحصلها من والده الذي كان يريد منه تكريس كل وقته في محله التجاري إلا أن شاعرنا الأديب مقبل علي نعمان وجد تشجيعاً علمياً من أصدقاء زمانه أمثال الأديب الكبير المرحوم عبد الله عبد الوهاب نعمان والأديب الراحل القرشي عبد الرحيم سلام وهناك بدأ يعشق الشعر منذ صباه وكانت أول مشاركة له في صحيفة الفضول التي تعتبر أول نقطة الانطلاق الأدبي حتى وجد نفسه غارقاً في بحر الشعر وخاصة عندما كان يجلس بين شعراء ويلقي عليهم ما تنتجه أفكاره فيجد منهم التشجيع خاصة كونه يمتلك موهبة ربانية في قول وحفظ الشعر الشعبي والكوميدي وحسن الإلقاء .. لقد كان شاعرنا مقبل علي نعمان القرشي يولد في نفوس كل من يستمع لقصائده يولد فيهم الارتياح وحب الاستماع كونه ينقلهم للجو الشاعري الكوميدي حتى عندما تكون القصيدة سياسية أو غزلية فإن النقد الكوميدي لا يخلو منها حيث كانت الكلمة الكوميدية هي ميزة قصائده وبما أن شاعر الريف والمدينة كان يتنقل في لون القصائد فبهذا لم يترك لدى المستمع أي ملل عند سماع قصائده وخاصة عندما يدخل فيها اللهجة العامية ويجعلها تكاملية بعد ذلك من كل الاتجاهات... فهو لم يكن يطمع ببناء الفلل الراقية بقدر ما كان يبحث في مخيلته عن بناء بيت شعر يريد به إيصال صرخة انتقاد بأسلوب شعري لغرض تقويم أي اعوجاج يراه مائلاً حتى لو كانت أبياته الشعرية يغلب عليها الطابع الشعبي إلا أنها تغزو بمفرداتها الشعبية نحو النقد البناء الذي يظهر بأسلوبه المضحك لفظاً ..لكن المغزى الحقيقي متعمق في الأبيات وكما قال ذات مرة أنا وضعت كلماتي الناقدة لخدمة الوطن ولنا وقفة مع بعض من أبياته ألتي تظهر للقارئ أنها أبيات شعبية إلا أن المغزى فيها هو جزء من أنين المواطن ومن التعسف الذي يلاقيه من قبل التاجر أو بعض التجار الذين يغالون بأقوات هؤلاء التعساء حيث قال. بقطم...بقطم...واحد يخبز والثاني يخسم كيف عاد نعمل يا ابن العم التموين يهدر ويزرجم والغلاء الفاحش يتقدم بالريف والقرية الكل يعلم والأسعار زادت بكل مطعم إلى القمة يا ابن العم شنكن نمشي ونتنسم بجاري جمل أوسُلم... وكلمة نتنسم بالدارجة تعني نتوقف هنيهات لأخذ قدر من الراحة ثم نواصل السير.. فمن خلال متابعتنا لهذه الأبيات نجد أن شاعر الريف والمدينة مقبل علي نعمان يعالج قضية اسمها الغلاء كما أنه يشير لبعض التناقضات في أوساط المجتمع فمنهم من يعمل ويكد بعرقه ومنهم من يأكل من عرق جبين الآخرين وهذا ما لمسناه من كلمة ( واحد يخبز والثاني يخسم ) وكلمة يخسم يأكل ومع كل هذا الغلاء أو بالأصح الغلاء الذي ساير ذلك الزمن الذي قيل فيه القصيدة لم يكن شاعرنا فاقداً للأمل بل كل تلك المتناقضات كانت تزيده إصراراً وتقدما لخدمة الوطن وتجعله يبحث عن كلمات شعرية يشد بها أزر كل مواطن غلبان ليجعله يقدم لوطنه كل ما بوسعه ويبني السهول والمدرجات ليزرع ويقلع ويأكل من ثمار أرضه حيث قال: أنا والله يا صنعاء لن أرجع ولن أطمع..... سأحيا دائماً فوق الروابي الخضر أتنكع وسوف ازرع سهولي والشعاب مطلع أحييك ياأخي الفلاح حين تزرع وحين تقلع أحيي الجيش والقائد والمدفع أحيي من بنا في أرضه المعهد والمصنع أحيي كل من ساهم ومن شجع إذاً لبيك يا صنعاء غداً شطلع .. فلو فتشنا عن إنتاجه الأدبي فسوف نجد أن قريحته الشعرية كانت غزيرة بالقصائد الثورية, التي تتفاعل مع الحدث الوطني بحس شاعري يجمع بين الولاء للوطن والدفاع عن حقوقه المشروعة فهو لم يكن عسكرياً بمدفعيته بالمواقع الإمامية التي تتصدى لأي عدو ولكنه كان جندياً شجاعاً بقلمه وكلمته المعبرة عن الحب والإخلاص لهذا الوطن كان يقف بوجه كل متغطرس بكل فدائية أدبية لا يخاف ممن ينتقدهم ولا يفكر بردود أفعالهم السياسية مهما ارتفعت هاماتهم إذا رأى فيهم السلبية الواضحة... لقد كان الشاعر مقبل علي نعمان يبكي بدموع قلمه الذي يعبر عن أية مأساة تصيب قلب هذا الوطن الحبيب ويقف كالطود الأشم في وجه أي معتدٍ يحاول أن يمس قدسية الوطن وأبنائه فهو الذي رثى الشيخ محمد علي عثمان محافظ تعز آنذاك يوم أن استشهد حيث قال في بعض أبياته: جف اليراع فتعطلت أخباري واسودّ ما حولي وضاع حواري ماذا أسجل في رثاء محمدٍ ومصيبتي قد جاوزت أشعاري مأساتنا يوم الشهيد كبيرة والعار باقٍ واضحاً للثارِ صبرٌ تزلزل عند فقد محمدٍ متداعياً قمماً وفي الأغوارِ فهناك من كان يعرف أن مقبل علي شاعر شعبي ولا يعرف أنه شاعر ثوري ويمتلك أيضاً الموهبة الشعرية ذات الطابع الغزلي والغنائي في الوقت نفسه فعندما كان يحس ممن هم حوله يتفاعلون مع الكلمة العاطفية والغزلية كان يلبي الطلب ولنأخذ مقطعاً من بعض أبياته قال فيه: صُنيعنة بالله اقرئي لي شكتب أرى بعينيك الغرام يسكب لأنتي الهناء أنا الوفاء أنا الحب صُنيعنة يحجب عليك يحجب أما عن الكلمات الغنائية فقد اخترنا منها بيتين: بعطلة العيد أو بعطلة الصيف ليت الحبيب يوصل لعندنا ضيف القات بزغ والكيف يتبعه كيف والهجر طال ولا دريت على كيف إذاً لم يكن شاعر الريف والمدينة صاحب لون معين من الشعر بل كان يسبح في بحور كثيرة ويحب أيضاً المساجلة الشعرية مع الكثير من الأدباء ونتذكر له ذات مرة حينما قال مادحاً نفسه ببعض الأبيات: مقبلٌ حط في ربا صنعاء يتمطى منصة الأدباء توج اليوم فهو ندبٌ كبيرُ وأميرٌ لسائر الشعراء كما أن هناك البعض من الشعراء قالوا شعراً عنه فمنهم من هجاه حباً لاستفزازه ولغرض أن يسمعوا منه الرد بأفضل ما قالوه عنه ومنهم من قال عنه اعترافا بشعره وهكذا كان الشاعر يتعامل مع فصيلته من الشعراء بالسلاسة الشعرية أكانت هجائية أم نقدية كما لفت نظري بقصيدة قديمة قالها في السبعينيات وكأنه كان يتوقع ما نواجهه اليوم في مدينة تعز من معاناة في أزمة المياه وانطفاء الكهرباء واختار منها ما يقول: تعز تئن لا كهرباء ولا ماء طول الليال تعز تدجي ظلماء واخالتي وعمتي وسلمى أبي شموت عاطش ظمه بظلمه فمثل هذه الأبيات نجد أن مطلعها يتحدث عن معاناة المواطن نفسه وما يواجهه من متاعب ونظراً لضيق المساحة في هذه الصفحة والتي تجبرني لضغط ما أريد قوله رغم وجود الكثير من ذكرياته الأدبية فقد أحببت أن اختار قبل الختام بعض الكلمات من مفكرته الشعرية حيث يقول.. عن الحياة أنها بركان لا جمود والنكسات الجارحة هي نقطة التحول والانطلاق في حياة الفرد.. الناس معادن منها الأصيل ومنها الرديء.. الحقيقة تمنعني وينعدم أثرها حين يكون التمييز والتعصب.. العمل هو نقطة تفجر الكلمات الهائلة المتعطلة في ذات الإنسان المتعلم ..وفوق كل شيء كان يتمنى طباعة ديوانه الشعري الذي أسماه ( العالم في هندول ) وقد طرحت فيه الانتقادات والآراء, وكان المعجبون بالفكرة كثراً, لكن هناك أسباب وقفت أمامه حجر عثرة منها الإمكانيات والظروف الخاصة رغم أنه في الفترة الأخيرة جمع وفرز قصائده إلا أن المرض داهمه فجأة والقضاء والقدر هو أقوى من كل شيء, حتى أنه لم يعط أهله فرصة البحث عن مصدر لعلاجه, نظراً لشحة إمكانياته وتصفير جيوبه المالية, حتى ترجل عنا راحلاً في بيته في سوق الجملة بتعز. حيث كان من أوئل من سكن في تلك المنطقة ليترك بعده أسرة كبيرة تقلب في ذكرياته وتنظر إليها كلما اشتاقت لرؤيته بين تلك الأوراق التي كان يسطرها بكلماته الشعبية .. وللتذكير أخيراً إن آخر مهنة عمل فيها وتوفاه الأجل وهو فيها مؤسسة الجمهورية للطباعة والنشر...