حين تبوح الفنون بأسرارها، واللغات بآدابها، والحروف بأفلاكها، تدور حول قطبها مختلف النجوم، وتنبع من معينها ينابيع العيون، فيتسابقون لكشف هذه الأسرار، ويقطفون منها شتى الثمار ومختلف الأزهار، ويستضيئون بلوامع الأنوار، وكل في مجاله أستاذ. ما نظَّر له علماء اللسانيات عرباً وأجانب، وما أنكبّ على تصنيفاتهم الدارسون من كل جانب، صنف من هذه الأصناف، وما استقام على أيديهم من نحو وظيفي، وتوليدي، وأسلوبي، وعلم دلالة، لم يكن القرآن بمعزل عنه جميعاً، ولو غاص الباحث في دراسة مستقصاة لكل فن لوجد العجب العُجاب. نعم، بذل علماء اللغة المسلمون والعرب جهداً جهيداً في خدمة كتاب الله العزيز، واكتشاف غوامضه المنطقية تحت هذه الأصوات المحدودة، ولا يزال قاصر الأداة، ركيك البنية، لقد اهتموا بالمعاجم اللغوية أكثر من اهتمامهم بالمعجم القرآني، ولم يسلم لهم أحدٌ بالتنظير اللغوي فمجموع ما أثر عنهم آراء متفرقة هنا وهناك لم ترتق إلى مقام النظرية. وهم وإن كانوا وضعوا معاجم تدرس القرآن الكريم فهي معاجم في المفردات فقط والأمران سيان ولو أنهم صرفوا النظر إلى دراسة الظواهر، التي قطف ثمارها القرآن وقعدوا القواعد على ضوئها لأحاطوا بدراسة اللغة العربية من بابه، ولنهلوا نظرياتهم من عُبابه “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر” وبسبب أسلوبية القرآن تشعبت بهم الظنون، وتفرعت عندهم الفنون، فقد حاول علماء وضع تصور للإعجاز القرآني، من ناحية اللغة والبيان، وحاول آخرون دراسته من جهة العلوم الغيبية، وآخرون من جهة الحروف وآخرون من جهة الأعداد، وهلمَّ جرّا. علم الحروف والأعداد لو وجهناه أسلوباً ليس علماً منطقياً رياضياً صرفاً بقدر ما هو علم لغة، فما قام على اختلاف الأعداد المركبة في أسرار الجُمَّل والقيمة العددية إنما هو عائد إلى مستويات اللغة، وتجلِّيها، بما يتطابق ومقتضى الحال، فلما عزب عنهم هذا العلم من اللغة ظهر لهم مستوى آخر هو البعد العددي، هذا البعد يمكن أن نسلكه ضمن الرمزية الخطابية. تقوم أسلوبية القرآن على محورين أساسيين، هما قطبا المعرفة اللغوية وكلاهما يرتبطان ارتباطاً لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، وإلا فقد الأداة التي تقومه، ولاختل التركيب الأسلوبي الذي ينتظمه، وعليهما يدور محور بحثنا أسلوبية التركيب. وهي تلك الأصوات التي تنتظم لتؤلف دوال كلية بحسب ما يقتضي الحال غير منفصلة عن دلالتها الأصلية. والأسلوب التركيبي أضرب شتى، معظمها أدرجة علماؤنا في علم البلاغة، كأسلوب التقديم والتأخير، والشرط والضمير والإنشاء.. إلخ. ولنا إدراجها تحت هذا الضرب ودراستها ما أمكن. وإذا اختلفت المواضع الواردة فهي على مستويات متفاوتة والتركيب الحرفي غير التركيب البنائي فهذان ضربان. وهذه المستويات تفوق ميزان المعجم البدوي البسيط، وهو أساس التحدي فهم لو جاءوا بمثله صوتاً وصورة ومعنى فإنه لا يتجاوز مخيلة الطفل الذي لم يبلغ الحلم بعد، وإليه نسبة القصور والعجز عن إتمام المقصود منه. والناظر لأول وهلة يحار في أسلوبه، فيدعي إما التكرار وإما الاختلاف والحائر تزل قدمه في الجمع بين أوابد المعاني، وشوارد الأفكار، فتلتبس عنده الأمور، ويتكل على القصور، ولو تفحص الأسوار وترقب مدلولات النظام لتبينت له مقامات الخطاب، ومستويات التنزيل، حسب النمط السياقي الذي جاءت على نظامه الدوال الصوتية. فمثلاً في الخطاب القرآني، الجنة، جنة النعيم، جنات عدن، الذين آمنوا، المؤمنون، الكفار، الكافرون، الذين كفروا، اليهود، الذين هادوا، قوم، أمة، قرية، مدينة، رسول.. إلخ.. فإما أن نجعلها مترادفات والمعنى واحد، وهو عين الجهل والقصور، والعجز، وإما أن نجعلها تكراراً، وهو عين الخلود إلى الأرض، وإما أن نرجعها إلى معنى اللفظة في المعجم البدوي وهو عين التجريد والتقييد، وكل ذلك تبرأ منه اللفظ القرآني، وإن تقيد به اللفظ المعجمي فهو ناقص الدلالة، ولم يبق إلا جعل ما ورد في الخطاب المختلف مستويات لغوية كل منها غير الأخر مع اشتراك بسيط في المعنى وهو عين الإدراك. أسلوبية التأويل وهي الصيغة التأويلية التي تقدمت أو تأخرت عن مستوى التركيب كقرينة لا يمكن التوصل إليها إلا بها، غير مجردة عن السياق ولما جرد علماء التفسير المفردة عن جناحيها، كانت بمثابة الطائر الكسيح، أينما توجهه لا يأتي بخير، وعليه أقاموا الأحكام والحدود، ونظروا للشرائع والأصول فظلت فاقدة الجناح.