براءة القرية تساوي براءة الطفولة، تلك هي القرية التي ببراءتها وسماحتها، وجوهها، ومائها، ورعاتها، وجهيشها، شياهها وزريبتها ووديانها وأنهارها يتمناها ويحن إليها كل من اغترب عنها وهاجر هجرة داخلية إلى المدينة، أو هجرة خارجية إلى خارج الوطن. “رحلتي في قريتي جنتي في دنيتي” حقاً أن القرية جنتي في الدنيا، جوها الهادئ والدافئ والنقي يبعث الراحة والهواجس، ويفتح ملف الشعور والأحاسيس، ينبثق منها الشعر ويأتي بكل عفوية وسهولة وصدق. رُعاتها بين الجداول والحقول يلفهم الشلال ويجري أمامهم الجدول كلحن رشيق، تزغرد مع شُبابتهم كل العصافير، وتسجع من أعذب الألحان وتحت ظلال السدر والنخيل يجتمع الأحباب ويجمعون معهم عيدان الحطب ويقطفون جهيش منهم من يخضب، أي يأكل الغرب مباشرة من على النار ومنهم من ينُسل ويأتي الماء لتجد له لذة ما تعرفها، وهناك حكاية لرجل مزوج امرأتين فقال للأولى : أحبك محبة الماء بعد الجهيش. وقال للأخرى: أحبك محبة الماء بعد العسل. فذهبت الأولى زعلانة إلى بيت أهلها، فذهب ليردها إلى بيته وحكى لأهلها الحكاية فضحكوا عليها وقالوا لها جربي شرب الماء بعد الجهيش، وجربي شرب الماء بعد العسل. فجربت ووجدت أنه بعد الجهيش ألذ وأشهى، فقالوا لها : عودي إلى بيت زوجك. لنعود إلى ظل السدر والنخيل وما أجملها من ظل! ويزيد جمالاً إذا التقى تحتهما المحبون، وهم يتبادلون زهور الربيع في ربيع عمرهم من هناك يأتي شيطان الشعر ليقول بلساني: في ربيع العمر أحببتك وفي فصل الربيع في حنايا القلب أحبيتك عن أعيان الجميع في بحور الشعر ظميتك وفي البحر السريع تحت ظل السدر ذكرانا ولا يمكن يضيع بين حقل الزرع غنينا بألحان الوديع كنت لي قصر جميل وأنا سور منيع وما أن تتواكب السحائب محملة بالأمطار، وتحوم الغيوم كالجبال وتزداد الأرض رونقاً وجمال يبدأ الهثيم محملاً بالعطر والدلال ينعش الأرواح، ويطرد الأتراح، هناك تجد كل الرعاة يُنادون الكنان الكنان، أي جلبوا وعودوا إلى بيوتكم أنتم ومواشيكم. في ذلك الحين يأتي شيطان الشعر ليقول: أذكريني كلما هبت رياحٌ للمطر أذكريني في ربيع في جماد في صفر أمنحيني قبلةً يا أحيلات البشر وأرسليها علها تصطدف وقت القدر أذكري دهراً مضى بل تولى واندثر كنت فيها تخبريني يا حياتي والبصر كم شربت الهم كأساً ثانياً ثالث عشر كم ليالينا ظلام عندما غاب القمر بعد انتهاء المطر انظر لتلك الشلالات والسوائل من أعالي الجبال وهضبات التلال تشعر بسعادةٍ غامرة لا تعلوها سعادة، يجن الليل وأنت تتمنى متى سينتهي وسيأتي الصباح الباكر لتذهب ترعى المواشي مع الأصدقاء والأحباب، ليس أي أصدقاء أنهم أصدقاء وأحباب الطفولة. تذهب إلى الجبل وإذا بالأحواض الصغيرة التي تسمى في القرى “بالجراجر” تلك الجراجر قد مُلئت بالماء العذب الصافي، الذي كُنا نشرب منه ثم نغتسل والفرح والسعادة قد سكنا جوانحنا. هذا في نهار اليوم. يأتي الليل مصحوباً في بعض الليالي بالقمر المتوج بالأُنس والطرب والمُسامرة، وهناك الأهازيج الخاصة به مثل والله لطبع الطبعة لما يطلعوا السبعة والطبعة لعبة. والسبعة نجوم تظهر قريب الفجر كما كنا صفاً واحداً نجول بين أزقة القرية مرددين : يا مساء أسعد الله المساء، يا مساء جيت أمسي عندكم، يامساء جدد الله الكسا وفي هلال شعبان نقول : وأقمر شعبان وارميضاني. ثم نردد بأعلى صوت : مرحب مرحب يا رمضان، شهر التوبة والغفران. يا شهر محمد عليك السلام، تروح وترجع يا رمضان ثم توقد النار والفوانيس التي اتخذت عادة ولا تزال إلى اليوم في أغلب البلدان العربية. أما إذا جلست مع الأجداد واستمعت إلى أدبهم الدفين الذي لم نعرفه في كتب الأدب ستجدهم يقولون: نشرت أن شِعبة البير أقحز لثوري عفرس لقيت بنية دقيقة أدق من شعرة الرأس قلت له من تكوني قالت بنت عاقل وحباس يحبس الرجلين ويضرب الراس لو أنت مُرادك بالحلال وجب ما وجبوا الناس وإن كان مرادك بالحرام افتح زريبة وادهس أول ساعة من الليل بين الكعوب والتلخساس ثاني ساعة من الليل ادعس رقاب مثل الأحناش ثالث ساعة من الليل إعمل ما يعملوا الناس رابع ساعة من الليل ودعت بك خالق الناس اقحز: أقطع عفرس:حشيش ادهس: أمشي ادعس :اسم النعال الاحناش: الثعبان. يتبع