سلسلة مقالات وجدانية للكاتبة والخبيرة في التنمية البشرية المدربة الدولية عائشة الصلاحي عن مؤلفها النوعي الصادر حديثاً (فارس النور)، من إصدارات مجلة نجاح المتخصصة في التنمية البشرية والعلوم الإدارية. متى؟؟! تترد عشرات المرات في راسك كلما رنت عيناك إلى هدف ما أو مكان تتوق إليه.. يزداد ترددها في أرجاء عقلك كلما أخطأت في أمر ظننت أنك لن ترتكبه مرة أخرى بعدما تعلمته من فعله آخر مرة. ويزداد لهيب صداها في أعماقك.. هي نفسها (متى؟).. حين تكتشف أنك لازلت في أول الدرب الذي اعتقدت أنك أصبحت في مرحلة متقدمة منه.. قد تستسلم لليأس وتتسرب إلى روحك فكرة أنك لن تصل مهما حاولت ولو كان مقدراً لك أن تصل لكانت محاولاتك السابقة قد نجحت. وقد يضيق صدرك بالضجر والتعب ونفاد التحمل.. وتعصف بك تساؤلات خانقة ساخطة على ذاتك ومن حولك.. فتظل تسأل متى أتخلص من هذه الصفة المزعجة؟! متى أصبح مثل فلان..؟ متى أصبح هناك في تلك المكانة..؟ متى متى أصبح كما أريد.. بل كأقل ما أريد؟. (متى).. سؤال محمود لكن الإفراط فيه يقود لأمر غير محمود العواقب.. احذر.. تمهل.. اختصار الزمن أخطر شعور يعصف بآمالنا واتزان تفكيرنا.. سقطت أمجاد.. وفشلت أعمال كانت ناجحة وتهدمت أساسات كانت متينة.. كل ذلك بسبب الاستعجال واختصار الزمن والمسافات الوقتية. تأكد أن التدرج سنة كونية لا تحابي أحد.. ولا تداهن هوى عَجُول، إنه سنة في كل شيء من حولنا.. هذا التدرج له زمنه وله مراحله التي لا تُختَزل ولا تُقصَر لأجل أي كان.. تلفت حولك فالكون كله يتدرج في كل جزيئاته، وجماله في تدرجه وتمرحل فصوله وأحداثه ونماء كائناته، لا أحد يسبق غيره والكل يمضي في نظام رزين متمهل. أصحاب التسرع ليسوا منسجمين مع السنن الكونية، فكيف يفلحوا؟! ولا يعني هذا أن أهل التسويف المتثاقلون محبذون.. لكن الاتزان والتوسط هو المطلوب دوماً. لا تكن شجرة تعجلت الإثمار وهي لا زالت صغيرة فثقلت أغصانها الضعيفة بثمارها فتكسرت، وذبلت أنسجتها من استنزافها لذخيرتها من الغذاء بسبب أعباء وثمار جاءت قبل أوانها.. لا تكن مزارعاً تعب كثيراً في زراعة أرضه فحرثها.. بذرها.. نقاها ورعاها.. فلما نما الشجر وأزهرت تعجل القطاف فندم حين كسرت ظهره الخسارة الفادحة بسبب ثمار رديئة الطعم قليلة الفائدة.. فقط لأنها لا زالت غير ناضجة. وهذا يذكرنا أن رسولنا الكريم نهانا عن أكل الثمار غير اليانعة.. مما يؤكد أهمية الانتظار لما يجب أن يُنتظر.. وها هي الأبحاث تؤكد أن الثمار غير الناضجة قد تكون ضارة على الإنسان غالباً لأنها تُكَوِن مواد مضادة للآفات والديدان التي قد تهاجمها في هذا الوقت من نموها، وهذه المواد تكون سامة في غالبيتها. هذا في الثمار.. فضلاً عن الأعمال.. والإنجازات والأفكار.. وتربية النفوس والأرواح.. تمهل قبل أن تحكم على نفسك من أنه لا فائدة منك وستظل هكذا مهما حاولت.. تمهل فليست الأمور والأشياء كما يبدو في بداياتها بل بما تتطور وتنتهي إليه مراحلها. تمهل فإن الفراشة الرائعة تكون في بداية حياتها دودة بدينة بطيئة وشرهة، ثم تصبح شرنقة جامدة قاتمة.. تلك الدودة البدينة تظل كامنة في كيس (الشرنقة) القاتم القبيح حتى يكتمل نموها وجمال أجنحتها.. هي لم تتعجل الخروج مع أن دورة حياتها –غالباً- قصيرة جداً قد لا تتجاوز في بعض الحالات أسبوعين، لكنها لا تتعجل.. عليها أن تصبر حتى تخرج إلى الوجود كما أراد لها الله سبحانه.. مخلوقاً آسراً في جماله. إياك أن تتعجل في أعمالك أو آراءك أو مواقفك.. لا تكن كذلك الذي راح يراقب فراشة بعناية وهي تخرج من شرنقتها بروية وتمهل.. انفعل بقوة معها واشتاق أن يراها تطير.. لكنها أبطأت في خروجها فهي تنتظر جفاف جناحيها.. لم يدرك هو ما أدركته هي بفطرتها فاستعجل حياةً هي متأنيةٌ فيها.. فمد يده ونزع بقية الشرنقة من عليها.. لم ينتبه أن هذه الشرنقة لا زالت ملتصقة بأطراف جناحيها مما أدى إلى انتزاع جناحيها مع الشرنقة.. تفاجأ العجول مما حدث وحزن حين لا ينفعه الحزن حين رآها تتألم لفترة ثم تموت.. حاول أن يختصر لها مرحلة ضرورية.. مرحلة يجب أن تأخذ وقتها.. فقتلها بتعجله وقصر نظره. للأسف أننا نكون هكذا كثيراً.. فاحذر احذر.. تأكد أن مرور الزمن ضروري لتكون رائعاً كما تريد.. مرور الأيام خير معلم، خير مربي، بل أجمل وأعمق دورة تدريبية لك ولجَلَدك وثباتك.. هون عليك فالوقت جزء أساسي من علاج كل علة وكل مشكلة.. هون عليك فمرور الأيام وحده سيكشف أن فكرتك التي ناضلت لها وخالفك الآخرون وعارضوك عليها، صحيحة وعميقة فلا يضرك قصر أنظارهم وقوة هجومهم الآن.. فالزمن كفيل أن يكشف ما هو صالح للبقاء وما هو مستوجب للفناء. تمهل ولو طال الوقت فستصل ما دمت مداوماً لا محالة، وتذكر أن الثمار المُنَضَجة سريعاَ بالمواد الهرمونية تكون بلا طعم، بلا رائحة، وبلا لذة حقيقية حتى وإن احلَوَ منظرها.. بل إنها قد تحمل أمراضاً خطيرة لآكلها بدلاً من أن تنفعه. تمهل.. بالله عليك فإن الله يحب لك الأناة.