بتأوهات تعم أزقة الحي كانت تراتيله تخيط صمت الخوف الذي أطبق بفكيه على «حارة الوفاء». وفي ليلة قتل صمتها جسد الحياة قررت أن أسمع تراتيل صابر «المجنون» اقترب من حي الوفاء فأجد منازل تشخص بصيص أضوائها نحوي ورائحة «الجازولين» تنفح كرائحة يتميز بها الحي .. شدني مرأى مبنى يحافظ على بقايا إطلالة بعمود مستلق على قارعة الطريق، اقترب من العمود أجد رجلاً ثلاثينياً رث الهيئة ممشوقاً بل «ناحل الجسد» لم أر منظره غير يد تمتد وأعين تنسج فجوة خوفي باستعطافها القاتل!! لم يتكلم وأنا لم أرد زفيز نفسي. أعندك ما أسد به جوعي؟ تلت كلماته دفعات كثيفة من نفس محبوس خلف قضبان صدري.. بل توأم أنفاسي حرقة المشهد أدلفت يدي في معارج ثوبي لأجد مابقي لي من غبار شمس يومي «200 ريال» انبجست أسارير الرجل وأرعدت بوارق دعواته، أما المطر فكان من نصيب عيناي، انطلق الرجل فكانت خطواتي تتبعه لترى أين مبيته؟ فمثله يبدو لي أن لا جدار يحويه، ونهاية منعطف الشارع وحيث لا ضوء ينبض، غاب الرجل جرجرت بقايا حطامي لأجده في عراك مع أكياس النفايات وهو يحفر في أجوافها. ما الذي تفعله ياصابر؟ أبحث عن ... لم أتركه يكمل أو لم أعطك ماتأكل به هذه الليلة؟ وبعد بعث ترتيلته المشهودة التي سمعت عنها يوماً في هذا الحي قال:« 200 ريال» هي لبضع حبات رغيف وزبادي لمن هم في صوم النهار خلف جدران التعفف. ألديك أطفال؟ وزوجة وأم مريضة. لم يحترم هدوء المتخمين وهم نائمون فردد تأوهاته «ياحي نام أهل الحي .. وسياط الجوع تكوي بطني كي، وبعد ترتيلته التي عهدها سكان الحي مالبث أن غرز يده بما تحمل من بقايا طعام في فمه،وغاب عني، أنظر في المبنى لأجد «عاقل حارة الوفاء لوحة معدنية فاخرة، مصباح وبخور، وصوت بحيح نائم يضج به الزقاق غصة في حلقي، ألم يسكن دقائقي، يمزق ابتسامتي حي المتناقضات ماهي سوى زحفات نسجتني من جوار بيت عاقل الحارة حتى سمعت نواحاً من خلف باب!!! فتحت الباب عجوز تسعينية سلبها الألم نعسات نومها حين وصلها خبر سيارة اخترقت جسد راعيها الوحيد «ابنها» في إحدى دول الجوار،حين ذهب حلمي متسللاً عبر الحدود دونماً بطاقة جواز مروراً إلى مبتغاه لكي لاتأكل أمه من برميل النفايات ولأنه من حارة الوفاء فلم يثقل كاهل من هو وفيٌ له بطلب «لقمة حلال» ناهيك عن مماثلة مبنى ولوحة العاقل الذهبية، ذهب متسللاً حتى من روحه التي تركها في زاوية من زوايا البيت لترافق أمه قتل حلمي هناك في دولة الجوار لأنه لم يتكلم حيث قدم نحوه ديناصور الحرس طقم عسكري فلم تقتنع فرامل المركبة بالوقوف حتى بللت شفتيها باللون الأحمر الملتهب من جسده المبني بعظام ظاهرة دونما غطاء يكسوها، عاد حلمي ميتاً وبقايا حلم أمه أن ترى على الأقل حطام رفاته وقد أوصل إليها في وضح النهار ولكنها تسترت به في البيت حتى المساء. وهاهو المساء الذي أنا فيه هو مساء رحيل حلمي ابن حارة الوفاء إلى التراب.. برهة صمت هتك هدوءها صوت صابر المجنون. أخرجت الجثة في نعش بسيط توسطه حاملاً إياها صابر «وحيداً ولامعين له» تناولت مؤخرة النعش وتقدم به صابر حملته وإياه إلى من هو أرحم به من حارة الوفاء، تساءلت لما لم يحمل حلمي الوديع الصامت أحد من أهل الحارة إلا صابر المجنون؟.