جرت العادة أنه عندما تقع مشادة كلامية معلومة السبب بينك وبين آخر، وتؤدي إلى أن يقول عنك شيئاً يؤذي مشاعرك ويجرح أحاسيسك، فيمكنك – كردة فعل طبيعية تحدث لأغلبنا في أغلب الأحيان - أن تفسّر الأمر على أنه إهانة أو انتقاص أو تحقير لشخصك، وأن يظل الحزن مخيماً عليك سحابة نهارك، فإذا أويت إلى فراشك صرت تتقلب على جمر الغضب، وتتذكر الموقف، وكأنه شريط سينمائي تعرضه المرة بعد الأخرى وتحاول نسيانه فلا تقدر! وفي بعض الأحيان تأخذنا حالتنا النفسية جراء عداواتنا ومشاحناتنا، وسلسلة لا نهاية لها من الحقد والغل والشحناء البغضاء، أمور لا طائل منها إذا علمنا أن من نكن لهم مثل هذه المشاعر ما هم إلا عبارة عن أناس جارت عليهم الدنيا بمصائبها التي لا نعلم عنها شيئاً. غاشية من القسوة والغلظة تأخذنا للأسف الشديد عندما نصاب بما يمكن تسميته النيل من مهابة دولتنا الشخصية والذاتية، وحقيقة الأمر أننا لم نصب بشيء من ذلك من قبل الآخرين إنما هي وساوس نفس، وتحليل غير منطقي لحدث عرضي كان يمكن أن يمر دون الوقوف عنده للحظة واحدة. وحين تغير طريقة التحليل للموقف، وتتوقع أن هذا الإنسان كان يمر بظروف صعبة وتعب نفسي، رجل أثقلت كاهله الديون، مجهد نفسياً لا تزيده الأيام إلا قلقاً وعناء، مريض حار الأطباء في شفائه، كئيب يعاني هموماً أمثال الجبال، شاب ضاعت به السبل فلا عمل ولا وظيفة ولا شهادة ولا زواج. يحكى في هذا الصدد أن أخوين عاشا مدة طويلة بالاتفاق والمحبة، كانا يعيشان بمزرعتهما في الريف، يعملان معاً ويسود حياتهما التفاهم والانسجام الكلّي، عَمِلا فيها معًا في فلاحة الأرض، مشاطرَيْن الآلات، والأجهزة، متقاسمَيْن المحاصيل والخيرات. وفجأة وفي يوم من الأيام، نشبت مشاجرة بينهما وكانت هذه المشكلة الأولى التي نشأت بينهما بعد أربعين عاماً، نشأ الخلاف من سوء تفاهم بسيط وازداد، حتى نشب شجار، تفوّها به بكلمات مُرّة وإهانات، أعقبتْها أسابيع من الصمت المطبق، فأقاما في جهتين مختلفتين. وفي ذات صباح قرع قارع باب الأخ الأكبر، وإذا به أمام رجل غريب، قال هذا الغريب: إني أبحث عن عمل لبضعة أيام وقد تحتاج إلى بعض الترميمات الطفيفة في المزرعة وقد أكون لك مفيداً في هذا العمل. قال له الأخ الأكبر: نعم لي عمل أطلبه منك؟ انظر إلى شاطئ النهر المقابل، حيث يعيش جاري، أعني أخي الأصغر، حتى الأسبوع الماضي كان هناك مرج رائع، لكنّه حوّل مجرى النهر ليفصل بيننا، وقد قصد ذلك لإثارة غضبي، غير أني سأدبّر له ما يناسبه، أترى تلك الحجارة المكدّسة هناك قُرب مخزن القمح؟ أسألك أن تبني جداراً علوه متران كي لا أعود أراه أبداً. أجاب الغريب: «يبدو لي أنني فهمتُ الوضع». ساعد الأخ الأكبر العامل في جمع كل ما يلزم ومضى إلى المدينة لبضعة أيام لينهي أعماله. وعندما عاد إلى المزرعة، وجد أن العامل كان قد أتمّ عمله، فدهش كل الدهشة ممّا رآه، فبدلأ من أن يبني حائطاً فاصلاً علُوّه متران، بنى جسراً رائعاً، وفي تلك اللحظة ركض الأخ الأصغر من بيته نحو الأخ الأكبر مندهشاً وقائلاً، إنّك حقّاً رائع، تبني جسراً بعد كلّ ما فعلته بك؟ إني لأفتخر بك جدّاً، وعانقه، وبينما هما يتصالحان، كان الغريب يجمع أغراضه ويهم بالرحيل، “قالا له: انتظر ما زال عندنا عمل كثير لكَ، فأجاب: “كُنتُ أحبّ أن أبقى، لولا كثرة الجسور التي تنتظرني لأبنيها”. على ضوء هذا الموقف ومقدمته نريد هنا أن نقرر حقيقة لا يختلف عليها اثنان هي أن الحياة مليئة بأنواع المتاعب وضروب المعاناة، ولا يتسنى للبعض فيها - بسبب سوء في تقدير الأمور وتحليلها تحليلاً غير منضبط - أن يكون هادئاً مطمئناً ساكن النفس مرتاح البال، يتعاطى مع القضايا والمواقف بكل أريحية واعتدال وحكمة.. حتى إذا اتضحت له الرؤية وعدم صوابية ما قام به في حق فلان أو علان ظل يتقلب على فراشه ألماً وندماً على ما بدر منه في حق الآخرين! وإذا قلت له – وهنا بيت القصيد - لم لا تبادر بالاعتذار لمن أسأت في حقه، يصدمك برده حين يقول، لا أستطيع، أنا متردد لأن الاعتذار قد ينتقص من قدري، وما علم المسكين أن ما سيقوم به حسن جميل، وخير دواء للندم حين نسيء للآخرين. فهل حان الوقت لنغيّر رؤيتنا وتصوراتنا عن المواقف التي تعرضنا لها سعيا منا لأن تتغير انفعالاتنا إزاءها، وتذكر أخي القارئ أن ربك العليم لا يغير ما بك حتى تغير ما بنفسك، أمر من شأنه أن يجعلك تقدم معتذراً لمن أسأت في حقهم، ومثل هذا الأمر مطلب لمن ينشد الطمأنينة، فقط جربها ولن تخسر. إضاءة: ماذا جنيت بحقدي كي ألقى بقاسية من الليالي أباري نجمها أرقا؟ لا ذنب لي غير حب قد خلقت له أريده أبدا كالنور منعتقا أريده أنجماً في القلب أحملها حتى ترى في سماء الروح منطلقا أريده مثل سيف النار متقداً لا يعرف البهرج المصنوع والملقا أريده غاية في القلب مبدؤها ولا انتهاء لها ما خافق خفقا أريده غيمة بالعطر مثقلة إذا دعاها ربيع أمطرت عبقا لا أفهم الحب إلا أنه قدر يفنى المحب به شوقاً بمن عشقا لا أفهم الحب إلا أنه مطر يحيي الجذور ويروي الغصن والورقا لا أفهم الحب إلا أنه قمر أراه رغم احتشاد الليل مؤتلقا لا أفهم الحب إلا أنه سفر إلى سماء لقاء تمطر الألقا