إنها حكاية مكان.. كما هي حكاية زمان... حكاية مرّ عليها الوقت ونسيها هناك.. حكاية أرض أحلامها بريئة لا تتعدى أحلام أنثى صغيرة كأنها سندريللا تبحث عن حذائها المفقود.. حكاية جبال واقفة في ماضيها منذ تركها أبونا آدم.. تتوجع تحت عوامل التعرية ولكنها مع ذلك تتحدى الانكسار . وتحاول ألا تخسر ذخيرتها من الأمل والحلم بعد أن خسرت أخصب أراضيها في معركتها مع غول البلس.. بني مديهن.. بلاد مترامية الأطراف.. تهبط عليها أنظار الواقفين على قمم صعفان ومدول.. وترنو إليها عيون الصاعدين من رمال التهائم.. حيث تبدو جبالاً شاهقة يصعب الوصول إلى قمتها إلا بشق الأنفس... سكانها مزارعون تختزن أرواحهم نقاء أهل التهائم وصبر أهل الجبال.. مواطنون صالحون بكل معنى الكلمة ،ولا أدل على صلاحهم وصرفهم لأوقاتهم في الخير من إهمال الدولة لهم وإغداقها عليهم خيرات الحرمان والإقصاء والتهميش.. الطريق إلى بني مديهن وعرة وعورة حياة الناس.. بل وعورة إحساس الدولة بهم.. طريق لا تحتملها السيارات التي تشعرك أنها وهي تسير فيها متقافزة متمايلة تهمس مرة وتزأر أخرى كأنها تتوجع.. فتسأل نفسك كيف عاش البشر هنا كل هذه الأزمنة.. وليس كل السيارات مستعدة لمنازلة هذه الطريق.. السيارات ذات الدبل مثل الشاصات والصوالين هي فقط التي باستطاعتها أن تمر من هنا.. تقع «بني مديهن» أو كما تسمى بعزلة الطرف في الجنوب الغربي لمديرية صعفان التابعة لمحافظة صنعاء.. وقد سميت بالطرف لأنها على الحدود مع محافظتين أخريتين هما الحديدة والمحويت.. والطريق إليها يمر عبر طريقين ،طريق من منطقة الدرجة على طريق صنعاء - الحديدة.. وطريق عبر منطقة عبال على طريق الحديدة - ذمار.. ومن هاتين المنطقتين يمكن مواصلة الطريق بالسيارة عبر خطين شديدي الصعوبة لوعورتهما، حيث إنهما يمران عبر هضاب وجبال والتواءات مهولة تلتف على منحدرات حادة ذات جلال مخيف.. كل ذلك في محيط من سلسلة جبلية زراعية جميلة تتموضع الحصون التاريخية العابقة بزخم الماضي وجلاله على قممها..وتتلوى الوديان بين أحشائها..صانعة مناظر جمالية تشهق لها الأرواح تضم عزلة الطرف (بني مديهن) عدداً من القرى المتناثرة كحبات اللؤلؤ.. تحمل أسماؤها (الرحبة، شامة، الموجر، الحوالي. المصباح) دلالات وجود إنساني اتسم بالكرم وسعة الصدر والذوق الجمالي في نفس الوقت..لكن الفقر المادي يجرح ما خلقته أرواح الناس وثقافتهم من جمال.. فالمنازل أغلبها قديمة.. قوام بنائها الأحجار على الطريقة التقليدية غير المسلحة، التي تجعلها معرضة للتهدم من أصغر هزة أرضية لا سمح الله.. على مدار التاريخ امتازت «بني مديهن» بكثرة المدرجات الزراعية الجميلة التي رغم خصوبتها لم تكن تزرع إلا في المواسم فقط.. وتبقى بعد ذلك طوال السنة كلها جرداء إلا من الأشجار.. حيث لا يتم الاستفادة منها حتى بعد أن عرف الناس في اليمن آلات الزراعة وأساليبها الحديثة منذ سبعينيات القرن العشرين وذلك لفقر أهل هذا المكان.. وعدم وجود الإمكانيات التي تجعلهم ينوعون الزراعة على مدار السنة.. بني مديهن موقع سياحي من الدرجة الأولى نظراً لما تحتويه من مواقع جذب غير عادية للسياحة بسبب تضاريسها ومناظرها الجمالية.. وعدم تلوثها بملوثات العصر.. والأهم من ذلك بسبب مواقعها التاريخية.. وعلى رأسه (حصن حماطة) وهو حصن يحتوي على 360 بركة على عدد أيام السنة.. تقول الحكايات في هذه العزلة إن هذا الحصن يعود إلى زمن الدولة المظفرية (نسبة إلى المظفر بن عمر بن رسول، ثاني سلاطين الدولة الرسولية.. والمتوفى سنة 694ه) ويوجد أيضاً في هذا الحصن قبة بنيت من الحجارة والقضاض منسوبة لأحد الأولياء الصالحين.. هو الشيخ حسن النهاري المقبور في داخلها..وبالمناسبة فإن آثار الأولياء والصلحاء والعلماء ومزاراتهم التاريخية تتناثر في كثير من أماكن وقرى بني مديهن. كما تمتلئ جبال بني مديهن بالأحواد (جمع حود) وهي عبارة عن كهوف ومغارات لا يزال ستار الظلام مسبلاً على دواخلها..وهذه كلها من أهم أسباب صلاحية هذه المنطقة ذات المناخ المعتدل لتكون مكاناً لجذب سياحي جدير بإنعاش حياة الناس وكسر عزلتهم.. الحياة في بني مديهن بدائية جداً.. لا تكاد تصدق صور تلك البدائية وأنت تعايشها في واقع الناس.. تشعر أنك تعيش حياة يصفها كتاب أُلِّف في القرن التاسع عشر. أرض معزولة عن العالم.. معزولة حتى عما يحيط بها.. لكأن الشقاء كتب عليها.. لكأنها محكوم عليها بالبطء في زمن السرعة..لا تدري كيف عايش الناس ادعاءات حكومات البلاد المتعاقبة عما تنجزه للمواطنين ثورة 26 سبتمبر 1962م.. تشفق على الناس الذين تجرعوا كذب الإذاعات والتلفزيونات (إن توفرت) على مدار خمسين سنة بشأن خيرات الثورة وخدماتها في التعليم والصحة، والزراعة، والصناعة، و السياحة، والحرف.. وتطوير الحياة في كل مناحيها؛ لأنك بمنتهى البساطة لا تجد شيئاً من هذه الخدمات في هذا الجزء من مديرية تنتمي إلى محافظة اسمها صنعاء –أي إلى مركز اليمن- وهذا من العجائب.. حوالي (25) قرية .. إضافة إلى مجموعة البيوت المتناثرة هنا وهناك..يعيش سكانها محرومين من خدمات الدولة رغم أدائهم كل الواجبات التي عليهم.. مع ذلك فهم مجتمع ظل دائماً يعيش في المكان ويتعايش معه عبر الأزمنة متكئاً على تاريخ باذخ من الزهد وحكمة الأجداد.. وثراء الأرواح المؤمنة.. ولكن كما يقال: (قليل البخت يلاقي العظم في الكرشة) والكرشة في بني مديهن هي الأرض الخصبة التي تتغذى بغيث السماء الساقط عليها مطراً وسيولاً.. تتدفق من شواهق الحيود.. التي لا تبخل على الحراير (جمع حرة: قطع الأرض) في السفوح..وعبر أزمنة طويلة ترنحت قمم الجبال العالية في بني مديهن بروائح الكاذي والأزاب والوضري والحبق والرند والشمطري والخزام والشذاب التي تلاعب النسائم أغصانها الطرية على جوانب الجبال وشواجب الحراير قبل أن تُقطف لتدير رؤوس الرجال بعد انتظامها على شواجب النواعس الحسان... تتخلل النباتات العطرية في بني مديهن الأرض الزراعية (الحراير) في ألفة أبدية مع أنواع الذرة من دخن وزعر وشاحبي وبجيدة.. وما يزرع معها مثل: الدجرة والكشد والقطن (بكسر القاف نبات ثماره تشبه الدجرة ولكن حجمها أصغر) وفواكه الموز وعنبا الفلفل.. والخضروات مثل الطماطم والفجل..والملوخيا..ظلت بني مديهن لآماد طويلة تمارس زراعة هذه الأصناف التي كانت عماد حياتها.. ومصدر زرقها الذي لا تطلب بديلاً عنه في أماكن أخرى إلا عند الضرورة في سنوات القحط والجفاف.. ولكن أرض بني مديهن (الكرشة) الزراعية المشهورة بخصوبتها دخلها عظم ضاعف كثيراً من صعوبة حياة الناس.. وضاعف أكثر من إحساسهم بإهمال الدولة لهم.. رويداً.. رويداً وكما يحدث في أفلام الرعب الأمريكية بدأت نباتات البلس تظهر على جوانب الطرقات.. لم يكن ذلك مفرحاً للناس.. فهذا النوع من البلس الكثيف الشوك.. ذي الثمرة الحمراء ليست له أي جدوى اقتصادية، لأن هذه الثمرة ببساطة لا تؤكل.. غير أنهم نظروا إليها بقدر من التساهل.. سببه الأساسي عدم وجود عناية مؤسسية من قبل الدولة تتولى توعية الناس بخطر آفة كهذه على مستقبل أرضهم الزراعية.. كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي.. ولكن ذلك النبات الشيطاني المخاتل راح ينمو يوماً بعد يوم.. وتتسع مساحاته سنة بعد سنة..وكثعابين الغابات الاستوائية المتوحشة راح يلتف بجسده الضخم على حواف الجبال وحدود القرى قبل أن يكشر عن أنيابه فارشاً على الحراير الزراعية الخصبة ومتوغلاً داخل القرى وفي ساحات البيوت خانقاً أهم مصادر الرزق. فيما هو يعبث بصورة المكان ويقتل أهم وجوه جماله المتمثلة في أشجار الطنب والقوع والنشم والحمر والضباه والسدر والدفران.. وبينها مفردات الروعة التي تخلقها النباتات العطرية المشار إليها سابقاً.. بعد عقود من تغول وحش البلس في أرض بني مديهن استيقظ أهلها مذهولين.. وكأن كابوساً كان يطبق على صدورهم..يثقل حركتهم.. ويمنع ألسنتهم من الصراخ..